أعتقد شخصيا أن أهمية باحث كأركون تعود إلى أنه طرح الأسئلة الجوهرية الراديكالية على التراث العربي الإسلامي . ولهذا السبب ارتبطت بهذا الفكر على مدار السنوات وحاولت فهمه أولا قبل أن أفكر بترجمته إلى العربية. كل ما عدا ذلك من تفاصيل ثانوية أو شهرة أو أمجاد شخصية لا يعنيني أمره في شيء. أما فيما يخص التعرية الأركيولوجية أو الجيولوجية لتراث الإسلام منذ بداياته الأولى وحتى اليوم فإنه يعنيني وبالدرجة الأولى. ولو وجدت هذا الفكر عند باحث صيني أو ياباني أو من أي جنسية أخرى لاتبعته. فما بالك إذا كان صادرا عن مفكر جزائري كبير؟ فأنا أبحث عن حل أو خلاص في هذه الظروف المدلهمة.أنا أنطلق في كل دراساتي وبحوثي من المسلمة التالية: نحن بحاجة إلى تحرير فكري لم يسبق له مثيل في التاريخ. نحن على مفترق طرق. نحن في مهب الريح.. وربما نكون قد دخلنا في متاهة، في داهية دهياء لها أول وليس لها أخر. فنهاية النفق المظلم لا تزال بعيدة والفجر ليس غدا..والعالم العربي والإسلامي ككل لن يخرج من المغطس الذي يتخبط فيه حاليا إلا بعد دفع الثمن الباهظ.
من الذي طرح مشكلة الوحي بشكل تاريخي وأنثربولوجي مقارن يشمل جميع الأديان التوحيدية وحررنا بذلك من رهبة النصوص المقدسة إن لم يكن إرهابها؟ من الذي طرح مشكلة العلاقة بين الوحي والحقيقة والتاريخ من خلال أعمال الغزالي؟ من الذي درس مسألة العلاقة بين الوحي والحقيقة والعنف بشكل جديد كليا من خلال تحليله لسورة التوبة أو سواها؟ فكل الأديان وكل أنواع المقدسات استخدمت في لحظة ما من لحظات التاريخ لتبرير العنف أو لخلع المشروعية الإلهية عليه. من هنا جرأة الجهاديين على القتل والذبح وارتكاب التفجيرات والمجازر الجماعية. فمن يعتقد بانه يمتلك الحقيقة المقدسة المطلقة المتعالية يحق له أن يقتلك بل ومن واجبه أن يقتلك لأنك تقف خارج هذه الحقيقة بمجرد انتمائك إلى دين آخر أو حتى عدم انتمائك إلى أي دين أو مذهب. انك كافر في نظره وبالتالي فحياتك كلها لا تساوي حشرة أو بهيمة. وإذن فالمسألة ليست محصورة بالإسلام فقط وان كان هو الذي يشغل العالم حاليا. انظروا الى ما فعلته المسيحية عندما كانت لا تزال أصولية متعصبة أيام الحروب الصليبية أو محاكم التفتيش أو الحروب الأهلية الطائفية الكاثوليكية البروتستانتية. ولا أقول ذلك لتبرير ما يحصل حاليا وإنما من اجل المقارنة والفهم والنظر.
وأركون يدعونا دائما للمقارنة لكي نفهم. إنه يقارن دائما بين الانظمة اللاهوتية الثلاثة، اليهودية فالمسيحية فالإسلامية، ويكشف عن أن آلياتها في النبذ والاستبعاد تبقى واحدة على الرغم من اختلاف مضامينها وعقائدها وطقوسها. إنه يدعونا للخروج من الجدران الضيقة لتراثاتنا الخاصة التي ولدنا فيها أو تربينا عليها لكي نتعرف على تراثات أخرى ونفهم الظاهرة الدينية من أوسع أبوابها.. إنه يدعونا لتوسيع عقولنا ولو قليلا لكي نخرج من طوائفنا ومذاهبنا ونتنفس الهواء الطلق في الخارج. من الذي سلط أضواء العلوم الإنسانية والاجتماعية على النص المؤسس للإسلام فأضاءه بشكل لم يسبق له مثيل من قبل؟ وكان ذلك من خلال كتابه: قراءات في القرآن، حيث قدم برنامجا كاملا لتجديد الدراسات القرآنية وربطها بحركة العلم والعصر. وقد استفاد مما حصل للتوراة والإنجيل من نقد تاريخي مضيء على يد علماء أوروبا.
