البدر ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 27 معدل التفوق : 63 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 27/02/2012
| | من أجل تجديد التزام المثقفين ... | |
من أجل تجديد التزام المثقفين ... محمد سلام شكري ارتبط خطاب الأزمة الحضارية والهزة السياسية والردة الثقافية بتوجيه اللوم وسياط النقد الجارح للمثقف، إذ كلما أصاب المجتمع ارتجاج حاد وكلما وضعت النخب السياسية وخاصة الفئة الحاكمة منها على محك المساءلة الموضوعية والمسؤولية التاريخية، إلا ووجهت أصابع الاتهام للمثقف الذي لم ينجز دوره التاريخي حيث ترك الجماهير، الأمة، الشعب، في وضعية جهل وعدم استنارة. انتعش وينتعش خطاب تعنيف المثقف عند كل منعطف واضح وهزة سياسية كبرى: هزيمة 1967، حرب الخليج الثانية سنة 1991، انفجارات نيويورك وواشنطن في 11 شتنبر 2001، وآخرها أحداث الدار البيضاء في ماي 2003 إذا أردنا الالتصاق بالحالة المغربية تحديدا.إلى أي حد يحتضن خطاب تعنيف المثقف_البالغ حد التجريح والتقزيم_عناصر الموضوعية والواقعية والرغبة في إناطته المسؤولية؟ لماذا ينتعش خطاب العودة إلى المثقف لحظة الهزات والرجات والزلازل السياسية والاجتماعية الكبرى؟ أين تنتهي حدود الرغبة في أن يلعب المثقف دورا أساسيا ليبدأ الحد الأول من الحدود الخفية والمقننة لتهميش المثقفين تحت ضغط الخوف من سلاطة قلمهم ولسانهم؟يشترط الجواب على هذه الأسئلة دراسة خصائص خطاب تعنيف المثقف والوقوف عند نماذج من الكتابات العربية التي لا ترى في المثقفين إلا الهزيمة والعجز والاستقالة والوهم. من هنا يتوجب علينا دراسة علامات خطاب نقد المثقفين قبل نقد خطاب نقدهم.I- في "نهاية" المثقف و"استقالته"1- المثقف وثقافة النخبة: تتجه مجموعة من الكتابات العربية إلى إثبات أن ما يعطل الطاقات الفاعلة لدى المثقفين العرب هو النزوع نحو النخبوية والانفصال عن القاعدة الاجتماعية-الشعبية. إن الجذر الحقيقي لأزمة المثقفين حسب هذا المقترب النقدي لوضع الكائن المنتج للمعرفة يبدأ أولا بنقد ثقافة النخبة. يقول برهان غليون « إن النقد الجدي يبدأ من نقد ثقافة النخبة، الثقافة العلمية، السياسية والاجتماعية الرسمية، وليس من التعريض بثقافة شعبية مغلوبة على أمرها. وفاقدة هي نفسها لثقتها بذاتها »[i]. يتوجه هذا الخطاب بالنقد للنخبة الثقافية التي ظلت نخبوية خطابا وممارسة، إذ هي أخذت من الغرب ثقافته العقلانية العلمية المرتبطة بالتقدم والتطور وخاصة في المفصل المتصل بالتحكم في الطبيعة، ونسيت ثقافة الشعب، وهذا هو مضمون ما قاله ابن خلدون من كون المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب[ii]؛ من هنا تبحث النخبة عن توفيق وهمي ومحلوم به، لا حقيقي بين ثقافة عالمية معيارها ومصدرها هو الغرب وثقافة شعبية محلية ترتبط بالتراث، في حين أن الهوية الثقافية لا تتحقق من خلال نظرية تبحث عن التوفيق بين الماضي والحاضر، نظرية يصونها مثقفون بصيانتهم للتراث، فالهوية الثقافية لا تتحقق إلا بالتفاعل الذي يؤهل كل ثقافة لأن تكون مبدعة ومنتجة[iii].لا خلاص للنخبة المثقفة إلا بالخلاص الشامل لكل شرائح المجتمع، ولا يمكن للنهضة الثقافية أن تجد مسوغاتها الموضوعية والتاريخية إلا بمشروع ثقافي يعتمد التحرر العقلي غاية ويستحضر الشعب غاية لا وسيلة. ينتهي برهان غليون إلى خلاصة لا نعتقد أن سقوط جدران برلين ولا حرب الخليج قد عدلا من قيمتها في نظر صاحبها، وهي خلاصة تتمثل في أن « النتيجة الأخيرة التي نريد أن نخلص إليها هي أن التحرر عقليا كان أم ماديا، وبصرف النظر عن الإيديولوجية التي يمتشقها والراية التي يرفعها، لا يمكن أن يتحقـق ضد الشعب، وإنما معـه. وبقدر ما يكون له لا عنه. وكل ما عدا ذلك هو عودة مقنعة للقرون الوسطى ولعقلية النخبة الاجتماعية الملهمة والمعصومة التي تضع نفسها فوق الجماعة، بل بديلا عنها »[iv] ( آخر ما ورد في كتاب "مجتمع النخبة" ).2- المثقف وغياب سلطته الثقافية:على غرار رجل السياسة المالك لسلطة سياسية تتجلى في الجاه، النفوذ والقدرة على التحكم والاستبداد، وعلى غرار رجل المال الذي له حيازة سلطة اقتصادية تتمثل في الجاه والحظوة، بل والقدرة على استجلاب منافع رجل السياسة واجتذابه، هناك من يقر بأن للمثقف سلطة ثقافية تتجلى في حيازة ملكات الفهم، التحليل والنقد. وهي سلطة قد يوظفها تدخلا في الشأن العام، بل وتوجيها أو معارضة للسلطة السياسية. من هنا يصاغ النقد للمثقف العربي لأنه