بفضل
ما ينعت بـ"الربيع العربي" الراهن جرت انتخابات يمكن نعتها عموما
بالشفّافة في مصر وتونس والمغرب أسفرت -وهذه هي المفارقة- عن فوز من
ينعتون بالمحافظين والسلفيين. وذات النتيجة متوقعة في حال حدوث انتخابات
قادمة في بلدان عربية أخرى.
وهذه بدون شك واقعة جديرة بالتأمّل والتحليل انطلاقا من طرح التساؤل التالي:
لماذا هذا الفوز الكاسح للخطاب المحافظ والحركات السلفية في زمن ينعت بـ"زمن الثورات العربية"؟
هل المستقبل العربي الذي يتحدّد راهنا محكوم بثقل الخطاب المحافظ وقيود الحركات السلفية؟
هل الثورة العربية "الكبرى" (بصيغة المفرد: وهذا له دلالته) هي بالأساس ثورة الماضي ضدّ المستقبل (نوع من المستقبل الماضي)؟
أعترف بالنبرة التشاؤمية لهذه التساؤلات من زاوية نظر تتبنّى أفكار الحرية والعقلانية والتقدم التي هي مضمون فكر التنوير بامتياز.
بل أعترف بما هو أكثر وأخطر: إنّ فكر التنوير هو الخاسر الأكبر في زمن "الثورات العربية" الراهنة.
ومهما يكن وقع الصدمة الذي قد يحدثه هذا الحكم التقريريّ للبعض (قليلين
كانوا أو كثيرين) فلا ينفع في تقديري التشبّث اليائس والبائس بأحكام
تقريرية مضادّة من نوع : "هذه مرحلة سياسية عابرة سيتمّ تجاوزها لمّا تعيد
قوى اليسار بناء ذاتها سياسيا وتنظيميا".
إن الخطأ الفادح بالنسبة لـ"قوى اليسار" يكمن أساسا، وبالضبط، في
اختزال الاكتساح المحافظ والسلفي لـ"ساحات التحرير" العربية في مجرّد بعد
سياسيّ… سيستهلك ذاته ويزول عاجلا أو آجلا.
وبالمقابل، فما يلزم تقريره واستحضاره في تقديري هو التالي: إن المنتصر
الحقيقي من خلال اكتساح المحافظين والسلفيين لصناديق الانتخابات العربية
الراهنة (والمقبلة) هو المشروع الفكري المضاد لأفكار وقيم التنوير.
وعليه، فما يلزم التنويريين العرب (وهم حاليا "أقلية" مهمشة) هو إعادة
النظر جذريا وبدون تضخيم استيهامي للذات في مسار تعقد وانسداد مشروعهم
الفكري ذاته.
وفي هذا الصدد يلزم طرح الأسئلة الحارقة التالية:
كيف تعثر المشروع التنويري العربي الذي بدأ واعدا مع علي عبد الرازق وطه حسين وانتهى مأساويا مع فرج فودة ونصر حامد أبو زيد وآخرين؟
لماذا حدث الخصام والتنافر بين نخبة التنوير وقاعدة الجماهير العريضة؟
لماذا لم يتأصل المشروع التنويري في صميم الثقافة المهيمنة؟
لقد قام المحافظون (الإخوان المسلمون بالخصوص) والسلفيون (بكل تلاوينهم
"التكفيرية" والتجهيلية) بمراجعة مواقفهم (وليس أطروحاتهم) وقرروا أن
يضربوا "ضربة معلم": ابتلاع الديمقراطية التي أشرق بها "الربيع العربي"،
وبالتالي، فهم الآن "يحكمون" في المغرب، و"يقودون" في تونس، ويستعدّون
للانقضاض في مصر (والبقية قادمة لا محالة).
وإذا تيسّر لهم تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية الجماهيرية (وهذا ممكن) فهم يضمنون بقاءهم في الحكم لدورات انتخابية عدة.
وعليه فهزمهم سياسيا وانتخابيا غير مطروح –موضوعيا- في القريب العاجل.
وبالمقابل، فالمطروح والملحّ هو أن يغادر فكر التنوير منطقة العتمة
والضبابية والتردّد والتذبذب، ويكفّ أهله عن الاشتغال بمنطق "التقية"،
ويعلنون حرب التنوير طويلة الأمد…باعتبار أنّ التنوير هو الأفق التاريخي
الطبيعي للربيع العربي الذي تبدو قوى ظلامية كاسحة في موقع الالتفاف حول
هذا الربيع التنويري العربي واغتياله.