أنظر بشكل خاص تحليله الرائع لسورة أهل الكهف حيث ربطها ليس فقط بالأديان التوحيدية السابقة على الإسلام كاليهودية والمسيحية، وإنما أيضا بأديان الشرق الأوسط القديمة السابقة على الأديان التوحيدية بكثير. فالعهد القديم مثلا، أي التوراة، استفاد كثيرا من حكايات وادي الرافدين والقصص الحثية والأناضولية والأوغارتية والكنعانية والمصرية. هذا في حين أن القرآن عكس ذلك بشكل غير مباشر من خلال التأثر بالتوراة والإنجيل. ولكن عظمة القرآن تتجاوز النقل الحرفي والتأثر المباشر على عكس ما يزعم بعض المستشرقين.. فقد صهر كل العناصر السابقة وقدم تركيبة عبقرية جديدة. هذا ما برهن عليه أركون من خلال أبحاثه الريادية. وبالتالي فهو لم ينقص من عظمة التراث الإسلامي أو القرآني، على العكس.
وهكذا تضاء الأمور من جذورها، من أعماقها، من أعماق أعماقها.. على هذا النحو يكون التحرير الفكري أو لا يكون. من الذي كتب نقد العقل الإسلامي وليس العقل العربي لان المشكلة الأساسية في هذا العصر بالنسبة للعرب والمسلمين ككل هي العقل الديني أو كيفية التحرر من لاهوت القرون الوسطى ولا شيء آخر؟ المشكلة الأساسية هي في كيفية الانتقال من مرحلة العقل الديني إلى مرحلة العقل العلمي أو العلماني الفلسفي. فالعرب لم يتجاوزوا بعد المرحلة اللاهوتية القروسطية من مراحل التطور إذا ما استعرنا مصطلحات أوغست كونت في نظريته عن المراحل الثلاث من التطور البشري.
المشكلة الأساسية هي: كيف يمكن تعزيل التراث من أوله إلى آخره لكيلا يظل عالة علينا، عبئا على كاهلنا، لكيلا يعرقل إلى الأبد تقدمنا، انطلاقتنا، نهضتنا. فنحن سجناء أنفسنا شئنا أم أبينا..المشكلة الأساسية تكمن في كيفية تفكيك كل الرواسب التراثية والطائفية: أي كل اليقينيات المطلقة التي لا يتجرأ أحد على مساءلتها مجرد مساءلة حتى ولو خلعت المشروعية الإلهية على التفجيرات العمياء وقتلت آلاف البشر في الداخل والخارج على حد سواء.
المشكلة الأساسية تكمن في كيفية توليد لاهوت ليبرالي تحرري قادر على مواجهة هذا اللاهوت الظلامي الذي يتحكم برقابنا منذ ألف سنة على الأقل. وبالتالي فأركون لا يريد القضاء على الدين وإنما توليد فهم آخر، حر ومتسامح للدين. من الذي ساعدنا على ذلك وقام بأكبر عملية تعزيل داخلية لتراث الإسلام المتراكم الجبار؟ من الذي فتح لنا آفاق الفكر الحديث على مصراعيها عندما عرفنا على أعظم مدرسة تاريخية في هذا العصر: أقصد مدرسة الحوليات الفرنسية؟ وعلى هذا النحو رحنا ننخرط في قراءة المؤلفات الكبرى للوسيان فيفر ومارك بلوخ وفيرنان بروديل وجورج دوبي وجاك لوغوف وعشرات غيرهم..على هذا النحو رحنا نفهم كيف تمت عملية تجديد الدراسات التاريخية أو نفضها من أساسها رأسا على عقب. وأركون ليس إلا سليل هذه المدرسة وتلميذها المباشر. ولهذا السبب برع في تطبيق المنهجية التقدمية التراجعية على التراث العربي الإسلامي. بمعنى أنه عرف كيف يسلط أضواء الحاضر على الماضي والماضي على الحاضر لكي يفهم الماضي والحاضر على حد سواء. فكل مشكلة في الحاضر لها جذور في الماضي ولا يمكن حلها إلا بالنبش عن جذورها تماما كما يفعل التحليل النفسي. لقد عرف أركون كيف يموضع كل ذلك ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ لكي تتضح الأمور وتنجلي على حقيقتها. وهو المصطلح الشهير الذي بلوره المؤرخ الكبير فيرنان بروديل.