يطالب بسلطة ثقافية مفقودة محاولا استنساخ وضع مغاير للمثقف الغربي الذي كانت له حيازة سلطة ثقافية تعضت بقوة مع حيازته لأدوات النضال الديمقراطي، بل والمواجهة الصريحة أحيانا للسلطة السياسية. هذا هو جوهر أطروحة علي أومليل الذي يقول عن الكاتب العربي بأنه: « يطمح إلى أن يكون له الدور الذي أصبح للكاتب في المجتمع الديمقراطي الحديث، في حين أن هذا الأخير يرتكز على ماض من نضال طويل خاضه أسلافه لكي تترسخ حرية الكاتب وتتأكد سلطته المعنوية. لقد انتقلت وسائل الاتصال الكبرى إلى المجتمع العربي. وهناك صحف تطبع بآخر تقانة الطباعة وعبر الأقمار الصناعية، ولكنها مسخرة (...) إن سلطة الكاتب المعنوية إنما هي مشروع ينبغي أن يتحقق بتراكم النضال الثقافي الديمقراطي. وإذا كانت هذه وضعية قد أصبح يستند إليها الكاتب في مجتمعات بعينها، فلأنها قد تحققت عبر ممهدات تراكمية متضافرة.»[v].يطالب المثقف العربي بسلطة ثقافية مفقودة، محلوم بها، تحققت في مجتمعات أخرى ناضل سياسيوها كما مثقفوها نضالا سياسيا وثقافيا تراكميا استمر لبضعة قرون منذ فجر الحداثة وفترة هجرة أفكار القرون الوسطى. لا يعني هذا أن المثقف العربي عدم وسائل النضال بل والمواجهة أحيانا للسلطة السياسية الحاكمة، بل كل ما هنالـك وحسب علي أومليل أن نضال المثقف لم يكن نضالا ثقافيا من أجل الديمقراطية، فالذي « يثير الانتباه هو أن قضية الكتاب الالتزاميين العرب في الخمسينات والستينات لم تكن هي الديمقراطية، بل قضايا أخرى أعطوها الأسبقية مثل "الوحدة العربية" و"الاشتراكية" (...) وهكذا عولوا ضمنيا على "الانقلابية" (...) لقد اعتبر كاتبـنا الالتـزامي ولفترة طويلة أن الديمقراطية مجرد لعبة شكلية لبرجوازية مسيطرة (...) »[vi]. يتعين إذن أن يصب نضال المثقف في التيار الدافع نحو تحقيق الديمقراطية ليس بدافع أخلاقي أو للقيمة الاجتماعية والسياسية التي يتضمنها المشروع الديمقراطي حين يتحول واقعا، بل لأن الديمقراطية هي الشرط الضامن لوجود المثقف وتأكيد استقلاليته[vii]. من هنا ينبع الفعل النقدي الذي يصوغه علي أومليل لمثقف عربي فاقد لسلطة ثقافية لم يناضل من أجلها. ولذا يكون على المثقفين العرب إبداع أدوات نضالهم الثقافي جدية واجتهادا لمأسسة سلطتهم الرمزية والمعنوية كما تحقق في المجال المجتمعي للغرب. يذيل الكاتب المغربي أطروحته في نهاية كتابه "السلطة الثقافية والسلطة السياسية" بدعوة إلى الكاتب العربي يختلط فيها الاحتمال بالضرورة، ويتزاوج ضمنها المطلب مع الأمل:«حين يتحدث الكتاب عندنا عن "دورهم الرائد" في عملية التغيير، فإن عليهم أن يثبتوا هذا الدور، وأن يستحقوه، حتى تكون لديهم هذه السلطة الفكرية التي يتأسون على عدم الاعتراف لهم بها، ولكي يستحقوها لابد من نضال طويل وعسير، وهوقبل كل شيء نضال من أجل الديمقراطية وبالديمقراطية»[viii].خلاصة النقد "الأومليلي" هنا أن المثقف العربي حالم بنماذج سارتر، غرامشي، فوكو، دريدا، أرون، وهولم يكسب أدوات نضالهم الثقافي_السياسي ونضال أسلافهم، وبذلك تحل الرغبة محل الواقع، إذ لا انفصال للسلطة الثقافية للمثقفين عن السلطة المدنية_السياسية لكل شرائح المجتمع بتحقق الديمقراطية والنضال من أجل ترسيخها عبر مسار سياسي وسيرورة طويلة من المخاضات والصراعات الاجتماعية.3- أوهام النخبة المثقفة:يهاجم علي حرب المثقف من خلال هجومه على فكرة "نخبوية" وضعه ودوره وأفكاره، داعيا إلى تواضع المثقفين لأنهم بلغوا درجة من الهوان والتفكك والاستقالة «فليتواضع المثقفون، بعد أن وصلوا هذه الحالة من الضعف والتضعضع، فالجماهير ليست مادة لعملهم أو آلة لمشاريعهم وأفكارهم. إنهم لم يعودوا طليعة أو نخبة، ولم يعد بمستطاعهم أن يتصرفوا بوصفهم متعهدي الحرية أو وكلاء الثورة أو أمناء الوحدة أو حراس الهوية(...) فلا أحد يفكر عن غيره أو ينور غيره أو يحرر سواه (...) ذلك أن تحرر الناس أو مصلحة الجماهير، هي في التحرر من نخبوية المثقفين ووصايتهم وأوهامهم (...)»[ix]. نقد يبلغ حد القساوة إذ يتجاوز درك التعنيف ويتعدى حد التعرية، نقد يرى في المثقف منازعا لرجل السياسة في مشروعية حيازته للسلطة السياسية، في حين أنه نفسه سلطوي واستبدادي مع زملائه من المثقفين وأهل الفكر، إذ يدعي التنوير وهو في علاقاته وسلوكاته يعدم كل تنوير وتحرر لأنه يتغيى هو ذاته الهيمنة والسيطرة والنفوذ[x].