حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 حفيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
علي النقاش
ثـــــــــــــــائر
ثـــــــــــــــائر
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 48
معدل التفوق : 116
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 12/03/2012

حفيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- Empty
10052012
مُساهمةحفيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-

3- اللغة بين "ما يمكن التكلم عنه" وما يكتفى "بإظهاره"


لا يخفى على أحد أن فيتجنشتين ينطلق في الرسالة من التمييز بين
مجالين: مجال يمكن "التكلم عنه" أو قوله ومجال لا نملك إلا القدرة على
"إظهاره" أو "الإشارة إليه" على شاكلة ما نفعله عادة حين نقول: هذا كذا أو
هذه كذا. وليس لقائل أن يقول بأن خوض الرسالة في مجال "غير القابل للتكلم
عنه" هو ضرب من اللاعقلانية وخروج عن حدود العقل، لأن الاستيعاب الجيد
لمضمون هذه الدعوى التي جاءت بها الرسالة كما سنرى، ينفي عنها في الواقع كل
دلالة سحرية أو لاهوتية. إن فيتجنشتين بتحديده للمجال "غير القابل للقول"
لم يكن يرمي إلى تثبيت "عالم آخر" تعجز فيه اللغة عن قول ما تريد قوله، ذلك
لأن دوافع تحديده لهذا المجال لم تكن قط هيرمينوطيقية بقدر ما كانت
منطقية-لغوية.




وعلى أي حال، فإن فهم الوضع الذي يتبوؤه المجال "غير القابل للتكلم
عنه" في الرسالة، لا يمكن أن يتم عندما نفصله عما يكتفى بإظهاره، ولعل
وقوفنا بقليل من الإمعان عند فحوى الشذرتين التاليتين، من شأنه أن يوطد هذه
العلاقة ويرفع الإبهار الذي قد يوقعنا فيه كل تأويل سيء ومتسرع: يقول
فيتجنشتين في الشذرة الأولى: "يمكن للقضية أن تعرض
(20)
الواقع في مجموعه، لكنها لا يمكن أن تعرض ما يجب أن يكون مشتركا بينها وبين
الواقع حتى تتوصل إلى عرضه، أي الصورة المنطقية. ولكي نتمكن من عرض الصورة
المنطقية يجب أن نتمكن من التموقع مع القضية خارج المنطق أي خارج العالم"
(21).



ويقول في الشذرة الثانية: "إن القضية لا يمكن أن تعرض الصورة
المنطقية، فهذه الأخيرة تنعكس على ذاتها في القضية. وما ينعكس على ذاته في
اللغة، فإن اللغة لا تستطيع عرضه [أو تمثيله]. إن ما يعبر عن ذاته في اللغة
لا نستطيع نحن ذاتنا التعبير عنه بواسطة اللغة. إن القضية تظهر [أو تشير
إلى]
(22)
الصورة المنطقية للواقع. إنها تبرزها"
(23).



إذا تقرر عندنا في الشذرتين أن هناك مستوى لا يمكن تمثله، فإن معنى
هذه العبارة لن يستقيم في ذهننا إلا إذا علمنا أن فيتجنشتين يفترض هنا
عنصرين يبدو أن بينهما علاقة وطيدة: العنصر الأول، يقوم على استحالة وصف
اللغة من الخارج. ومؤداه أن اللغة شاملة؛ وحيث إن الأمر كذلك فإنه لا يتصور
أن يكون هناك وضع نكون فيه ما وراء اللغة لوصف اللغة. أما العنصر الثاني،
فيقوم على التسليم بأن العلاقات الدلالية التي تضبط توافق اللغة مع العالم،
هي دوما مستويات "غير قابلة للقول" لأنها مقتضيات موجودة سلفا. وفي هذا
السياق يأتي حديثه عن "الصورة المنطقية" باعتبارها هذه العلاقة الدلالية
المشتركة بين اللغة والواقع.