هناك مشاكل لا تفهم إطلاقا إذا موضعناها ضمن منظور المدة القصيرة فقط أو حتى المتوسطة. لنضرب على ذلك مثلا محسوسا لكيلا يظل كلامنا تجريديا معلقا في الفراغ. لنطرح مشكلة الطائفية أو المذهبية التي تنخر الآن في أحشاء العراق وغير العراق من بلدان المشرق العربي بل وحتى أفغانستان والباكستان وكل مكان. كم هو هزيل كلام معظم المثقفين العرب عن هذا الموضوع الخطير الذي يهدد بلدانا بأسرها بالحروب الأهلية والمجازر والتقسيم. أكاد اخرج عن طوري عندما أقرأ مقالات الصحف عن الموضوع. فهم يتحدثون عنه وكأنه ولد البارحة في زمن صدام حسين أو سواه، أو كأن المسؤول عنه فقط هذا النظام أو ذاك. هذه نظرة سطحية جدا للأمور. ولا يمكن أن تحل مشكلة الطائفية بهذا الشكل. الطائفية أقدم من ذلك بكثير، من هنا صعوبة مواجهتها.
إنهم يموضعونها ضمن منظور المدة القصيرة للتاريخ كما يقول بروديل وبالتالي فلا يمكن أن يفهموها على حقيقتها. أما أركون فيموضعها ضمن منظور ألف سنة أو حتى أكثر عندما يكشف لك عن كيفية تشكل المذهب السني لأول مرة وكيفية تشكل المذهب الشيعي في مواجهته وكذلك بقية المذاهب الإسلامية الأخرى التي تصارعت بحد السيف على مفهوم الإسلام الصحيح باعتبار أن كل مذهب يدعي احتكاره لنفسه من بين الجميع. وهذا ما حصل في المسيحية أيضا بين المذهب الأرثوذكسي والمذهب الكاثوليكي ثم المذهب البروتستانتي بعد القرن السادس عشر..ثم يقلب أركون المنظور التقليدي الذي رسخته كتب الفرق أو الملل والنحل رأسا على عقب ويقول: لا يوجد شيء اسمه إسلام صحيح أو إسلام خاطئ. هذه أسطورة سالت من أجلها الدماء أنهارا..كل المذاهب هي عبارة عن إسلامات صحيحة من وجهة نظر أتباعها. والمؤرخ الحديث ينبغي أن يأخذ مسافة متساوية عنها بدون أي تحيز مسبق أو تمييز وإلا فسوف يقدم خطابا طائفيا مثله في ذلك مثل بقية البشر بدلا من أن يقدم خطابا تاريخيا علميا موضوعيا. كلها متفرعة عن الرسالة الأصل: أي القرآن الذي يحتمل عدة معان ودلالات كبقية الكتب الدينية الكبرى التي تستخدم لغة مجازية عالية في معظم الأحيان. وبالتالي فالحل لا يكون في التعصب للإسلام السني أو الشيعي كما يفعل الكثيرون حاليا وإنما في الخروج من التسنن والتشيع على حد سواء. الحل يكون في الخروج من الإسلام التقليدي كله جملة وتفصيلا. ولكننا لا نستطيع الخروج منه إلا إذا موضعنا الأمور على أرضية البحث التاريخي المحض وتحررنا من مسلمات اللاهوت السني والشيعي.