قساوة نقد المثقفين تسوغ في هذا المقام لتجاوز ثنائية المثقف والسلطة لوضعهما في سلة واحدة وموضعتهما حسب مسعى علي حرب في نفس الخانة الغائية ألا وهي السعي إلى احتكار المشروعية والسلطة. لذا على المثقفين أن يعترفوا أنهم ليسوا "قدس الأقداس ولا رسل الهداية" (التعبير لعلي حرب)؛ ولا هم "ملح الأرض" (ريجيس دوبريه)، بل هم أصحاب مصلحة وسلطة يشكلون مجموعات لا تتقن سوى انغلاقها النرجسي وانعزالها النخبوي، بل «إن السياسي المحترف هو أقل من المثقف ممارسة للعنف، وأقدر منه على تسيير الأمور وتدبير الشؤون العامة»[xi]. يتجه هذا الخطاب الناقد لخطاب المثقفين وممارستهم أبعد من النقد الذاتي ليلتصق بمنطق المفاضلة بين رجل الثقافة ورجل السياسة، مانحا الأفضلية الفائقة وامتياز التفوق لصاحب السلطة السياسية الحقيقية على حساب صاحب السلطة الثقافية الوهمية. أين تتجلى وهمية هذه السلطة المفقودة؟يعدد علي حرب أوهام النخبة الثقافية ويشخصها في: وهم النخبة، وهم الحرية، وهم المطابقة، وهم الهوية ووهم الحداثة[xii]. تحمل النخبة الثقافية وهم نخبويتها وهي لم تنجز المشروع الثقافي الديمقراطي الذي حققته النخب الثقافية الغربية ومكنها من امتلاك سلطة فكرية ورمزية حقيقية. يدافع المثقفون عن الحرية ويرفعونها شعارا وهم أول من يغتالها في محك ممارساتها وفي أبسط اختبار يلاقيهم. يعشش في رؤوسهم وهم المطابقة المرجعية بين ما يعلنونه خطابة ولفظا وبين ما يعيشه الناس حقيقة ومعاناة؛ والحق أن الفاصل كبير بين خطابـهم وواقتع الجماهيـر؛ ويستندون على هوية مفقودة، سديمية، قديمة وغير محددة حيث ينتفخ القول في التراث وينتعش الكلام في الأصالة، بينما هم لم يمسكوا بما في خطاب القدماء من حداثة وأخطئوا موعد معانقة ما في حداثة الغرب من أصالة، وأخيرا يوهمون أنفسهم عبر استعلاء خطابي بأنهم حراس الحداثة وهم غارقون من منابت الشعر إلى أخمص القدمين في أحط أشكال القدامة وأكثر مضامين الارتكاس الماضوي تخلفا.كل الامتيازات الرمزية المتمثلة في أطر مرجعية وغايات حملها ودافع عنها جيل من المثقفين تتحول إلى هدف ومرمى للسهام النقدية التي يقذف بها علي حرب، وكل القيم والمعاني السامية من هوية، حداثة وحرية التي ارتكنت واستكانت إليها "قبيلة المثقفين" تحولت إلى قشة سهلة القسم بمعول التعنيف النقدي في كتابات علي حرب. تتحول قيم المثقفين وغاياتهم السامية إلى مجرد أوهام في عين الكاتب اللبناني الذي يحدد مهمة المثقف في ضرورة تحرره من أوهامه والخلاص من دوره الرسولي الموهوم. ينهي الكاتب كتابه بدعوة فصيحة فصاحة نقده السابق للمثقفين وأوهامهم:«الأجدى بالمثقف أن يشتغل على ذاته وفكره، لكي يتحرر من أوهامه النخبوية (...) مختصر القول: ليس المثقف قائدا للأمة والمجتمع. إنه فاعل فكري يسهم في عقلنة السياسات والمعلومات والممارسات (...) باختصار أشد: المثقف وسيط للحد من الاستبداد والطغيان، بقدر ما ينجح في خلق وسط فكـري (...) وأما الـدور القيـادي والنخبوي فقد أفضى بالمثقف إلى المؤخرة (...) والقول بأن المثقف يمكن أن يلعب دور "الوسيط الفكري" ليس مجرد اعتباط، لأنه إذا كان العالم يتعولم اليوم من جراء ثورة الاتصالات (...) والاتصال يحتاج إلى وسط (...) من هنا فإن المثقف (...) يشكل "وسيطا" بامتياز»[xiii]. هكذا يتقلص دور المثقف في أطروحة علي حرب إلى دور "الوسيط" في زمن العولمة والاتصالات بعد أن جرد من أدواره "الطلائعية" و"الرسولية" ونفض عنه غبار أوهام النخبوية والحرية والحداثة. فهل نشرعن بعد كل هذا الدور الوسيط (السمسار) الذي منحه علي حرب للمثقف في نهاية القرن العشرين وما أشرت عليه أحداث بداية القرن الجديد (أحداث نيويورك وواشنطن في شتنبر 2001 / الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق في 2003) من سيادة أمريكية معولمة؟ هل هي أحداث تشرعن لدور الوسيط أم ترفع مقام المثقف أكثر من مرتبة الوسيط؟4- المثقف ونهايته كداعية:يعلن عبد الإله بلقزيز نهاية دور المثقف كداعية، فيوتوبيا التغيير التي تسند إليه أدوارا طلائعية رسولية هي يوتوبيا منتهية. لكن قبل إعلان تشييع الجثمان الرمزي والاعتباري لوضعية مبالغ فيها لقيمة المثقف، يشخص الكاتب المغربي مجموعة من "أمراض المثقفين"[xiv] المتمثلة في "مفارقات اللاتوازن" التي تطبع خطابات المثقفين وهي محددة في: 1. النرجسية الثقافية. 2. السادية الثقافية. 3. المازوشية الثقافية. 4. المؤامرة. 