فإذا عدنا إلى الشذرتين معا، وجدنا فيتجنشتين يلح على عدم تمثيل
العبارة للصور المنطقية التي تربطها بالواقع لاعتبار أساسي هو أن هذه الصور
تنعكس على نفسها في العبارة ولا تحتاج إلى لغة ثانية لتمثيلها كما سنرى
لاحقا في هذه الدراسة. ولما كانت اللغة حسب الرسالة هي مجموع شامل لا يمكن
تصور عالم آخر ما وراءه، فإن كل تمثيل للصور المنطقية يستدعي الإقامة خارج
المنطق. وهذا ضرب من الاستحالة في نظر الرسالة لأن ذلك يستلزم في هذه
الحالة الإقامة خارج العالم.




وقد لا يتطلب الأمر مجهودا عظيما لإدراك الخلفية التي تفترضها
الشذرتين: فهما تؤكدان على التمييز السابق بين "ما يقبل القول" و"ما يكتفى
بإظهاره". ولهذا تقول الشذرة الثانية بأن ما يعبر عن نفسه في اللغة، لا
نستطيع نحن أنفسنا التعبير عنه بواسطة اللغة؛ وهذه الدعوى لا تنطوي، حسب
منطق الرسالة، على أي تناقض لأنها تحيل هنا على "ما يكتفى بإظهاره أو
الإشارة إليه".




ولقد لقيت هذه الدعوى صدى كبيرا في أوساط شراح ونقاد فيتجنشتين
بحيث لا نكاد نجد واحد منهم يغفل الإقرار بدورها المركزي في الرسالة، إلى
حد أن أغلبهم يعدها العمود الفقري لفلسفة فيتجنشتين الأولى. ولعل دراسة
ميريل وجاكو هنتيكا هي واحدة من بين أطراف وأدق الدراسات التي تولت هذه
المسألة بعناية بالغة بحثا وتنقيبا.




أما طرافتها ودقتها فتعودان إلى اجتهاد هذين الباحثين في الربط
بإحكام بين المجال الذي "يكتفى بإظهاره" وبين مقتضيات لسانية-منطقية عامة.
إن فكرة المجال الذي "يكتفى بإظهاره" تستمد أصلها حسب جاكو هنتيكا وميريل
هنتيكا من مصدرين منصوص عليهما في الرسالة: المصدر الأول يقوم على أطروحة
عامة مفادها أن جميع العلاقات الدلالية هي دوما "غير قابلة للقول". أما
المصدر الثاني فيقوم على أطروحة خاصة مفادها أن الموضوعات البسيطة وكذا
صورها المنطقية هي الأخرى من مستوى "غير قابل للقول"
(24).



ولنعد إلى الأطروحة الأولى لتفصيل الحديث عنها: إذا وضعنا في
الاعتبار أن ما يدعوه هذان الباحثان "علاقات دلالية" هي جملة ما تسميه
الرسالة علاقات التوافق الناشئة بين العبارة وبين الوقائع الذرية (أو في
كلمة واحدة هي المعنى الذي يكتفى بإظهاره)، فإننا سندرك بأن هذه العلاقات
لا تدخل في حيز "ما يمكن قوله" لأنها -كما مر معنا- مقتضيات مفترضة لكن
"غير مشار إليها". وعلة ذلك أن هذه العلاقات الدلالية، أو بالتحديد هذه
العلاقات "الإسقاطية" كما تسميها الرسالة، تنزل في منزلة ما يربط العبارة
بالوقائع الذرية لكنها تظل بمنأى عن التعبير؛ إذ لما كانت القضية لا تمثل
سوى الوقائع في مجموعه مع استحالة تمثيلها لما هو مشترك بينها وبين الواقع،
فقد اتضح حينئذ لماذا تبقى العلاقات الدلالية من مستوى ما لا يمكن تمثيله.




