موجة الديمقراطية التي إجتاحت منذ انهيار المنظومة الاشتراكية قادت إلى أن تتحوّل إلى هدف وحيد و مقياس عام، وزاوية نظر إلى كل شيء من السلطة إلى الأحزاب، وأيضاً إلى الحركة الأصولية. مَنْ يقترب منها فهو مقبول ومرحَّب به، ومتساوق مع متطلبات العصر، ومَنْ يكسر “توحيدها” (أو وحدانيتها) بالإشارة إلى مسائل أخرى ومَطالب غيرها، يستحقّ “الحُرُم الكنسي”. فالديمقراطية مطلب وحيد لا يجوز أن يُشرك به أحد.
هذه النظرة تضع المسألة في إطار حدّين مطلقين، حيث يجرَّد الإستبداد الذي هو الواقع القائم، إلى مطلق. يُعزل عن كلّ أسسه وأسباب نشوئه والظروف التي سمحت بهذا النشوء، والهدف منه، وماذا يخفي؟ وبالتالي تُطرح الديمقراطية في السياق ذاته، المجرَّد والمطلق، والخالي من أيّ تحديد واقعيٍّ يتعلّق بالبشر، سوى الفكرة الرومانسية للديمقراطية، “المثال الديمقراطي”، دون محدِّدات الواقع، وكذلك دون محدِّداتها هي بالذات، خصوصاً مبدأ المواطنة، والحقّ النقابي، وحقوق العمال والطبقات الشعبية، ودور المرأة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً العلمنة. لتنحصر في “شكل السلطة”، وخصوصاً في التعددية الحزبية وحقّ الانتخاب وحرّية الصحافة. وبالتالي لتبدو وكأنها مسألة تداول السلطة فقط بين الأحزاب، بغضّ النظر عن برامج هذه الأحزاب، والموقف من هذه البرامج، والصراع بين الخيارات في رؤية المشكلات والواقع والمستقبل.
أيّ أن الديمقراطية هنا التي تُقزّم إلى النشاط السياسي، أو تُحصر في إطار النشاط السياسي، لا تتحدَّد في مبادئ وأسس أوّلية ضرورية لوجودها، مثل مبدأ المواطنة والعلمنة وأن الشعب هو مصدر السلطات، والحقّ في النشاط النقابي. بل تبقى “فكرة عامة”، وتجريداً عمومياً، وبالتالي لا تتبلور في صيغة واقعية ممكنة التحقُّق. مما يجعلها تبدو وكأنها ضد السلطة فقط، أيّ سلب السلطة دون تحديد سلطة بديلة. دون تحديد شكل نظام ديمقراطيّ جديد.
الأمر الذي يقود إلى نشوء ديمقراطية “مسخ” ككل “الديمقراطيات” التي نشأت منذ ثمانينات القرن العشرين في مصر والمغرب والأردن وتونس. والتي قادت في مصر بعد ربع قرن إلى أن تعود المطالبة بالديمقراطية كمسألة مركزية، نتيجة التوصّل إلى أن ما هو قائم في الواقع ليس ديمقراطية، وإنْ كان يسمح للفئة المثقّفة وللنخبة السياسية التعبير عن آرائها ومواقفها، حتى الرافضة للنظام منها. لكن دون سماح بالتفاعل مع الحركة المجتمعية التي هي قاعدة كلّ ديمقراطية، وأساس فِعل أيَّ حزب سياسي. ولهذا يُحتكر العمل النقابي من قِبل السلطة، خصوصاً في القطاعات المجتمعية الحساسة مثل العمال والطلبة والفلاحين. وكذلك يُحدّ من حقّ التظاهر والإضراب بربطه بوزارة الداخلية التي لا تسمح بممارسة أيّ إحتجاج، إلا في إطار مضبوط.
وأيضاً يُمنع التواصل بين الأحزاب السياسية وقاعدتها الاجتماعية عبر قوانين تحرِّم ذلك، وتجرّم كلّ سياسيٍّ حاول التعرّف على مشكلات الطبقات الشعبية أو شارك في إحتجاجاتها أو حرّضها على الإحتجاج. الأمر الذي يوجد هوّة بين الأحزاب وقاعدتها الشعبية. ولما كانت هذه الأحزاب غير قادرة على التواصل الإعلامي، ولما كانت السلطة تحتكر الإعلام كلّه، فإن هذه الطبقات لا ترى ولا تسمع سوى صوت السلطة. مما يجعل الإنتخابات خاسرة مسبقاً بالنسبة للأحزاب، فتتمكن السلطة من إعادة إنتاج ذاتها “ديمقراطياً” (وبمساعدة التزوير كذلك).
لتبقى السلطة ماسكة مفاصل “اللعبة السياسية”. فمن جهة تسمح بالنقد والمعارضة لفئة مسيّسة، ومن جهة أخرى تضبط هي وحدها الحركة المجتمعية، مبقية المعارضة بلا جذور شعبية، ومظهرة أنها لا تمتلك تلك الجذور عبر الإنتخاب “الحرّ”.
هذا هو الشكل “الديمقراطي” الممكن، في إطار هيمنة فئات رأسمالية كمبرادورية ومافياوية. تميل إلى النهب عبر النشاط الإقتصادي غير المنتج، وتتشابك مع الرأسمال الإمبريالي. وبالتالي تميل إلى أن تُمسك بالسلطة دون أن يتبلور أيّ بديل، حتى وإن كان متشابها، فهي تريد ذاتها فقط. ولاشكّ في أن المطالبة بـ “ديمقراطية” مجرّدة لا وضوح في أسسها، لا يقود في الحدّ الأقصى إلا إلى هذا الشكل منها، “ديمقراطية” شكلية تشير إلى وجود معارضة دون أن تُمكِّن المعارضة من أن تتحوّل إلى قوّة، وذلك عبْر آليات “ديمقراطية” تهمّش المعارضة كما أشرنا للتو.