ولكن كيف يمكن أن نتحرر منها إذا كانت راسخة في أعماق وعينا منذ الطفولة كحقائق مطلقة لا تناقش ولا تمس؟ نحن جميعا أسرى السجون الطائفية المقدسة.. ولا فكاك منها إلا بتفكيكها علميا وتاريخيا وإبستمولوجيا. وهذا ما يفعله محمد أركون منذ نصف قرن تقريبا. منذ خمسين سنة وهو يحفر أركيولوجيا على العقائد الإسلامية الأكثر رسوخا وقداسة ويكشف عن تاريخيتها، عن بشريتها، عن كيفية احتكاك الوحي بالتاريخ لأول مرة.
من هنا الطابع الانقلابي أو الثوري الراديكالي لصاحب مشروع نقد العقل الإسلامي. ولكن بما أنه سابق لعصره فان أحدا لا يهتم به أو قل إنه لا يحظى بالاهتمام الكافي حتى الآن. يضاف إلى ذلك صعوبة فكره وتعقيده وامتلاؤه بالمصطلحات الجديدة لعلوم الإنسان والمجتمع. فلكي تفهمه ينبغي أن تفهم كل نظريات الفكر الحديث في مجال علم الألسنيات والسيميائيات وعلم الأديان المقارنة وعلم النفس التاريخي وعلم الأنثربولوجيا وعشرات العلوم والاختصاصات الأخرى.. ولكن وقته سيجيء.
لا أزال أذكر كيف ألقى محمد أركون محاضرة عصماء في السوربون كشف فيها عن مدى ضعف كتاب هشام جعيط “الفتنة الكبرى” قياسا إلى أبحاث كبير مستشرقي الالمان جوزيف فان ايس عن نفس الموضوع. فالباحث التونسي المعروف ظل تقليديا ولم يستطع زحزحة المشكلة عن أرضيتها القديمة قيد شعرة. أما الباحث الألماني الذي طبق المنهجية الفيلولوجية بكل تمكن واقتدار فقد أضاءها من كل الجوانب وقدم التشخيص الناجح والناجع. ومعلوم انه نشر كتابا ضخما عن كيفية تشكل الفرق والمذاهب في الإسلام. وبلغ ستة أجزاء مطولة. وهو مشروع عمره ورائعته الكبرى وقد اتخذ العنوان التالي: “اللاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة. تاريخ الفكر الديني في بدايات الاسلام”. من يريد أن يعرف كيف تشكلت الطائفية أو المذهبية لأول مرة في التاريخ ينبغي أن يعود إلى هذا الكتاب الذي لا يتوانى أركون عن تشبيهه بجبال الهمالايا بالنسبة للدراسات الاستشراقية والإسلامية ككل. انه قمة القمم. انه فتح فكري لا مثيل له. ويا ليت العرب يترجمونه لكي يعرفوا كيف يمكن الخروج من العصبيات الطائفية التي تفتك بهم فتكا ذريعا الآن. وقد سمعنا بان الفرس يترجمونه وكذلك الأتراك فهل سيكون العرب آخر من يعلم؟
كنت أتمنى لو استطيع أن أكتب كتابا عن هذه المنهجية وعن كل فكر أركون تحت العنوان التالي: الحفر الأركيولوجي في الأعماق. في الواقع ان كل مشروعه، مثل فان ايس، ما هو إلا عبارة عن عودة إلى الجذور الأولى لمعرفة كيف انبثقت العقائد الإسلامية لأول مرة. انه عبارة عن أرخنة شاملة لتراث الإسلام الذي يقدم نفسه وكأنه فوق التاريخ ككل التراثات الدينية المقدسة أو التي خلع عليها الزمن المتطاول حلة التقديس لاحقا. أنظر ما فعله فلاسفة أوروبا بالنسبة للمسيحية. أركون لا يفعل شيئا آخر. أركون ليس معجزة ولا أسطورة..انه باحث كبير، مقتدر، وكفى..