أما تفصيل الأطروحة الثانية فيستوجب الوقوف عند الموضوعات البسيطة
التي تحفل بها الرسالة، إذ أن وجود هذه الموضوعات لا يمكن إلا أن "يشار
إليه" باستعمال أسمائها في اللغة؛ فهي لا تدخل في مجال "ما يمكن قوله"
وإنما في مجال "ما يكتفى بالإشارة إليه أو إظهاره". وبما أن الرسالة ترى
بأنه بمجرد ما تعطانا الموضوعات، تعطانا في الآن نفسه كل الموضوعات؛ فهي
تخلص إلى نفس النتيجة بالنسبة للقضايا الأولية: فبمجرد ما تعطانا القضايا
الأولية تعطانا في الآن نفسه كل القضايا الأولية
(25).



ونتيجة لذلك فإن العالم من حيث هو كل يدخل في مجال "ما لا يقبل
القول" لأن حدوده هي الأخرى غير قابلة للقول حسب الشذرة

5.61
التي تجعل من حدود العالم هي ذاتها حدود المنطق. وأما علة عدم قابلية حدوده
للقول، فيرجع إلى أنها تتحدد بمجموع الموضوعات البسيطة وبمجموع القضايا
الأولية.




وتتفرع عن هذه المسألة نتيجة أخرى تنتهي إلى الإقرار بأن كل الصور
المنطقية التي تتأسس انطلاقا من موضوعات بسيطة، تدخل في مجال "ما لا يمكن
قوله". ويذهب كل من جاكو هنتيكا وميريل هنتيكا بعيدا في تأويلهما لهذه
النقطة، إذ يعتبران بأنه لما كان فيتجنشتين يرى من الاستحالة قول ماهية
الموضوع البسيط فإن من الاستحالة أيضا قول صورته المنطقية. أما تعليل ذلك
فيرجعانه إلى فكرة عدم قابلية قول الصور المنطقية، نتيجة لفكرة رد جميع
الصور المنطقية إلى الموضوعات البيسطة
(26).



وعلى العموم فإن الاقتصار على حصر كبرى قضايا الرسالة في مجال "ما
يمكن التكلم عنه" دون الاكتراث كثيرا بقضية "غير القابل للتكلم عنه"، قد
يحجب عن صاحب هذه الدعوى جانبا لا يقل أهمية عن الدعاوى الأخرى التي
تتضمنها الرسالة، نعني هنا مسألة "الصوفية" التي يشدها إلى مشكل "اللامعبر
عنه" أكثر من رابط. فهذا فيتجنشتين يقول: "إن هناك من دون شك جانبا غير
قابل للتكلم عنه. وهذا الأخير يشير إلى نفسه إنه هذا العنصر الصوفي"
(27).
لكن هذا الجانب الصوفي يستوجب توضيحا سريعا لإزالة بعض التأويلات الخاطئة
التي نسجت حوله رغم أن لا أحد يستطيع إنكار صعوبة تدقيق مدلوله في استعماله
من قبل فيتجنشتين.




فعلا، من أعقد القضايا التي تثيرها هناك مشكل "العنصر الصوفي" الذي
نستطيع اعتباره مظهرا من مظاهر ميتافيزيقية هذا الكتاب. لكن التأويل السيئ
الذي يميل إلى تقريب هذه القضية من فكرة المكاشفة والذوق، قد يحجب عن صاحبه
المدلول الفعلي الذي دعا فيتجنشتين إلى إثارة "العنصر الصوفي" عند نهاية
الرسالة؛ فالواقع أن "صوفية" هذا الكتاب لا ينبغي أن نفهم على غرار ما
نعنيه عادة بالتصوف. إن فهمها على نحو صحيح يستدعي ربطها بما لا يمكن للغة
التكلم عنه كما ينصح بذلك فيتجنشتين نفسه. وهذا معناه أن الجانب الصوفي هو
ما يكتفى بإظهاره أو الإشارة إليه. وبفعل هذا فإن له في الرسالة مظاهر
مختلفة نستطيع حصرها في العلامات التالية:




أ- مةن اللغة لا تستطيع التكلم عن "فعل" اللغة بل تكتفي بإظهاره.