5. الفوبياء الثقافية. إنها أمراض ثقافية تتلخص إما في الاستعلاء الذاتي الراجع إلى الوهم بامتلاك كل الحقيقة انطلاقا من نخبوية الدور المعرفي الذي هو في حيازة المثقفين، أو تتلخص في الاحتقار الذاتي إذ يرى المثقف في ذاته عديم الجدوى في مجتمـع الأميـة والتأخر، ووسط شعوب أخطأت مع قياداتها السياسية موعدها مع التقدم والحداثة؛ احتقار ذاتي يتأكد حين يقارن المثقف دوره المتقزم بالدور المتعاظم استبدادا ونرجسية بالنسبة لرجل السياسة.ما هي الحصيلة في عمل المثقفين؟ وما هومآل أوضاعهم؟ينزل بلقزيز من مستوى تشخيص "أمراض المثقفين" إلى مستوى تشخيص "الضعف المعرفي" لهذه الفئة التي تتميز على مستوى درجة المعرفة بفقر معرفي يؤثر على قدرتها الإبداعية؛ كما تتميز على مستوى نمط المعرفة بسيادة خطاب وثوقي مطلق[xv]. أما على مستوى غاية المعرفة، فهو خطاب تبرير لا خطاب تنوير، يقول الكاتب المغربي: «الثابت هنا أن المثقفين العرب في معظمهم-أنتجوا ممارستهم الفكرية بما يجافي دورهم المفترض: تخلـوا عن وظيفـة التنوير والإبداع والنقد، وانصرفوا عنها إلى ممارسة وظيفة التبرير، والتسويغ والشرعنة: تبرير آرائهم في المؤسسة (السياسية)، وتسويغ موقفها، وشرعنة وجودها ووظيفتها»[xvi]. اتجهت ممارسة المثقف إذن نحو"مزاحمة" السلطة السياسية في حقل هولها، من اختصاصها ولها به الدراية والحيازة، ففقد بذلك دوره الطبيعي في التنوير وإنتاج المعرفة، وهوما دفعه إلى منطقة التهميش الاجتماعي والاقتصادي بعد استغناء السلطة عن خدماته إضافة إلى تهميش ثقافي مع تراجع قيمة الكتاب وأهمية الكاتب في السوق الثقافية-الرمزية[xvii]. بذلك ينتهي دور المثقف كداعية التصقت أطروحاته، أحلامه وممارساته بمحور السلطة السياسية وبما يدور في فلكها. إلا أن هذه النهاية لا تنبئ بالتشييع النهائي للدور الاعتباري للمثقف والإلقاء بجثته في مقبرة النسيان التاريخي والتجاوز الراهن الذي فرضته سيرورات دولية ووطنية مختلفة أهمها العولمة، أحادية القطب الأمريكي، تفكك المنظومات السياسية والإيديولوجية، بل يمكن تجديد دوره في الالتزام دون أوهام وانتفاخ خطابي وتورم دعائي إيديولوجي، إذ على المثقف الملتزم أن يقلع عن عادة انتداب نفسه للمهام العظمى التي تتعدى حقل الثقافة والمعرفة وأن يهجر دائرة الرؤية الرسولية التي تحجزه في نسيج عنكبوتي لوهم التفوق عل الآخرين[xviii]. يبرز عبد الإله بلقزيز أن الغائب في فكرة الالتزام لدى المثقفين هو"التزام مجال عملهم الطبيعي: المعرفة"[xix]. إن قول كارل ماركس أن على المثقفين (الفلاسفة تحديدا) تغيير العالم لا تفسيره قد عاد عليهم بأوخـم العواقـب وأكثر النتائج درامية، لذا المطلوب منهم اليوم هو تفسير العالم لا تغييره[xx]. يشدد مؤلف "نهاية الداعية" على أن فكرة "الالتزام" لم تشيع إلى مثواها الأخير، لكنها قابلة للتجديد والتحيين بحرص المثقف على الالتزام داخل مجال الثقافة والإبداع داخل حقل المعرفة، لا تقليد رجل السياسة والعراك معه في حقل السياسة والإيديولوجيا.II- في نقد خطاب "نهاية" المثقف و"استقالته"لا يمكننا قراءة كل هذه النماذج لخطاب ناقد للمثقف، معيد النظر في ممارساته السابقة والممتدة على عقود إلا على ضوء التحولات المجتمعية والانقسامات السياسية الكبرى التي انتهت إلى "العولمة" خطابا وتطبيقا، وتوجت ب "نظام عالمي جديد" تعتبر الولايات المتحدة قطبه الأحادي والأوحد، وتجذر بقوة الاستبداد السياسي لأنظمة عربية حاكمة لم تمسسها ريح التغيير الديمقراطي ولا تناوب على كرسي الحكم. من هنا انبثقت معالم المراجعة النقدية-الذاتية لأدوار المثقفين، وهي مراجعة قادنا تشخيصها من خلال استدعاء كتابات لمثقفين عرب إلى تحديد مواطن ضعف المثقفين، كضعف أدى إلى عجزهم عن أداء أدوارهم وتنفيذ مهامهم في حقل الثقافة، حتى لا نقول "رسالتهم" كتسمية تشير إلى الواجب، بل والإكراه عوض الاختيار والحرية كشرطين لتحقق الإبداع وضمان خيال خصب في الدائرة الخاصة بالمثقفين. مواطن ضعف حددت في:* - سيادة مقولة "ثقافة النخبة" التي تكرس طلاق هذه النخبة مع الجمهور، والحال ألا تحررا ثقافيا إلا بتحرر اجتماعي شامل (برهان غليون)* - وهم حيازة سلطة ثقافية تظل مفقودة، يشدد المثقف في المطالبة بها وهو لم يناضل من أجلها لأنه لم يناضل نضالا ثقافيا وسياسيا من أجل الديمقراطية (علي أومليل)* - غلبة أوهام معينة لدى فئة بالمثقفين: وهم النخبة، وهم الحرية، وهم المطابقة، وهم الهوية ووهم الحداثة (علي حرب)* - نهاية المثقف كداعية حيث يشيع دوره كمبشر منافس لرجل السياسة، إلا أن دوره كمثقف ملتزم بالعمل الثقافي لم يشيع، بل هو قابل للتجديد كما هي قابلة للتجديد أطروحة تجديد مبدأ التزام المثقف (عبد الإله بلقزيز)مواطن ضعف كلها تشكل سلبيات، نواقص كانت فيما قبل بمثابة إيجابيات ومواطن قوة بالنسبة للمثقف، بـل وبالنسبة للجمهور ولفئة السياسيين، فنخبوية المثقف نظر لها كامتياز وكتفوق يفارقانه عن باقي أنـواع النـاس.