كل الحداثة بالمعنى النبيل والقوي للكلمة هي وليدة هذه الحركة التحريرية الهائلة التي كشفت عن تاريخية كل ما كان يقدم نفسه وكأنه مقدس، معصوم، يقف فوق التاريخ. هنا يكمن جوهر الحداثة ولبها.. لا حداثة بدون تعرية، بدون تفكيك لموروث الماضي. أنظر البحث عن يسوع التاريخي من لحم ودم فيما وراء المسيح الأسطوري الإلهي الذي يتعالى على التاريخ. وكذلك أنظر البحث عن القرآن التاريخي فيما وراء القرآن غير المخلوق، أو البحث عن محمد التاريخي فيما وراء محمد الأسطوري الذي شكلته كتب السيرة النبوية، أو علي التاريخي فيما وراء علي الأسطوري أو بقية الصحابة والأئمة.. وهذا لا يعني إطلاقا النيل من عظمة النبي أو علي أو الصحابة والأئمة... من يستطيع ان يفعل ذلك؟ وإنما يعني أن عظمتهم ستتضح أكثر من خلال الكشف عن تاريخيتهم، أو من خلال فرز ما هو تاريخي في شخصيتهم عما هو مضخم أسطوري مشكل لاحقا من قبل الأتباع والمؤمنين. ولكن بما إن المسلمين لا يستطيعون تقبل هذا العمل حاليا، بما أنه يصدم الوعي الإسلامي في الصميم فإن أركون يتخذ احتياطات كثيرة لكي يخفي مقاصده البعيدة..أو قل انه يراعي الحساسية التقليدية كثيرا لكيلا يجرحها وبخاصة عندما يكتب مباشرة بالعربية.
فهو يعرف أن المسلمين غير مهيئين حتى الآن لتقبل الحقائق التاريخية عن أنفسهم وتراثهم الذي شكلوا عنه صورة مثالية عذبة تتعالى على التاريخ كما فعلت بقية الأمم. هذا لا يعني بالطبع أن تراث الإسلام ليس عظيما ورائعا ولكنه يعني أن عظمته تتجلى في تاريخيته أكثر مما تتجلى في نزع التاريخية عنه. يضاف إلى ذلك أنه تراث ديني من جملة تراثات أخرى وليس التراث الديني الوحيد في العالم. إنه إحدى تجليات الظاهرة الدينية، ظاهرة المقدس أو الحرام، وليس كل الظاهرة الدينية كما يتوهم المسلمون المنغلقون داخل جدران دينهم فقط. لقد آن الأوان للتخلص من التصورات الطفولية عن أنفسنا وتراثنا. آن الأوان لأن نبلغ سن الرشد عقليا.. وإلا فان بقية الأمم سوف تظل تضحك علينا وتنظر إلينا بازدراء ولا تأخذنا على محمل الجد.
ما هي مكانة العرب أو حتى المسلمين ككل على الساحة العالمية من الناحية العلمية أو الفلسفية او المخترعات والإبداعات؟ لا شيء تقريبا..هذا في حين أنهم كانوا في الطليعة أيام العباسيين والفاطميين والأندلسيين.. هذا يعني أن زمن المواجهة الكبرى للذات مع ذاتها قد اقترب. ولن يستطيع المسلمون أن يؤجلوا إلى ما لا نهاية لحظة المصارحة الكبرى التي ابتدأت تباشيرها ترتسم على الأفق. فالعالم كله أصبح يطالبهم بها. وهناك نداء صادر من الأعماق يطالبهم بها أيضا. والحاجة الماسة أصبحت تفرضها علينا.