ب- كونها لا تحتاج إلى لغة ورائية أو لغة شاملة قادرة على التعبير
عن كل ما يمكن التكلم عنه.




ج- كونها لا تستطيع أن تقول ما هو العالم بل فقط حصر مجموع حالات
الأشياء الموجودة.




د- كونها تكتفي بحصر القضايا الأولية دون القدرة على تحديد ما هي
اللغة.




هـ- كونها تكتفي بإظهار وجود "الموضوعات" دون التمكن من قولها
(28).



ولعل الناظر في هذه المظاهر قد لا يفوته الانتباه إلى المكانة
المرموقة التي تحتلها فكرة العالم ضمن التمييز الذي تضعه الرسالة بين "ما
يمكن التكلم عنه" وما "يكتفى بإظهاره". فمما لا ريب فيه أن فكرة العالم
توجد في قلب مسألة اللغة لا فقط لأن فيتجنشتين كان منشغلا في فلسفته الأولى
برصد علاقات المطابقة التي تقوم بين العبارة والواقعة، وإنما أيضا لأن جزءا
عظيما من مجهوده كان منصرفا إلى وضع حدود بين "ما يمكن التكلم عنه" وما "يكتفى
بإظهاره".




4- اللغة وفكرة العالم:




بالرغم من أن غالبية النقاد تعتبر الرسالة كتابا في المنطق، فإننا
لا نستطيع إنكار جانبه الميتافيزيقي ولا أيضا بنيته الأنطولوجية. فالراجح
عندنا أن فيتجنشتين قد اضطر دوما إلى مواجهة مسائل ميتافيزيقية على الرغم
من حرصه على تفادي الخوض في متاهاتها. ويكفي تفحص كتاب الرسالة لكي يتبين
أنه قد انطلق من البحث في أسس المنطق واللغة ليجد نفسه أمام مشكلة العالم،
وبالتحديد أمام "وجود العالم". وهذه النقطة تكتسي في نظره قيمة خاصة بدليل
قوله: "إن الجانب الصوفي ليس هو: كيف يوجد العالم، بل هو كونه موجودا"(29).




وإذا استحضرنا في ذهننا أن الجانب الصوفي هو مرادف "لما لا يمكن
التكلم عنه"، فإن وجود العالم هو أمر يكتفى بإظهاره دون التعبير عنه. لكن
الرسالة لا تقتصر على إبراز هذا بل تفرض على العالم الشروط المنطقية التي
يتعين عليه احترامها لكي تصير اللغة أمرا ممكنا؛ فكل ما يتعدى حدود اللغة
هو ضرب من اللامعنى. ويبدو أن هذه الصرامة المنطقية هي التي تجعل فكرة
العالم تابعة لقيود اللغة، فما يبتغيه فيتجنشتين هو إحلال "رؤية صحيحة
للعالم" محل "رؤية خاطئة". لكن، أليس هذا ذاته ما كان يقصده في الشذرة ما
قبل الأخيرة من كتاب الرسالة حيث يكون على القارئ الذي يفهم فيتجنشتين فهما
جيدا أن يتغلب على قضاياه لكي "يرى العالم بعدئذ بشكل صحيح"(30)؟




ترى ماذا يعني فيتجنشتين عندما يتحدث عن "رؤية العالم بشكل صحيح"؟
هل يقصد رؤية العالم وفق أنطولوجيا الرسالة أم وفق حدود اللغة؟ الواقع أن
كلا الأمرين شيء واحد، سيما إذا أدخلنا في الحسبان أن حدود العالم هي ذاتها
حدود اللغة. فمتى أمعنا النظر مليا في الكتابات التي تلت الرسالة، وجدنا
حرص فيتجنشتين على إظهار أن النحو يفرض دوما كيفية محدودة لرؤية العالم،
بحيث يبدو كما لو أن لا وجود سوى لهذه الكيفية. ومن هنا فإن "ما يمكن للغة
أن تقوله هو فقط ما بإمكاننا تمثله على نحو آخر"(31). وإذا كنا
من جهة أخرى لا نضع العالم موضع تساؤل جذري، فلأننا لا نملك، في نظر
فيتجنشتين، صورة أخرى مناقضة لصورة عالمنا(32)؛ فنحن في جميع
الأحوال لا نسقط على العالم سوى الصورة المنطقية ذاتها التي نتناقلها
بواسطة لغتنا.




