﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾
الواقع والمشروع والمبادرة
عبد الرحمان السالمي*
تشير الآية الكريمة التي جاءت شعاراً للعدد العاشر ومحوره إلى طرفَي المعادلة: المشروع، مشروع الحياة الحرة والكريمة والإنسانية.
وضرورة
المبادرة بالاستجابة للمشروع بما يضع زمام الأمور في أيدي المؤمنين
والصالحين. يقول علماء فقه اللغة القرآنية القُدامى إنّ الأدوات إذا وعسى
ولعلَّ، تفيد في القرآن بخاصةٍ التحقُّق وليس التشكُّك أو الاحتمال. ولذلك
تصبح منظومةُ الحياة القرآنية مكوَّنةً من المشروع الإلهي، الذي يُخاطَبُ
به الذين آمنوا، والطلبُ منهم أن يبادروا للقيام على المشروع وتحقيقه، ثم
هذا النّهج الذي يتضمنه المشروع الجليل لحياةٍ إنسانيةٍ كبرى وعظيمة. ولكي
يكونَ واضحاً منذ البداية ما المقصودُ بالمسألة، ذكر القرآن أنَّ المخاطَب
بالمشروع إنما هم المؤمنون. وليس ذلك على سبيل الاستحثاث وحسْب، بل
باعتبار أنّ المبادرة لتحقيق المشروع إنما هي من مقتضيات الإيمان.
فالإيمانُ بالله والتصديقُ لرسوله -صلى الله عليه و سلم- تأسيسٌ يقامُ عليه
البنيانُ والعمران، ثم تأتي المبادرةُ لتحقيق النهج للحياة الصالحة.
فالمؤمُن صاحبُ رسالةٍ تُجاه نفسه ومجتمعه، وتُجاه العالَم الأوسع.
واقتصارُ الأمر على النفس حريٌّ أن ينجيه بالمعنى الفردي القائم على
الإيمان وتأدية الأركان. بيد أنّ المشروع الاجتماعيَّ كفيلٌ بتجاوُز النجاة
الفردية إلى النجاة الجَماعية، ولن يحصُلَ ذلك إلاّ بالمبادرة من جانب
الأفراد والجماعات في صفوف المؤمنين: ﴿كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس، تأمرون
بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾. هنا تقوم الخيريةُ على العلاقة
بالنّاس. الإيمـانُ بالله –عزّوجلَّ- هو المنطلقُ الذي دفع إلى المبادرة،
أو إلى القيام بتلك الرسالة الكبرى.والواقعُ
أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع الإسلامي وخارجه، هو الذي
يحدّد المعالمَ الكبرى لمبادرة الخير تلك، فمبادرةُ الحياة هي مبادرةُ
الخير، ومبادرةُ الخير مضمونها: عملُ المعروف وطلبُهُ تُجاه المسلمين
وتُجاه العالَم، والعملُ على أن لا يسودَ المنكَرُ والشرُّ لا في مجتمعات
المسلمين، ولا في العالَم. هذا الأمرُ أو هذا الترابُطُ بين الإيمان
والمشروع والمبادرة واضحٌ منذ السُوَر القرآنية الأولى: ﴿والعصرِ، إنّ
الإنسانَ لفي خُسْر، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصَوا بالحقَّ
وتواصَوا بالصبر﴾. فالمؤمن لا تتوقّف مهمتُهُ عند الاستقامة بالإيمان، بل
تتواصَلُ بعمل الصالحات، وبأن يسعى تجاه الآخرين من أجل الحقّ والصبر على
نهجه لتغيير المسار من أجل الخير والعدالة والحياة الإنسانية الكريمة
والمستقيمة والمستمرة ازدهاراً وإعماراً. بعد
الإيمان إذن هناك عدة احتمالات: احتمالُ الاكتفاء بالنجاة الفردية،
واحتمالُ المبادرة لإنشاء مجتمع المعروف وعالَم المعروف، واحتمالُ المُضيّ