لطالما طرح علي هذا السؤال: لماذا أمضيت كل هذه السنوات في ترجمة مفكر واحد هو محمد أركون؟ وكنت دائما أستغرب السؤال لأني أعتبر المسألة بدهية ولا تحتاج إلى سؤال أو جواب. فهل هناك عمل أهم وأجل شأنا من ترجمة بحوث عقلانية نقدية جريئة عن التراث العربي الإسلامي؟ أليست هي مسألة المسائل بالنسبة لعصرنا؟ ألا نحتاج إلى تحرير عقولنا من التحجر الفكري والتصورات الخاطئة والتعصب والإكراه في الدين؟ في الواقع إن هذا الجواب لم يكن بدهيا إلى مثل هذا الحد عندما ابتدأت العمل في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات: أي قبل أكثر من ربع قرن. فالكثيرون من المثقفين العرب كانوا يعتقدون بأن مسألة التراث القديم قد حلت وأننا تجاوزناها بعد أن أصبحنا ماركسيين تقدميين قوميين الخ... ثم انفجرت الحركات الأصولية بعدئذ في وجوهنا كالقنابل الموقوتة وأصبح الجميع يشتغل في قضايا الإسلام والتراث.
وأذكر بهذا الصدد النكتة التالية: كنت ذاهباً في إحدى المرات لحضور درس أركون الأسبوعي في السوربون فاستوقفني أحد الأصدقاء الذين أعزهم في أحد المقاهي المجاورة للجامعة وقال لي: اقعد معنا يا رجل إلى أين ذاهب؟ قلت لحضور درس أركون. فأجابني وماذا تفعل في درس عن الدين: هذا شيء قديم بال عفى عليه الزمن... هذه مسألة محلولة منذ زمن طويل ولم تعد تهم أحدا. نحن، المثقفين العرب، تجاوزنا هذه القضايا.. بعدئذ بفترة قصيرة انفجرت مشكلة الأصولية المتزمتة وأصبحت قضية القضايا بالنسبة لكل المثقفين العرب.. وقبل أن أدخل في صلب الموضوع أكثر اسمحوا لي أن أروي نكتة أخرى. عندما تعرفت على أركون لأول مرة عام 1977 لكي أطلب منه الإشراف على أطروحتي للدكتوراه لم أكن قد سمعت باسمه قط من قبل. وقد قبل بعد نقاش طويل نسبياً. ولكني حاولت تغييره ما إن أتيح لي الالتقاء بأندريه ميكل على هامش إحدى الحفلات في الكوليج دو فرانس. فقد تقدمت منه بكل احترام وسألته إذا كان يقبل بالإشراف على أطروحتي بدلا من أركون فنظر إلي نظرة استغراب واندهاش قائلا: ولماذا تريد تغيير أركون؟ إنه أهم مني يا رجل.. وانتهى الموضوع عند هذا الحد.
ينبغي العلم بأننا نحن السوريين خريجي قسم اللغة العربية لم نكن نسمع إلا باسم أندريه ميكل كأستاذ كبير يشرف على الأطروحات الجامعية العربية في باريس. وكنا نعتقد أننا إذا ما نِلنا شهادة الدكتوراه على يديه فسوف تكون أهم وأعظم شأنا. وسوف نفتخر بها حقيقة عندما نعود إلى بلادنا. يضاف إلى ذلك عقدة الخواجة كما يقول إخواننا المصريون. فنحن نعتقد أن الأستاذ الأجنبي أهم في كل الأحوال من الأستاذ العربي أو المسلم.. بعدئذ أتيح لي أن أكتشف أن محمد أركون هو أحد الأساتذة النادرين الذين يستطيعون أن يتناقشوا مع كبار أساتذة السوربون من موقف الند للند. بل وربما كان الوحيد الذي يستطيع أن يفحمهم ويعطيهم دروسا في المنهج والعلم. وكان مدعاة اعتزاز وفخر لي أنا العربي السوري أن أجد مفكرا جزائريا يرتفع إلى مستوى كبار المفكرين الأجانب إن لم يكن يتفوق عليهم.. لا أعرف فيما إذا كنا نمتلك مفكرا آخر من هذا النوع أو بهذا الحجم. وما عدا المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد لا أعرف اسما آخر وأرجو أن أكون مخطئا.