ولأن الديمقراطية المتداولة “مجرّدة”، سنلمس أن الداعين إليها ليسوا معنيين بتأسيس قوّة إجتماعية حقيقية، عبْر تفعيل دور الطبقات الشعبية، ودفعها إلى المطالبة بحقوقها المطلبية البسيطة. على العكس من ذلك تصبح الطبقات ومطالبها من المسائل المرذولة، ومن بقايا العقائد السالفة. من مخلّفات سطوة الأيديولوجيا، التي باتت من الماضي، والتي يجب أن تُرجم لأنها سبب كلّ الإنهيارات والمآسي التي حلّت في السنوات الخوالي. كما لأن الإشارة إلى مطالب كلّ هؤلاء يعني أن نُشرك بالديمقراطية، فنجعل لها أخاً، بينما هي متوّجة على عرش الوحدانية دون منازع.
لكن كيف يمكن أن تتحقَّق الديمقراطية دون قاعدة إجتماعية؟ هل أن الطيف السياسي كلّه، الذي هو هامش صغير في الإطار المجتمعي، قادر على تحقيق الديمقراطية؟ أم أن تحقيقها هو من مهمة السلطة ذاتها، التي تُحمّل عن حقّ كل الأوصاف التي يقول بها دعاة الديمقراطية؟ وهل تحقِّق سلطة شمولية إستبدادية ديمقراطية “مثالية”، تقود إلى تداول السلطة سلمياً؟ أم تحقِّق ديمقراطية شكلية هي تلك التي أشرت إليها للتو؟ إن عدم المراهنة على الطبقات الشعبية يفرض المراهنة على السلطة ذاتها أو على قوّة خارجية. وهذا ما يسكن وعي كلّ الذين يطرحون الديمقراطية “حاف” (أي مجرَّدة). ولهذا يمكن أن يفيدهم التغيير المتحقِّق، سواء بفعل السلطة أو بفعل الخارج، لكنه لا يؤسِّس الديمقراطية.
فالديمقراطية الحقّة بحاجة إلى قوى فعلية تحقِّقها، قوى ديمقراطية حقاً. كما هي بحاجة إلى ميزان قوى واقعي يسمح بتحقيقها. أما المراهنة على “عطاءات” السلطة، أو على مخلّص يحمل رسالة تقوم على نشر الحرّية والديمقراطية بالقوّة، فلن يفضي إلى بناء نظام ديمقراطي. لهذا بات تحقيق الديمقراطية من مهمات قوى جديدة، هي ليست القوى الليبرالية التي طالما حملتها في العالم الرأسمالي، بل هي القوى الشعبية المعنية بتحسين ظروف معيشتها وعملها ونشاطها، والمعنية بالرقابة على الدولة التي سيقع عليها واجب تطوير الإقتصاد وتحسين ظروف الطبقات الشعبية. وبالتالي فإنها مرتبطة بحزمة أهداف، لا يمكن الفصل فيما بينها: من التطوير الإقتصادي، إلى تحسين الوضع المعيشي، إلى الحداثة والعلمنة والديمقراطية، إلى الاستقلال الوطني والتعامل المتكافئ مع العالم.
أيّ أنها جزء ضروريّ في مشروع مجتمعي، لا يمكن أن تتحقّق بدونه. والديمقراطية، إضافة إلى كونها طريقة التعامل بين قوى، هي آليات النظام السياسيّ التي يسعى لتحقيق كلّ المهمات الأخرى، في إطار قوى متناقضة أو مختلفة. بمعنى أنها شكل النظام السياسي الذي يستوعب كلّ تلك التناقضات ويضمن تداول السلطة، ويحقِّق كذلك كلّ المهمات الأخرى: مهمات التطوّر ومستوى معيشة الشعب والاستقلال الوطني والتكافؤ في العلاقات الإقتصادية والسياسية العالمية، وكذلك تحديث التعليم وتحقيق الحداثة المجتمعية والعلمنة. وأيضاً يستوعب كلّ التناقضات المجتمعية.
ولاشكّ في أن “الديمقراطية” التي تحقّق مصالح الرأسمالية وتؤمّن نهبها، وتضمن ضبط الحراك الإجتماعي، وتعيد إنتاج السلطة ذاتها، هي تلك الممارسة في مصر والأردن والمغرب. وهي التي تضمن سيطرة الفئات التي تنهب وتضطهد وتسحق الطبقات الشعبية، ولا تسمح بتداول السلطة لأنها لا تسمح بتأسيس أحزاب حقيقية فاعلة ولها قاعدة شعبية. لكنها تعطي المثقّفين و الساسة حرّية “الزعيق” و“الإعتراض” و“الفضح” في صحف لا توزِّع أكثر من عدد أعضاء الأحزاب ذاتها. والتي تؤسِّس لفصل عميق بين تلك الأحزاب والطبقات الشعبية، هو جزء من “الديمقراطية” ذاتها، وهو ما يرد في قانون تشكيل الأحزاب.
الديمقراطية إذن، ليست “حلماً” مجرَّداً، إنها هدف في إطار مشروع شامل، تُحقِّقها الطبقات الشعبية في إطار سعيها لبلورة مجتمع آخر.