وكل الفئات الاجتماعية، ونضال المثقف السياسي الذي لم يتميز عن نضال رجل السياسة كان شرطا ضروريا بل و"فرض عين" حتى يستكمل المثقف هويته ككائن معرفة وفكر، وأوهامه حول الحرية، الهوية والحداثة كانت سمادا ضروريا يغذي تربة ممارسته الفكرية والثقافية، هذا فضلا عن أن دعايته الإيديولوجية المتخندقة ضمن نشاطه السياسي كانت شرطا ومدخلا لتسجيل حضوره الثقافي، ولنا أن نتوسل في التصنيف الإيديولوجي لأهم الدارسين للتراث العربي-الإسلامي (في شقه الفلسفي) بين باحث ماركسي (مروة، تيزيني) وباحث ليبيرالي (إبراهيم مذكور) وباحث وجودي (عبد الرحمان بدوي) ...إلخ.لم تكن تمنح للمثقف بطاقة هويته "المعرفية" إلا على قاعدة إعلان هوية إيديولوجية وانتماء سياسي واضحين. هل يمكننا إذن أن نجد في هذا المناخ الإيديولوجي "الكلياني" الذي يلحق العمل الثقافي بدوامة الفعل السياسي المبتلع لما عداه من فعل ثقافي، اقتصادي ومدني؟ وهل يشفع استبداد "الانشطـارات والتصنيفات" السياسية للمثقفين "مواطن ضعفهم" و"نواقصهم" (أوهامهم وأمراضهم) كما عينتها الكتابات السابقة؟ لإبراز حدة "التعنيف" الذي نهجته هذه الكتابات في نقدها للمثقفين العرب-وهو نقد وتعنيف للذات وهدم ذاتي للمطبخ الثقافي أيضا- سنعتمد إجراء سهلا ومباشرا، يتمثل في استحضار نماذج كتابات دافعت عن المثقفين وأكدت أدوارهم رغم توجيهها لسهام النقد لهم، وهي كتابات مفكرين غربيين آثرنا استحضار ثلاثة نماذج منها: سارتر، بورديو وغرامشي.1- "دفاع عن المثقفين": هو عنوان كتاب للفيلسوف الوجودي الراحل سنة 1980 جان بول سارتر J.P.Sartre الذي شغل الناس (لا المثقفين أو الطلبة لوحدهم، ولا السياسيين بما سبب لهم من إزعاج) بمذهبه الوجودي الذي كان "موضة فكرية" استوطنت غرفا إبداعية متنوعة: رواية، مسرحية، موسيقى، لباس. كان فيلسوف الفلاسفة، شخصية فكرية سجالية متورطة في الحقل العمومي بإرادة وقوة، جسد في مساريه البيوغرافي والبيبليوغرافي نموذج "المثقف الملتزم" الذي زاوج وصهر قيم الحرية، المسؤولية والالتزام. جاء في تصديره لكتابه المذكور:«إذا لم نأخذ بعين الاعتبار سوى المآخذ التي توجه إلى المثقفين، فلن نجد مناصا من القول بأنهم مذنبون كبار. وإنه لمما يلفت النظر، بالأصل، أن تكون تلك المآخذ واحدة في كل مكان»[xxi]. نزعة تعنيف المثقفين هي نزعة كونية وعالمية إذ توجه إليهم سهام "العنف اللفظي" و"اللوم الخطابي" في كل هزة سياسية أو رجة ثقافية أو قسمة اجتماعية تشرخ الكيان الاجتماعي. ارتفعت سياط العنف الرمزي والتجريح الإيديولوجي للمثقفين في التجربة العربية المعاصرة في أكثر من مرة، في هزيمة 1967، في فترة الحكم الناصري، في مرحلة سيادة "القومية البعثية"، مع صعود الموجة "القذافية" بليبيا، إثر الانتكاسة السياسية مع مطلع عقد التسعينات بالجزائر وما تلا ذلك من حرب أهلية لا زالت مستمرة، وأخيرا وبصيغة أخف في انفجارات 16 ماي بالدار البيضاء حيث يعول على المثقفين لأداء أدوار تثقيفية وتنويرية لسياسة تربوية تقع على الدولة مسؤولية تنفيذها.يحذر سارتر من مخاطر الإمعان في إلقاء اللوم على حفنة مثقفين تأثير عملها لا يقارن بالتأثير الكبير للعمل السياسي للأجهزة والمؤسسات الحاكمة: «خدعوا الشعب! هذا معناه أنهم حملوه على أن يدير ظهره لمصالحه بالذات. فهل يملك المثقفون إذن سلطانا معينا يضارع سلطان الحكومة؟ كلا، فما أن يبتعدوا أو يحيدوا عن النزعة المحافظة الثقافية التي تحدد عملهم ووظيفتهم حتى يوجه إليهم اللوم والتقريع على سقوطهم في مستنقـع العجـز والخوف: من يصغي إليهم؟ وعلى كل حال، إنهم ضعاف بالطبيعة، فهم لا ينتجون، وليس لهم إلا أجرهم أودا لحياتهم، وهذا ما يجردهم من كل إمكانية للدفاع عن أنفسهم في المجتمع المدني وفي المجتمع السياسي على حد سواء (...)»