كان ينبغي أن تحضر دروس محمد أركون في بداية الثمانينات من القرن المنصرم وهو يحلل التراث الإسلامي من خلال أحدث المنهجيات والمصطلحات لكي تعرف معنى الفكر وأهمية الفكر وعظمة الفكر.كنت أخرج أحيانا من الدرس وأنا مذهول عن نفسي وكنت بحاجة إلى بعض الوقت لكي أسترجع مداركي وإمكانياتي. كنت أشعر بأن تاريخ الإسلام كله أخذ يتوضح أمامي وأن إضاءات ساطعة ألقيت عليه من كل الجهات. وعرفت عندئذ أن هذا الدرس يشكل حدثا تاريخيا غير مسبوق بالنسبة لماضي الإسلام وحاضره على السواء. كنا نخرج أحيانا ونحن دائخون من الدرس بعد أن زلزل كل يقينياتنا التقليدية التي تربينا عليها أو ورثناها أبا عن جد منذ مئات السنين. ووجدت ضالتي. كل ما كنت أبحث عنه قبل الوصول إلى باريس وجدته هنا. كل الأسئلة التي كانت تضج في نفسي وأنا لا أزال في سوريا وجدت الأجوبة عليها هنا.. كل التساؤلات الحارقة التي حملتها معي من سوريا إلى باريس عام 1976 والتي كنت أعتقد أنها مستعصية على الجواب وجدت أن مفكراً جزائرياً كبيراً كان قد حفر عليها حتى أعماق جذورها وحلها.
لهذا السبب ابتدأت بترجمة محمد أركون بعد أن قلت بيني وبين نفسي: لماذا لا أجعل الآخرين في العالم العربي يطلعون على ما اطلعت عليه؟ لماذا تبقى هذه الكشوفات المعرفية والإضاءات الساطعة المسلطة على التراث الإسلامي محبوسة بين جدران السوربون ونحن الأحق بها والأحوج إليها؟ واستغربت كيف أن أحدا لم يسبقني بعد إلى ترجمة هذا الباحث المقتدر الذي يدشن ثورة فكرية في تاريخ الإسلام لا أكثر ولا أقل..في الواقع أنهم سبقوني الى ذلك ولكن بشكل متقطع وجزئي. فالدكتور عادل العوا، رئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق سابقا، ترجم له قبلي. وربما كان هناك آخرون أيضا وبخاصة في المغرب. ولكن لم يركز أحد على ترجمته مثلما فعلت أنا. فقد وجدت فيه مشروعا فكريا كاملا شديد الأهمية والخطورة. ثم يسألونني بعد كل ذلك: لماذا كل هذا الاهتمام بترجمة محمد أركون؟ في الواقع إنهم ما عادوا يطرحون علي هذا السؤال كذي قبل لأن فكره تحول الآن إلى تيار عريض في العالم العربي. فبيننا وبين البدايات الأولى مسافة ربع قرن على الأقل. وبالتالي فموسم الحصاد كان على مستوى الزرع والبذور.. ولم تخب آمالي. ولولا العيب والخوف من أن أتهم بالنزعة الانتفاخية والغرور الفارغ لقلت باني استبقت على حركة التاريخ وحصول ضربة 11 سبتمبر. كان هناك هاجس غامض يختلج في أعماقي ويقول لي: هنا تكمن المشكلة الكبرى للعصر فاهتم بها وأنس كل ما عداها، جيش لها طاقاتك ما استطعت. فالتاريخ سوف يحسم هنا. من هنا ارتباطي الشديد بمشروع أركون. ولا ريب في أني كنت أتوقع نجاحه عندما ابتدأت الترجمة. وعندما راهنت على هذا الفكر كنت واثقا من النتيجة سلفا. فالبحوث العلمية الحقيقية عن التراث لا بد أن تجد مكانتها يوما ما. نقول ذلك وبخاصة إذا كانت الحاجة إليها ماسة. الشيء الوحيد الذي أتأسف له هو أنني لم استطع أن أترجم إلا جزء محدودا من أعمال أركون على عكس ما يظن معظم الناس الذين يعتقدون باني ترجمت كل شيء. وهذا خطأ كبير بالطبع.
الخميس ديسمبر 19, 2013 1:01 am من طرف هرمنا