واضح إذن أن صورة العالم هي من صورة اللغة؛ لكن هذا ذاته ما يفرض
على العالم قيودا لغوية، أو لنقل قيودا نحوية: "إن ماهية اللغة هي صورة
لماهية العالم؛ والفلسفة، باعتبارها المدبرة للنحو، يمكن فعلا أن تمسك
ماهية العالم لا في قضايا اللغة بلا ريب، وإنما في قواعد هذه اللغة التي
تقصي توليفات الدلائل التي تفضي إلى اللامعنى"(33).




غير أن مقصد فيتجنشتين -وعلى عكس ما قد يوحي به كلامه ظاهريا- لا
يتمثل إطلاقا في تكرار ما رددته الكثير من الفلسفات التقليدية، نعني
الفلسفات التي انتدبت نفسها لتعيين تخوم العالم داخل أطر اللغة، لاعتبار
أساسي هو أنه ينكر وجود أساس "موضوعي" يمكن من تحقيق ذلك. فمتى أدركنا عدم
توفر هذا الأساس، أدركنا في الآن نفسه أن اللغة لا يمكن أن تدل إلا على
عالمها؛ وعليه فإن عالمها هو دوما من قبيل ما هو مسلم به. يقول فيتجنشتين:
"هناك محاولة تنبعث باستمرار لتحديد العالم داخل اللغة وجعله مرئيا-لكن هذا
لا يمكن أن يتم. إن العالم مسلم به، وهذا شيء يعبر عنه بالضبط في كون أن
اللغة لا تملك إلا هذا العالم –ولا يمكن أن تملك إلا هذا- للدلالة عليه.
وحيث إن اللغة لا تستمد كيفيتها في الدلالة سوى من دلالتها على العالم،
فإنه لا تتصور لغة لا تمثل هذا العالم"(34).




وعلى الإجمال، فإن تأويلنا لن يكون مغرضا ولا مبالغا فيه إن نحن
استخلصنا من هذا الموقف الذي يقفه فيتجنشتين نقدا "للنزعة الموضوعية"
ولخلفياتها الفلسفية. ولعل ماسلاو كان على حق حين اعتبر أن الرسالة جاءت في
مجملها لتقويض خطإ فلسفي عمر طويلا، خطإ اختار هذا الباحث تسميته "المنظور
الملائكي"؛ وهو يعني به هذا المنظور "الموضوعي" الذي يعتقد في إمكانية
التعبير عن العالم من نقطة خارج العالم الذي يقيم فيه الناظر(35).
من هنا فإن نقد "المنظور الملائكي" يتولى دحض التصور الذي ينزع إلى
الاعتقاد في إمكانية الإقامة "داخل" اللغة و"خارجها" في آن واحد.




ولا يخفى أن هيلاري بوتنام قد انتبه هو الآخر إلى هذا التصور
الميتافيزيقي واعتبره سمة عامة تطبع الكثير من مواقف الفلاسفة، فسماه
"المنظور الإلهي" كناية على هذه النزعة الموضوعية المستفحلة في أوساط
الفلاسفة. ونحن واجدون نفس التصور عند ريتشارد رورتي في معرض انتقاده
لتاريخ الميتافيزيقا.