[xxii] (التشديد لنا). لا مجال إذن لمقارنة وضع المثقفين بوضع مؤسسات سياسية حاكمة وأجهزة دولة نافذة، خاصة وأن القاعدة السوسيو_اقتصادية للمثقف هي قاعدة أجير في حالة تبعية للدولة. إن وضعية التبعية هذه تجعل المثقف فاقدا لكل سلطة (لنلاحظ أن الأمر يتعلق بالمثقف في البلاد الغربية!) مما يؤدي به إلى الإيمان بأنه "نخبوي" إذ يحاكم الحاضر انطلاقا من المستقبل ويحكم على الواقع بمنظور "الممكن" بل والمستحيل:«ها هم أولاء إذن عديمو الفعالية، متذبذبون، ونظرا إلى افتقادهم كل سلطة اقتصادية أو اجتماعية، تراهم يعدون أنفسهم نخبة مدعوة إلى تقييم كل شيء والحكم عليه، والحال أنهم ليسوا كذلك. ومن هنا مصدر نزعتهم الأخلاقية والمثالية (فهم يفكرون كما لوأنهم يعيشون من الآن في المستقبل البعيد، ويحاكمون عصرنا من وجهة نظر المستقبل المجردة). ناهيك عن نزعتهم الدوغمائية، فهم يصدرون عن مبادئ مجردة لا تقع تحت لمس ليقرروا ما ينبغي فعله ويتوجب عمله. والمقصود بذلك هنا، بالبداهة، الماركسية»[xxiii] (التشديد لنا). يجد سارتر مبررا للنزعة النخبوية و"الفكروية_الثقافوية" للمثقفين في قاعدة وضعهم السوسيو_مهني، موجها النقد للماركسية تحديدا التي جذبتهم إلى عشها الإيديولوجي الساحر كما تجذب العنكبوت الذباب، والحال أن تفسير سارتر لاعتقاد المثقفين في "نخبويتهم" لا ينزاح عن دائرة التفسير الماركسي_ الطبقوي الذي شرط كل الممارسات الاجتماعيـة المختلفـة (المادية منهـا والرمزية) بشروط الإنتاج وعلاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، كمفردات_مفاتيح سحرية كانت المدخـل السهـل والكسول لمعظم التبريرات التي سادت الاقتصاد الخطابي ونظام الإنتاج التفسيري للمثقفين وأشباه المثقفين، للسياسيين والجمهور من المتعلمين. 2- الموضعة السوسيولوجية للمثقفين: يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو P.Bourdieu أهم مفكر تمكن من دراسة المثقفين دراسة سوسيولوجية موضوعية تحدد أوضاعهم الاجتماعية، وتموضع أفكارهم ورهاناتهم، كما تكشـف عـن أوهامهـم وصراعاتهم. عبر مسار أكاديمي امتد لأكثر من أربعة عقود، لو يهاجر بورديو حقل الاهتمام بالمثقفين كما لم يهاجر اهتمامهم بحقول أخرى كان أولها مند نهاية الخمسينات من القرن العشرين مجتمع الفلاحين بالجزائر، أما آخرها مع نهاية القرن فتمثل في حقل "التلفزيون" وحقل "الهيمنة الذكورية"؛ هذا مرورا بحقول متنوعة كالتربية والتعليم، الفن والإبداع، قضايا ومناهج علم الاجتماع،...الخ. هدم بورديو قلعة حصينة ظل المثقفون يتسترون وراء أسوارهـا وهي قلعة "نخبويتهم" وكونهم أهل فكر ومعرفة يجعلهم بعيدين عن كل تحليل نقدي وبمنأى عن كل دراسة موضوعية. كشف بورديو في كتابيه "الإنسان الأكاديمي" (1984) و"نبلاء الدولة" (1989) حقيقة المثقفين باعتبارهم فئة ترتبط بممارسة اجتماعية موضوعية لها مصالح، رهانات وأفكار خاصة بها. يقول بورديو في كتابه "قضايا في السوسيولوجيا" (1980) «وضعت داخل اللعبة ما يوجد خارج اللعبة: فالمثقفون يتفقون دائما على وضع لعبهم ورهاناتهم خارج كل لعب»[xxiv]. هكذا ينقشع الوهم عن المثقفين بتجسيدهم لامتياز ثقافي واجتماعي فريد من نوعه، ويصبحون كمحللين في وضعية قابلة للتحليل لإجلاء ما يعتمل في مطبخهم من صراعات، رهانات، مصالح وأوهام، إذ «تمنح سوسيولوجيا المثقفين على الأقل إمكانية حرية معينة: فأولئك الذين يقدمون وهما بأنهم يتحكمون في عصرهم يتأكد أنه هو المتحكم فيهم، والمؤثر عليهم بشكل مرعب. إذ يختفون باختفائه، تقدم السوسيولوجيا فرصة للقطع مع الانبهار وفضح علاقة المالك_ الممتلك (...)»[xxv]. هكذا إذن يعمل بورديو على "الفضح السوسيولوجي" للمثقفين، وهو فضح ارتبط ارتباطا عضويا بموضعة ممارسات المثقفين وخطاباتهم_كجزء من الممارسة الاجتماعية الموضوعية_موضعة سوسيولوجية لم تعتمد العنف الخطابي إزاءهم، ولم تسلك مسلك التجريح أو هدم البيت الداخلي بنزعة سادية_استعلائية أونزعة مازوشية_تدميرية للذات. لذا ورغم المسار الأكاديمي الغني والمتنوع الذي اجترحه بورديو لنفسه كمفكر عالمي (تحول إلى مؤسسة ثقافية وسلطة فكرية) فهولم يهجر الدائرة التقليدية لما ينبغي للمثقف تأديته من دور ووظيفة؛ ولم ينزو في برجه العاجي، بل والذهبي الذي منحته إياه مسيرة تراكم علمي زاوج بين السبر الميداني المتنـوع التقنيـات المنهجيـة والتركيب النظري المتعدد المقاربات السوسيولوجية، بالعكس فقد التصق بورديو بالشارع وجسد نموذج "المثقف الملتزم" أو نموذج "المثقف العضوي" (غرامشي)، إذ كان في طليعة الحركات الاحتجاجية بفرنسا سنة 1995، مؤازرا لحركات المهمشين والمعطلين سنة 1998، ناقدا التيار الجارف للعولمة الذي يهدد الذوق الجميل والحكم الموضوعي الرصين (كتابه "ضد النار"Contre_ Feux الصادر سنة 1998)؛ كاشفا عن إيديولوجيـا الإعـلام والاتصال والاستبداد الذي يمارسه التلفزيون (كتابه "حول التلفزيون" سنة 1997).