تفتتح دار "لادومير" سلسلة جديدة باسم "العالم الإسلامي/ شخصيات" بإصدار
كتاب عن واحد من أشدِّ المفكِّرين المسلمين تطرُّفاً هو محمد بن عبد
الوهّاب، مؤسس الحركة الوهّابية في الإسلام المعاصر. وقد وضعت المؤلفة
الأمريكية (نَتانا دي لونغ– با) كتابها هذا تحت عنوان "إصلاحات محمد بن عبد
الوهّاب والجهاد العالمي" باللغة الإنكليزية، ثم تُرجِم إلى الروسية
ونُشِر في موسكو هذا العام 2010، ويقع في 376 صفحة.
حقّاً، إنه مشروعٌ جَسورٌ، سيّما وأن الكِتاب المذكور ينطوي على محاولة
لتبرير تعاليم هذا المفكِّر المنحدر من الجزيرة العربية والذي يكفي مجرَّدُ
ذكرِ اسمه لاستنفار تداعيات سيئة ترتبط بتلك الموجة من العنف التي اجتاحت
العالم على عتبة القرن الحادي والعشرين. وكيفما كان الحال، فإن الكتاب
الأكثر إثارة للنفور بين مؤلفات محمّد بن عبد الوهّاب هو "كتاب التوحيد"
الذي أدرجته وزارة العدل الروسية في قائمة الأدبيّات المتطرِّفة. أمّا
مؤلفة الكتاب الذي نتناوله هنا فلا تكتفي بكثرة الاقتباس من النصوص
الممنوعة رسمياً في بلادنا، بل تحاول أن تفعل ذلك بروحٍ تُثني على مؤسس
الوهّابية.
ما يبعث على شيء من الطمأنينة هو أن الترجمة الروسية لهذا الكتاب صدرت تحت
إشراف معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وهي مزوَّدةٌ
بمقدِّمة كتبها مدير المعهد فيتالي نعومكِن. وتفادياً لكل لَبْسٍ ممكن،
يشير كاتب المقدِّمة إلى أن الأحكام التي تدلي بها الباحثة الأمريكية "تكشف
عن نبرات رومنسية لا تخلو من سذاجة". على أنه كان يمكن غضُّ النظر عن هذه
السذاجة والرومنسية لو لم يكن الحديث يدور حول ما أسفرت عنه من عواقبَ
وخيمةٍ تلك الحركةُ المتعطِّشة للدماء (الحركة الوهّابية) التي أعلنت الحرب
من أجل انتصار التعصّب الديني على كل مَن وما في هذا العالم.
إن العنوان الأصليّ الأكثر دقّة لهذا الكتاب يمكن أن يتَرجَم على النحو
التالي: "الإسلام الوهّابي من اليقظة والإصلاحات إلى الجهاد العالمي". وهنا
بيت القصيد، هنا يكمن كل جوهر المقارنة المبدئية التي تعقدها الباحثة
الأميركية، إذ تقول إن محمد بن عبد الوهّاب هو نفسُه من "أحيا" نقاء
الإسلام، (أعاد له نقاءه)، وما الدعوات إلى العنف إلا تشويهٌ لحِقَ بأفكاره
على أيدي الأيديولوجيين المعاصرين ورجال الإرهاب الذين يُنسَبون إلى
الوهّابيين الحقيقيين بسبب سوء الفهم لا غير!
تبذل نَتانا دي لونغ– با قُصارى جهدها في محاولةٍ لإثبات فكرةٍ مفادُها أن
التصورات المتعلِّقة بنشر العقيدة الصحيحة (الإيمان الحق) تختلف جذريَّاً
عند محمد بن عبد الوهّاب عمّا هي عند معاصرينا من المتطرِّفين الإسلاميين
اليوم. فهي تزعم أن محمَّد بن عبد الوهّاب، الفقيهَ القادم من القرن الثامن
عشر، يتحدَّث عن أفضلية الدعوة السلمية لنشر الدين الصحيح (الإسلام
النقيّ)، ولا يعترف بالحرب المقدَّسة إلا إذا اقتضت الضرورة دفاعاً محدوداً
عن هذه الجماعة من المسلمين أو تلك. بينما يتَّخذ أسامة بن لادِن وغيرُه
من دعاة الإرهاب موقفاً مختلفاً، فيؤيِّدون خوض حرب شاملة ضد كل العالم غير
المسلم، وذلك من أجل إرغام البشرية على اعتناق الإسلام بالقوّة. وعليه،
فإن محمَّد بن عبد الوهّاب، وَفق هذا الادِّعاء، يؤيِّد التعايش السلمي
المشترك مع اليهود والمسيحيين، فيما الراديكاليون مقتنعون بوجود مؤامرة
عالمية حاكها "الصهاينة والصليبيون" ضد الإسلام.
