من
المعلوم أن كتاب "الإسلام. نزوات العنف واستراتيجيات إصلاح"(2006)للكاتب
التونسي محمد الحداد من أهم الكتب الإصلاحية العربية المعاصرة، التي تؤسس
لرؤية جديدة للفكر العربي الحديث والمعاصر.
هذه
الرؤية المنهجية تنجلي في استثمار منهج الحفريات التأويلية ومقولاته
وتصوراته ومفاهيمه بصور مختلفة وبمستويات متباينة. وبهذا الاعتبار، فإنّ
منهج الحفر التأويلي يدرس"التمثلات التي تقيمها الذاكرة الجمعية من خلال
تقبله للأحداث…فالتأويل ولئن استند إلى الأحداث، فإنّه لا يتوقف عند
حدودها، بل يتجاوزها نحو دلالات عامة هي غير الدلالات المفردة للأجزاء".(ص
24 من كتاب:" الإسلام. نزوات..").بمعنى أنّ هاجس التأويل في تناول قضايا
الفكر النهضوي هي من مداخل قراءة الفكر ذاته وموضوعاته. فانظر كيف انطلق
الرجل من فرضيات وحقائق تمهّد لهذا المنهج الحفري التأويلي.
فالفرضية
الأولى هي اعتبار أنّ العقود "القائمة والمراحل التاريخية المقبلة ستكون
عالميا عقودا ليبرالية"(ص 7 من المرجع ذاته). أما الفرضية الثانية فقد
تمثلت في اعتقاد محمد الحداد في أن مستقبل الثقافة العربية لا يكون إلا من
خلال متغيرات العالم وتحولاته المشهودة، على أساس أنّ الأمر لم يعد في
دائرة الثوابت والأصول بقدر ما أضحى التفكير اليوم مرهونا بتأمل المتغيرات
واقتناص التحولات. فهي، بذلك، مرتكز الانتقال من تفكير منغلق إلى تفكير
منفتح.
ومن الواضح أن تلكم الفرضيات قد صاغت،
وفق روية منهجية فائقة، بعض "الوقائع" المحصلة أو العوائق الابستيمولوجية
التي أراد الكاتب التونسي تمريرها وتصريفها، ومنها:
-أ- حقيقة العقلية التاريخية: والتي من خصائصها هيمنة "نموذج الطوفان"، الناتج عن تخلف العرب والمسلمين عن الركب الحضاري_ الحداثي..
-ب-الاسيتراتيجة
والوعي بالهزيمة: عندما كان الفكر العربي يعيش معضلة الارتداد والتراجع،
أضحى الوعي الأوروبي يخط لغة الاستراتجيات والاستشراف. والحاصل، بالتبعة،
أنّ "الثقافة الإسلامية السائدة لا تقبل التفكير الاستراتيجي، لأنها قائمة
على تراث فقهي عريق يقسم للأشياء تقسيما معياريا مطلقا"(ص 17من المرجع
ذاته).
-ج-التعددية الدينية: ومفادها تحقق ثورة
في استيعاب مقولات الدين في مستويات مختلفة: الفردي والسيكولوجي
والانثروبولوجي أو الاجتماعي. وفي غياب هذه الفروقات والتمايزات ما بين
مجال الدولة وقضايا الدين في الوعي العربي والإسلامي، كانت الحصيلة هي
تضخم آفة الوهم بالتفوق الذي مازال عائقا أمام نشوء ثقافة إستراتيجية.
وعلى
هذا، فهذه الثورات المعرفية الغائبة في فكرنا العربي والإسلامي إنما كانت
منطلق نقد محمد الحداد لمرتكزات الثقافة العربية والإسلامية التقليدانية،
أعني نقدا للسرديات النهضوية التي ساد فيها الاعتقاد بأنّ العامل الديني
هو الحاسم في الصراعات الإيديولوجية والاجتماعية، في الوقت الذي نعثر فيه
على أنواع من التحالفات بين الإفرنج والصفويين، والبروتستانت مع
العثمانيين بما يبرز دور العامل المذهبي والطائفي في هذه الصراعات
والصدامات. من ثمّة أضحت السلطنة العثمانية غير قادرة على التكيّف، كما
يقول الحداد، مع متغيرات الحاصلة في العالم، لاسيما وأنّ العالم الإسلامي
جزء منها.
كما انتقل نقد
السرديات النهضوية عند محمد الحداد إلى إبراز العلاقة الرهيبة بين حيوية
التوسع- الروحاني والسياسي- والرؤية المستحكمة في بنية العقل العربي
والإسلامي. أعني أن العالم الإسلامي لم تعد له القدرة الفعلية على مسايرة
تحولات العالم الحديث، وبالتالي لم يعد" ممكنا انبعاث دورة جديدة من القوة
على الأسس التنظيمية للعالم القديم"(ص 78من المرجع ذاته). وهذه أيضا من
العوائق المعرفية والنفسية التي حالت دون تحقّق نهضة العرب في العالم
الحديث. ولعلّ كتابة السفراء والرحالة من العرب عن تحولات العالم الأوروبي
الحديث لشاهد على مدى رسوخ رواسب سلبية إزاء الغرب وحضارته مع علي أفندي
ومحمد الصفار والطهطاوي والعمراوي.. وغيرهم.
وحاصل
القول، إن منهج الحفر التأويلي لدى الكاتب التونسي محمد الحداد هو،
بالفعل، جدير بكشف البينات العميقة والمعيقة لتطوّر العلم والعقل في الفكر
العربي الحديث. غير أننا يجب أن نكون على حذر من بعض الأحكام السلبية التي
قد يلعب فيها دور الميل والنزوع في ترويجها أكثر من قيم الابستيمولوجيا
والمنهج والعلم.