بورديو الذي كانت له حيازة سلطة ثقافية كبرى، نزل إلى الشارع، وأغضب السياسيين كما أغضب فئة غالبة من المثقفين التي نظرت لتدخله الاجتماعي باعتباره تدخلا سياسيا لا تدخلا ثقافيا، والحال أن بورديو ورغم تعريته السوسيولوجية لوضعية المثقفين، فهو لم يدفع بهذه التعرية صوب دوائر الصمت والاستقالة وتشييع المثقف نحو مثواه الأخير كما يفعل مثقفونا العرب اليوم؛ بل هو فتح النار على السادة الجدد للعولمة متمثلين في أرباب الشركات الكبرى والقادة السياسيين، ومالكي المقاولات الإعلامية النافذة. كتب فاضحا النزعة الميركنتيلية للسادة الجدد، ناقدا نزعة التبضيع الثقافي التي اجتاحت حقول الإعلام والثقافة والاتصال وذلك في مداخلته الشهيرة بتاريخ 11 أكتوبر 1999 أمام "المجلس العالمي لمتحف التلفزيون والراديو"[xxvi]، كما دعا في آخر مقال صدر له بعنوان "من أجل معرفة ملتزمة" إلى ضرورة تشجيع خلق "حركة اجتماعية أوربية" مضادة للعولمة وذلك بحضور طلائعي للمثقف المناضل وفعالية ميدانية للحركات النقابية التي عليها تجاوز عوائقها السياسية، التنظيمية، الفكريـة بهذا التوصيف الموجز لحالة بيير بورديو نكون قد أبرزنا أن النقد الحقيقي للمثقفين لا يكون بالتضخم الخطابي التجريحي، ولا "برمي الرضيع مع الغسيل" حيث تكون الغاية نقد المثقفين بهدف تحفيزهم على العطاء الثقافي، فتنتهي إلى رميهم مع موضات إيديولوجية وتيارات سياسية آفلة. قدم بورديو نموذج المثقف العالمي الذي_ومن كثرة تراكم أبحاثه ودراساته وخاصيتها النوعية_ نزل إلى الشارع وشحذ سلاح النقد الاقتراحي معضدا حركات احتجاجية، معريا المقولات الإيديولوجية للعولمة والسلطة الرابعة وحرية التعبير، داعيـا إلى التموضـع النقـدي والسياسي للمثقف ضد التيار الجارف للعولمة وضد السلط الظاهرة والخفية للمال الذي يظل في حيازة كماشة "سادة جدد" يريدون أن يحولوا سكان الكوكب إلى "عبيد القرن 21"، فهل من وعظ ودرس للمثقف العربي؟ 3- "المثقف العضوي": يرتبط هذا التوصيف المركب بالمفكر والقائد السياسي للحزب الشيوعي أنطونيو غرامشي A.Gramsci. المثقف العضوي لا يختزل فهما وتعريفا في ذلك المثقف المرتبط بالجماهير فحسب، الراغب في التغيير والذي يعمل أوعليه أن يعمل من أجله. "المثقف العضوي" في فكر غرامشي هو صاحب مشروع ثقافي يتمثل في "الإصلاح الثقافي والأخلاقي" سعيا وراء تحقيق الهيمنة الثقافية للطبقة العاملة بصفة خاصة وللكتلة التاريخية بصفة عامة ككتلة تتألف في الحالة الإيطالية لعشرينات القرن العشرين (وغرامشي يفكر من داخل السجن) من العمال بالشمال والفلاحين بالجنوب و"المثقفين العضويين" الذين لهم قدرة صياغة مشروع "إصلاح ثقافي وأخلاقي" وإرادة هزم الكتلة التاريخية القديمة المؤلفة من برجوازية الشمال وإقطاع الجنوب و"المثقفين التقليديين" أصحاب المشروع الفكري المحافظ والإيديولوجيا السياسية اليمينية المرتبطين بالكنيسة والإقطاع. شكل تفكير غرامشي في مسألة "المثقف العضوي" تجديدا جريئا داخل الفكر الماركسي استحق عليه غربة فكرية وسياسية وإخفاء لجل نصوصه لمدة ثلاثة عقود من طرف قادة الحزب الشيوعي الإيطالي. فكر غرامشي بمرجعية جديدة أساسها الموضعة التاريخية لدور المثقف في التغيير ما دام أن الصراع بدول أوربا الغربية_بعد فشل الأحزاب الشيوعية بهذه المنطقة في تحقيق أهدافها_ هو صراع على الأجهزة الثقافية والإيديولوجية (مدرسة، كنيسة، إعلام،...الخ) وليس صراع على الجهاز السياسي للدولة وخاصة أجهزتها القمعية (بوليس، جيش). كان الصراع في التجربة السوفييتية لثورة أكتوبر 1917 صراعا على الجهاز السياسي، فسهل كسب المعركة داخل المجتمع السياسي. أما في أوربا الغربية حيث للبرجوازية تاريخ ثقافي مكنها من الهيمنة على الأجهزة الثقافية_الإيديولوجية، فإن الصراع سيكون داخل المجتمع المدني لا المجتمع السياسي، وستكون لحرب المواقع أهميتها الإستراتيجية حيث للمثقف العضوي دور أساسي لا يتمثل في «الفصاحة المحركة للعواطف والانفعالات، بل الاندماج بالحياة العملية، والقدرة على الإقناع والتنظيم»[xxvii]. لم يفرج عن فكر غرامشي من داخل السجن الدوغمائي للماركسيين الإيطاليين إلا في عقد الستينات من القرن العشرين، ليتسلل إلى دوائر النخبة الثقافية اليسارية بفرنسا وأمريكا اللاتينية، ولم يدخل ضيفا_لأمد قصير_ إلى البيت اليساري العربي إلا في نهاية عقد السبعينات وطيلة عقد الثمانينات، خاصة مع المراجعات