وكيفما كان الحال، فحتى وإن كنا لا نعثر في أقوال فيتجنشتين على
نقد صريح للنزعة الموضوعية، فإن مقتضى أفكاره لا يتعارض البتة مع مضمون هذا
النقد مادام يميل إلى نفي كل أساس "خارجي" يكون بمثابة قاعدة "موضوعية"
للتكلم عن العالم لأن هذا الأخير هو كل ما تملكه اللغة للدلالة عليه. لهذا
لن نستغرب إن نحن وجدنا الرسالة تثير نزعة "الانعزال الذاتي" في معرض
حديثها عن العالم وحدود اللغة، شريطة طبعا فهم هذه النزعة في وضعها الصحيح
وتجنيبها سوء الفهم الذي يمكن أن يلحق بها.




فعلا، إن السياق الذي تدرج فيه الرسالة نزعة "الانعزال الذاتي" لا
يدع المجال للشك في تبين صلة هذه النزعة بنقد كل تصور يرى أن من الممكن
تجاوز حدود العالم والنظر إليه من "نقطة خارجية". فأسباب إدراج فكرة
"الانعزال الذاتي" تأتي نتيجة عجز "الذات" عن النظر للعالم من زاوية
"موضوعية"، أي من زاوية تقع خارج حدود المنطق وحدود العالم. وعليه، فإنه
ينبغي التذكير بأن فيتجنشتين لا يقصد هنا "العزلة الميتافيزيقية" لأنه لا
يرمي بذلك إلى إنكار وجود العالم الخارجي. كما أنه لا يقصد "العزلة
الإيبستمولوجية" مادام لا يعني بهذا إنكار الذوات العارفة الأخرى التي
تخالف ذاته.




وإذا تركنا جانبا التأويلات العديدة التي قدمت كتفسير لتعليل أسباب
لجوء فيتجنشتين إلى نزعة "الانعزال الذاتي"(36)، ووجهنا
انتباهنا إلى هذا التأويل الذي اخترنا الانطلاق منه هنا، فسيسهل علينا
حينئذ أن ندرك من جديد لماذا أقرت الرسالة بأن حدود العالم هي ذاتها حدود
المنطق أو اللغة. فعندما ندير الأمر مليا في ذهننا، سيبدو لنا أن مقصد
فيتجنشتين لم يكن هو إثبات "عزلة الذات" عن العالم وعن الآخرين بل تأكيد "منظورية"
الذات إزاء العالم وإزاء اللغة: فأن يكون العالم عالمي أنا، يرجع دوما إلى
تأكيد أن حدود لغتي هي حدود عالمي. هذا فيما يبدو هو الذي يقوده إلى القول:
"أنا هو عالمي"(37).




لن نستغرب إذن إن أفضت الرسالة إلى هذه "العزلة الذاتية"، فهي
نفسها تقر بأن "ما تقصده نزعة "الانعزال الذاتي" صحيح تمام الصحة، إلا أن
هذا لا يمكن أن يقال وإنما يظهر"(38). فأن يكون العالم دوما
عالمي أنا، هو بالضبط ما يكتفى بإظهاره دون قوله. وليس أدل على صلة نزعة
"الانعزال الذاتي" بهذا التصور "المنظوري"، من كون أن فيتجنشتين يتأدى إلى
استبعاد كل نظام قبلي للأشياء مؤثرا القول بأن كل ما نراه يمكن أن يكون
أيضا على نحو آخر(39). لكن هذا "الانعزال الذاتي" الذي تخلص
إليه الرسالة ليس "انعزالا ميتافيزيقيا" ولا "إيبستمولوجيا" كما رأينا ما
دام يلتقي مع ما يسميه فيتجنشتين "بالواقعية الخالصة"(40).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

حفيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية- :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

حفيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-
»  الفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة أستاذ
» الفلسفة السياسية ومسألة العنف
»  أصول القرآن. بحث في تاريخ الدراسات القرآنية الاستشراقية (2/2)
» الأصولية ومسألة التقدم بقلم: سلامة كيلة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المدونات العامة-
انتقل الى: