ينبهنا رولان بارت إلى أن المفهوم الذي نتداوله عن الفراغ من حيث هو غياب، مفهوم “أقرب إلى التصور الكيميائي”، وهو يدعونا أن نشتق مفهومنا عن الفراغ من الفيزياء الحديثة التي ترى “أن الجزيئات الموجودة في الكون ليست متولدة عن جزيئات أبسط منها، بل إنها تمثل ما آل إليه تبادل التأثير فيما بينها في لحظة بعينها (بحيث يصبح العالم منظومة من الاختلافات لا تنفك عن أن تكون مؤقتة)، وبعبارة أخرى فإن مجموع الجزيئات ينشأ بفعل التوالد الذاتي”.
والفراغ بالضبط هو هذا التوالد الذاتي، إنه ما يجعل منظومة الاختلافات لا تنفك عن أن تكون مؤقتة، ما يجعلها “نشأة مستأنفة”، ما يضمن انفصالها المستمر، وتفككها المتواتر، وتعددها الدائم. ما يجعلها تتبدل وتتجدد دون انقطاع. الفراغ هو التّوالد والتجدد والاغتراب.
حينما نحدّد عمل الفكر بأنه إقحام الاختلاف فيما يبدو متطابقا، وإحداث الانفصال في ما يبدو متصلا، وزرع التناقض فيما يبدو منسجما، والريبة في ما يبدو يقينا، والتعدد فيما يبدو موحّدا، والغرابة في ما يبدو مألوفا...فإننا لا نعني غير هذا، لا نعني إلا أن مهمته بالضبط هي أن يبيّن “أن منظومة الاختلافات منظومة مؤقتة”، ويكشف عن هشاشتها إن هي تصلبت وتجمدت، وعن طراوتها إن هي أصبحت اجترارا ورتابة، وعن جدتها وحداثتها إن هي غدت تقليدا وتراثا، وعن تعددها و ثرائها إن هي غدت وحدة وفقرا...عمل الفكر إذن هو أن يعمل على بعث الفراغات ضد كل امتلاء.