التي بلورتها أطر اليسار الجديد والتي رأت في فكر غرامشي سندا قويا ضد الدوغمائية السائدة في الأحزاب اليسارية التقليدية. إلا أن استقراره ببيت الفكر اليساري العربي كان استقرارا قصيرا عصفت به التفككات الجيو_سياسية الدولية وفي مقدمتها تفكك الكتلة الشرقية في نهاية 1987؛ وسيادة العولمة كنمط إنتاج ثقافي، اقتصادي وسياسي مهيمن على المستوى الكوني. وبذلك يثبت الفكر العربي أزمة علاقته بالإطار المرجعي، إذ سرعان ما يغير اعتماده على الإطار المرجعي، وكأنه عكاز هش آيل إلى الانكسار السريع، ولنا في تاريخ تلويـك شعارات "النهضـة" و"التقـدم" و"القومية" و"الثورة" و"التحرير" ...الخ ما يسعفنا على الإدراك الحقيقي لسرعة تبدل الشعار أوالمقولة الذي تحقق في الغرب واقعا ولم يقتصر على مجال الحلم والاستيهام. نفس الأمر حدث للفكر العربي السياسي اليساري مع مفهوم " المثقف العضوي" حيث عادلت سرعة اعتناقه سرعة الخلاص منه. لماذا هذا الاستطراد في بسط الأطروحة الأساسية الغرامشية؟ ولم هذا الاستنتاج الفصيح في حق "النزعة الانقلابية اليسارية"؟ كان الغرض هوإبراز أن مفهوم "المثقف العضوي" عند غرامشي لم ينفصل عن مكان هو إيطاليا وزمان هو عشرينات القرن العشرين، كما أن مشروع المثقف العضوي الكامن في الإصلاح الثقافي والأخلاقي لا ينفصل عن القاعدة الاجتماعية_الاقتصادية. يتساءل غرامشي « هل يمكن تحقيق إصلاح ثقافي، أي الرفع من المستوى "المدني" للشرائح الاجتماعية الدنيا، دون إصلاح اقتصادي سابق وتغيير في الوضعية الاجتماعية والمستوى الاقتصادي»[xxviii]. لا نبتغي العودة إلى قصة لمن الأسبقية الزمنية في الوجود للدجاجة أم للبيضة، لنطبقها على علاقة الإصلاح الثقافي بالتغيير الاقتصادي والاجتماعي. إلا أن غرامشي يظل فصيحا في تفكيره وهو يتعقل دور "الأمير الحديث" (الحزب السياسي الذي ينشد التغيير)، حيث أن عمل المثقف في العمل داخل الحقل "المدني" والرفع من وعي الشرائح الاجتماعية الدنيا مشروط بوجود قاعدة سوسيو_اقتصادية ممهدة لعمل المثقف وداعمة لمشروعه الخاص بالإصلاح الثقافي والأخلاقي. فهل نحتاج بعد هذا لمزيد بيان لإقناع من يرفعون سياطهم للتنكيل بجثة المثقف العربي الذي افتقد الأساس المادي لفعله الثقافي وكان "سيزيفا" تحول إلى درويش، موظف مستكين، أو معتقل سياسي؟إن استدعاء علامات فكرية وازنة مثل سارتر، بورديو، غرامشي هو استدعاء لا ينخرط ضمن الرغبة في استنساخ ما أكدته هذه العلامات، كما لا ينخرط بصيغة أوضح ضمن الانشداد الأعمى والتكرار "الببغاوي" لمقولات وأحكام هذه العلامات في حق المثقفين، كمقولات وأحكام كانت نقدية إزاءهم حد القساوة، لكنها أناطتهم بأدوارهم "التقليدية" و"الثابتة" كمثقفين. إنه استدعاء ينخرط ضمن تجديد الدعوة بضرورة استمرار الاعتقاد في دور المثقف (لا رسالته الخالدة)، والتفكير في وسائل عمله المعرفي_التنويري_النقدي، وتجديد مهمته في الالتزام. لا يمكن إنكار البعد النقدي لكتابات عربية نقدية تجاه المثقف العربي، إلا أنه تقييم يلقي "بالرضيع مع ماء الغسيل" ويشيع المثقف تشييعا نهائيا إلى مثواه الأخير: مثوى الصمت، مثوى العجز، مثوى الاستقالة المفروضة أو الاختيارية.والحال أن الحاجة إلى المثقف ما زالت حاجة قائمة وراهنة، بل هي حاجة اشتدت وتعاظمت بتعاظم النكسات والهزائم التي شلت الكيان العربي قيادة وشعوبا، ثقافة وسياسة. غير مطلوب من المثقف العربي أن يكون داعية إيديولوجيا، رجع صدى أو ببغاء يردد الشعار السياسي للحاكم أو معارضا سيزيفيا ينوب عن أوسع الشرائح الاجتماعية في صياغة مطالبها والدفاع عنها. وغير مطلوب منه أن يعمل على "تجسير الفجوة" بينه وبين الأمير/الحاكم (أطروحة صاغها الباحث الاجتماعي المصري_الأمريكي سعد الدين إبراهيم منذ عقدين وأثارت زوبعة من النقاشات وردود الأفعال). غير أنه مطلوب منه ألا يقتات من فتات موائد الحكم السياسي، وأن يتقن حرفته كصانع للأفكار التي قد تفيد "الشعب". لذا تظل نقطة تحيين مسؤولية المثقف في الالتزام بقضـايا اجتماعيـة وسياسية أول نقطة على جدول أعمال المشروع الفكري الموكول للنخبة الثقافية، فعناوين فلسطين، احتلال العراق، أحداث 16 ماي بالبيضاء، العولمة، البطالة ...الخ هي كلها عناوين تشي بحيوية وظيفة المثقف رغم حالات الإحساس بالعجز ومظاهر الانتكاس والارتشاء التي تظهر هنا وهناك. من هنا يكون مقالنا بمثابة "بيان من أجل تجديد التزام المثقفين". | |
|
الإثنين يونيو 04, 2012 6:39 pm من طرف احمد اسماعيل