العقلانية بناء وهدم، صلح وخصام، حوار وجدل، تحوّل وتحويل، نظر وعمل، شكل ومحتوى، مبنى ومعنى، معرفة وصناعة، علم وتقنية.
العقلانية خفض لتوتّر، لكنها وليدة توتّرات. إنها حلّ لأزمة، لكنها بنت أزمات.
هي وحدة وائتلاف، لكنها لا تعيش إلا على التعدد والاختلاف. إنها تنشد الحقيقة، لكنها مهووسة برصد الأخطاء.
تتوخى الصرامة والدقة، لكنها ترفض التعصّب والتشنّج. تعمل حسب قواعد وتقنيات، لكنها لا تأتمر بأمر.
هي سليلة الانفتاح: الانفتاح على الآخر، والتفتح على المستقبل، وعلى الأسئلة جميعها.
عدوّها الأساس هو ما يوقف: ما يوقف مد السؤال، ما يقف حجرة عثرة بيني وبين الآخر، ما يسد أبواب المستقبل، ما يوقف الجدال باسم قوة تتجاوز آليات الجدال، وباسم سلطة ليست هي سلطة العقل.
لكن سلطة العقل هاته ليست محكمة عليا، و كيانا متعاليا بعيدا عن عملية الجدال ذاتها يملي عليها القواعد، و يسن لها الطرق. إنها على العكس من ذلك محايثة لذلك الجدال، بل إنها لا تنمو إلا في ثناياه.
العقل يبني ذاته و يحوّلها عندما يصنع الأدوات التقنية التي يعقل عن طريقها العالم الطبيعي، و يدبّر بواسطتها الشأن البشري. العقل تقنيات ذهنية تختص بها ميادين معينة للتجربة والمعرفة. إنه قدرة على القيام بعمليات تبعا لقواعد. هذه القواعد والتقنيات تتحول بدلالة الموضوعات التي تنصب عليها، و اللغة التي تستعملها. و هي تتوقف على مستوى تطور التقنو-علم، وترتبط بالتاريخ الاجتماعي والسياسي .
كأن العقل إذن لا ينمو إلا في حضن العقلانيات. و لا إمكان لعزل أشكال العقلانية عن أدوات العقل و تقنياته، والموضوعات التي ينصب عليها، واللغة التي يستخدمها، والمقاومات التي يصارعها، والأخطاء التي يحاربها، والحواجز التي يخرقها