ولكنْ، من أين، إذاً، تستمدّ أيديولوجيا الإرهاب الإسلامي الحاليّ
جذورَها، إن لم تكن تستمدّها من أفكار ابن الجزيرة العربية، محمد بن عبد
الوهّاب، الداعي إلى العودة بالإسلام إلى نقائه الأوّل؟ إن دي لونغ– با
تكشف عن وجود تلك الجذور في موروث القرون الوسطى، وفي الفكر الراديكالي
الذي كان سائداً في أواسط القرن العشرين على حدٍّ سواء. إذ ترى هذه الباحثة
الأميركية أن منظومة الآراء ووجهاتِ النظر عند بن لادن وتنظيم "القاعدة"
إنما تأثرت أكبر تأثير بأفكار الفقيه السوري ابن تيميَّة الذي عاش في القرن
الثالث عشر، وقسّم العالم إلى قسمين، هما: "ديار الإسلام"، و"ديار الكفر"،
ولا يمكن أن يكون بينهما إلا المواجهة والحرب. لقد وصلت هذه الأفكار إلى
المجاهدين المعاصرين بشكلٍ معدَّلٍ من خلال كتب أحد أقطاب (1) "الإخوان
المسلمين" في مصر، وهو سيِّد قطب الذي أمضى حياته كلها في النضال ضدَّ
"المؤامرة الصهيونية المسيحية" وحكومة بلاده.
غير أن نَتانا دي لونغ– با لا تستطيع أن تنكر تلك الشحنة من التعصب الذي
تتصف بها تعاليم مجمد بن عبد الوهّاب حول التوحيد النقيّ. فهي تقدِّمه في
كتابها وكأنه يوشك أن يكون أوّل مناصر في التاريخ لحقوق الإنسان، بل ولحقوق
النساء قبل كل شيء. وهناك في كتابها باب كامل موسوم بعنوان غريب هو
"النساء والوهّابيون: دفاعاً عن حقوق النساء". ولكنْ، أَليس هذا "المُدافع
عن حقوق الإنسان" هو مَن حارب "البِدعَ الجديدة"، وأباد الغابات المقدّسة،
وهدّم أضرحة الصوفية، وهاجم الشيعة، ودعا إلى إنزال أشدِّ أنواع العقاب بمن
يخالف تعاليم الإسلام في مجال الجنس؟ لقد دعت الوهّابية بحميّة فائقة إلى
القضاء على السَّحَرة والمنجِّمين (قبل مدّة قصيرة قٌتِلت امرأة في قطاع
غزّة بتهمة ممارسة "السحر"). هذا هو التطبيق العملي للأوتوبيا الإسلامية
على الطريقة الوهّابية.
ولْنفترضْ أن ذنْب الفقيه محمد بن عبد الوهّاب نفسِه ليس كبيراً إلى هذا
الحدِّ، وإن كان هذا موضوعَ نقاش، إزاء ما أظهره شخصيّاً من تعصُّب. إلا
أنه هو مَن أورث أجيالاً كثيرة من أتباعه تلك الشحنة من الراديكالية. على
أن هناك نظيراً أوروبياً لهذا الواقع. إذ صحيح أن بعض الفلاسفة والشعراء
الألمان لم يلوِّثوا أيديهم بالدم، ولكنهم – مع ذلك – يُعَدُّون الملهِمين
الفكريين لأوسفينتسِم.
فلماذا بادرت الباحثة الأميركية دي لونغ- با إلى التنقيب في كتب مؤسس
الوهّابية بهدف إعادة الاعتبار إليه؟ إننا نستطيع أن نجد الجواب في نشأة
نَتانا دي لونغ- با نفسها. فقد وُلِدت في بيت عائلة من الكهنة البروتستانت
يُرجَّح أنها ذاتُ توجُّه أصولي. من هنا يأتي تعاطفها مع التزمّت المجنون
الذي اتّصف به بطلها الوهّابي، ومع دعوته إلى التمسّك بحرْفية النص المقدّس
وإن لم يكن نصّاً مسيحياً. هذا التشدُّد الأصولي ظاهر في متن كتابها نفسه
(ص 22). زِدْ على ذلك أن الأصل الإنكليزي رأى النور سنة 2004، أي في عهد
جورج بوش الابن الذي ترتبط عائلته مع الملوك السعوديين بمصالحَ وعلاقات
عملٍ وثيقة. هذا السعي إلى إظهار وجود هوّة سحيقة مزعومة بين الوهّابية
الكلاسيكية التي يعتنقها سكان السعودية ونخبتها من جهة، وبين أيديولوجيا
أسامة بن لادِن من جهة أخرى، هو ما يمكن أن يكون الدافع الرئيس لتأليف هذا
الكتاب. وبهذه الطريقة يُدعى الأميركيون إلى عدم الخوف من إقامة علاقات بين
الأُسر الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية.
كما يمكن أن يكون نشر ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الروسية إنما يتوخّى
الهدف نفسَه، ولكنْ باتّجاه التقارب الروسيّ السعوديّ.(2)
الهوامش: 1- خطاً يقول المؤلِّف إن سيِّد قطب هو مؤسس حركة "الإخوان المسلمين" في
مصر. بينما كان حسن البنّا هو من أسس هذه الحركة عام 1928. – م.
2- هذه المقالة مأخوذة من "ملحق الأديان" الصادر عن صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا "الروسية Nezavisimaja gazeta بتاريخ 1- 9 –