في نهجٍ يساورُهُ الخطأُ و الخَطَلُ لدوافع فردية أو فئوية. في الاحتمال
الأول تذكّرنا الآياتُ الكريمةُ بأنّ تلك القناعة وذاك الاكتفاء ليس من شأن
المؤمنين ولا من شأن الصالحين المُصلحين: ﴿ولتجدنَّهم أحرصَ الناس على
حياة﴾، أي حياة. الحياة التي لا تتضمنُ أملاً ولا طموحاً ولا سعياً للتغيير
باتجاه الأفضل. ولا يمكنُ اعتبارُ ذلك طبعاً شراً من الشرّ، لكنّ الخيرية
منتفيةٌ لأنه لا دعوةَ في هذا المسلك ولا سعيَ من أي نوعٍ لكي يتجاوزَ
الإيمانُ بابَ الدّار إلى المجتمع الأَوسع. وفي الاحتمال الثاني: المبادرة
الخيرّة تتحققُ دعوةُ الخير ويتحققُ نهجُه. وليس معنى ذلك أنّ احتمالَ
الخطأ في هذا النوع من المبادرات غير وارد، لكنه يبقى عُرضةً للتصحيح
والتسديد بما ذكرهُ القرآنُ تواصٍ بالحقّ وتواصٍ بالصبر. والتواصي بالصبر
إنما هو طلبٌ بالاستمرار في نهج الخير رغم الصعوبات والشدائد. الصعوبات
الناجمة عن عمل الخير، والصعوبات الناجمة عن التصدّي للمنكَر ونهْي أهله أو
مرتكبيه عن الإصرار على الخطأ والإنذار بتحمُّل نتائجه. فعندنا من جهةٍ
الخيرُ القائمُ، وعندنا من جهةٍ أُخرى المسؤوليةُ عن التسديد والتصحيح
بتوفيق الله سبحانه، وبإرادة التحقُّق والالتزام. ويبقى
الاحتمالُ الثالث: احتمالُ السير في النهج السلبي أو المُخطئ، وهذا
الاحتمالُ يَرِدُ بالنسبة للأفراد والفئات، ولا يَردُ بالنسبة لجماعة
المؤمنين أو لأُمتهم. وهنا يكونُ على الجماعة الوقوفُ في وجه أولئك الذين
يسيئون إلى التزامها وإلى عالَم الخير الذي تسعى لتحقيقه. فالالتزامُ
مسؤوليةٌ كبرى تُجاه النفس وتُجاه الآخَر المؤمن وغير المؤمن. أمّا غير
المؤمن فالالتزامُ تُجاهه الدعوةُ بالحُسنى، وإيضاح النهج السليم. وأمّا
المؤمنُ المُخطئ فالالتزامُ تُجاهَهُ وتُجاه الإسلام بالتسديد والتصحيح أو
نتحمّل مسؤولياتٍ كبرى تُجاه الإسلام الذي يجري تجاهُلُ دعوته وتجاهُل
نهجه. والحقُّ
أنّ ما نعانيه اليومَ يتراوحُ بين الاحتمالين الأول والثالث. هناك مَنْ لا
يرى ضرورةً ولا إمكانيةً للاندفاع في نهج الإحياء والحياة الحرة والكريمة
والإنسانية. وهذا الأمر يعني تضاؤل تأثير نهج الحياة الإسلامية في مجتمعات
المسلمين وفي الخارج. والاحتمالُ الآخَرُ الذي نُعاني منه: إعراض فئاتٍ من
المسلمين عن نهج الخير والحقّ والحياة لصالح نوازع وأهواء وأفكار وممارسات
لا تخدمُ قضايا أُمّتنا بالداخل والخارج: ﴿ولا تتبعوا السُبُلَ فتفرَّقَ
بكم عن سبيله﴾. وإذا لم يكن من حقّ أحدٍ أن يتسبب في غرق السفينة، مسار
الأمة، التي ذكرها رسولُ الله -صلواتُ الله وسلامُهُ عليه- في حديث السفينة
المشهور، فإنّ من واجب أتباع نهج الحياة والإحياء من المؤمنين "أن يأخذوا
على أيديهم" لكي ينجوا وننجوَ جميعاً، وينتصر نهجُ الحياة، الذي أمرنا الله
–سبحانه-، وأمرنا رسولُهُ -صلواتُ الله وسلامُهُ عليه-، بالاستجابة له.*******************************
*) رئيس مجلة التحرير.
الإثنين يونيو 04, 2012 10:39 pm من طرف علي النقاش