أزمة
المثقفين العرب*
(1)
أين بصيص الأمل...
وتلك حالنا؟!
حاكم
مردان
لا
يفارق
الأملُ هشام شرابي – وإن بصيصاً. يرصد في نصوص
ومقالات "أزمة المثقفين العرب"، رغم أن
إدراكه عمقَ أزمتهم لا يدع للقارئ مجالاً
للشك في استحالة حَلْحَلَتِها، على الأقل في
المدى المنظور. فـ"الشروط" التي يضعها
الكاتب يتفق معه كلُّ مثقف، بل كل عاقل، على
وجوب اكتمالها، وعلى أن لا مجال في حالتنا
الراهنة لتحقيقها. فلا المرأة العربية تحررتْ
(والكاتب يؤكد على أولوية تحرير المرأة وصولاً إلى تحرير المجتمع)؛ ولا البنية
البطركية في مجتمعاتنا تغيرت؛ إلى غياب الخطة
الاقتصادية التي تجعل العالم العربي، الغني
بالثروات والطاقات البشرية، وحدةً متكاملة؛
وأخيراً غياب الحرية التي يُفترَض، كأساس
لتطور أيِّ مجتمع، أن يتمتع بها المثقفون
العرب الذين لم يبقَ أمامهم، منذ تشكل الدولة
الوطنية بانتهاء مرحلة الاستعمار، سوى
انتهاج أحد طريقين: القبول بالواقع الجديد
الذي بدأ ينحرف، توَّ جلوس القائد "المحرِّر"
على كرسي الزعامة، عن مسار الثورة وما وعدتْ
به الناس من خبز وحرية وسلطة شعب، ولم يُبْقِ
للمثقف من مهمة سوى الانخراط في الآلة
الإعلامية والمنظومة الفكرية (الثوروية)
للسلطة الجديدة، باصماً بالصدق والحق على كل
ما تقوله، ومدافعاً عن كل ما تفعله، ومبرِّراً
ومادحاً لما بدأت ترتكبه من أخطاء، وَصَلَ بعضُها إلى حد
الكارثة، إنْ على
البلاد والعباد أو على أحلام الثورة نفسها
التي دفعت الاستعمار بعيداً لتحتل مكانه
ولتجعل شعوبها، بالتالي، تترحَّم على تلك
الأيام!
أما
الطريق الأخرى المتبقية للمثقف فهي المنفى.
ومن تجربة شخصية أعتقد أن معظمهم يؤثر الخيار
الثاني، إن وجد إليه سبيلاً. وثمة قلة اختارت
البقاء، مفضلة السكوت. وهؤلاء، رغم حسن
نياتهم، سيصيرون في عداد الساكتين عن الحق؛
والمثقف الحقيقي لا يرتضي لنفسه دور الشيطان
طويلاً!
يضع
هشام شرابي يده على أكثر من جرح (لا تزال
مفتوحة كلُّها ونازفة) في جسم الواقع العربي:
"غربة السلطة عن شعبها وإبعاده عن المشاركة
في اتخاذ القرارات التي تحكم مصيره وإخضاعه
لمبدأ القوة"، إلى حرمان المرأة حقوقها (والرجل
بالطبع!)، وغياب المجتمع المدني، وضياع
الحقوق الإنسانية، إلى ما هنالك. ومن البديهي
أن بلاداً وأمماً تعاني هذه الأمراض (التي أقل
ما يقال فيها إنها كانت سمات القرون الوسطى!)
ليس في وسعها أن تتحدث عن علاجات تساعدها على
دخول القرن الحادي والعشرين إلا بطرق إنشائية
(كلامية) تفتقد أبسط القواعد الموضوعية.
ولا
أحد، مهما أكثر من إيراد المثالب، يسعه أن
يزيد على الواقع شيئاً؛ بل على العكس، ثمة
التركيبة القبيلية وعصبياتها المتغلغلة في
النفس العربية التي لم يفلح الدين نفسه، بما
يتمتع به من فرادة في السيطرة على روح الجماعة، من القضاء
عليها، فظلت منافِستَه
الشرسة على مدى الحروب التي شهدها المسلمون
العرب في ما بينهم، مستخدمة الدين غطاء لها.
وإذا كنا نشهد اليوم ردَّة أصولية فهي بنظر
الدارس، في حقيقتها وجوهرها، انتصارٌ
للعصبية القبلية التي ظلت، مذ دخلت الإسلام
كدين جديد (منتصر)، مثل النار تحت الرماد، حتى
تمكَّنت منه أخيراً على يد الأصولية.
أين
يكمن، إذن، بصيص الأمل الذي يشعر هشام شرابي
بوجوده – والحالة ما ذكرنا – بل يفيض في أكثر
من محاضرة في كتابه عن سوئها (أي الحالة)
البالغ ووضعها الميؤوس منه؟! في محاضرة
ضمَّها الكتاب عنوانها "المواقف السياسية
والثقافية للجيل العربي الناشئ" (بترجمة
محمود شريح) – وهي في رأيي واسطة العقد في
الكتاب، رغم أنها أُلقِيَت في واشنطن عام 1962،
ولم تفقد شيئاً من عمق تحليلها لحال المثقف
العربي، والسياسة والاقتصاد العربيين،
وعلاقة هؤلاء بالغرب ومفاهيمه وحداثته،
والبون الشاسع بين أولئك وهؤلاء وما
يتبادلونه من علاقات، بتبعية الأولين وهيمنة
الأخيرين، إلى جذور هذه العلاقات التي قامت
على الحروب حيناً، وعلى تبادل الثقافات حيناً.
فبعد كل ما جاء في هذه المحاضرة ينتهي هشام
شرابي إلى العبارة الآتية: "في اعتقادي أن
حركة التحرر العربية لن تتخلَّى عن أهدافها
أو تتنكر لها، بل ستؤسِّس لحضارة جديدة في
العالم العربي"! ولا يسعنا إلا التساؤل،
بعد مرور أربعين عاماً على إلقاء المحاضرة –
ونحن اليوم لا نعيش بؤس الواقع فحسب، بل ضياع
الحلم؛ والمثقف العربي بات أكثر انسحاقاً من
قبل بين أنظمة تعسفية تطارده، وأصولية
تكفِّره، ومنفى أضاعه –، إن كان د. شرابي لا
يزال على إيمانه ببصيص النور ذاك أم سيعدل عن
رأيه!