حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 مشهد الفلسفة المعاصرة بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سمير
ثـــــــــــــــائر متردد
ثـــــــــــــــائر متردد
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5
معدل التفوق : 13
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 19/03/2012

مشهد الفلسفة المعاصرة  بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم Empty
22042012
مُساهمةمشهد الفلسفة المعاصرة بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم



مشهد
الفلسفة المعاصرة



بين انزياح
الصورة وصيرورة المفهوم





د.محمد أندلسي




أستاذ الفلسفة


كلية الآداب/مكناس






"كل فلسفة تخفي فلسفة أخرى،
وكلّ رأي هو مخبأ، وكلّ كلام ليس سوى قناع"




نيتشه




" ليس هناك واقع فيما وراء
الواقع الموجود، ليس هناك عمق يضيء، والظاهر بالنسبة لي ليس نقيض الوجود،
ليس قناعا، بل إنّه الحياة وهي تسخر من نفسها لكي تجعلني أعتقد أو أشعر
بأنّها مجرّد مظهر". نيتشه.




تقديم





يروم هذا المقال أن يتخذ من
الفلسفة المعاصرة فضاء لتشخيص أوّلي لما نعتبره يمثّل الوجه الإنتشائي
للجسد الفلسفي المعاصر بما هو مسرح مشهده الأساسي لعبة قوى تتشابه في
اختلافها وتختلف في تشابهها. قوى ما فتئت تستعير أقنعة ليس لحجب الرؤية
وإخفاء الحقيقة، أو لتوليد الاستيهام وإثارة الرغبة، وإنّما هي أقنعة
موجّهة ضدّ الأقنعة وتستعمل لإبطال مفعولها. إنها أقنعة "حاجبة" للأقنعة،
أو إنها " قناع القناع". سأستعير من نيتشه عبارة "ظاهر الظاهر"[1]
لتأويل استعارة "قناع القناع" وتفكيك صورتها. بواسطة "ظاهر الظاهر" يتم
إبطال مفعول القوى الهمجية للطبيعة وذلك بتوسط عالم "آلهة الأولمب"[2].
فأبولون سيستعمل كوسيط لإظهار ديونيزوس، إنه سيمنح لديونيزوس المظهر
والكلام، أي الصورة والخطاب[3].




لا يمكن فهم عبارة نيتشه تلك
إلاّ على ضوء مقارنتها بالعبارة الأفلاطونية. فهذه الأخيرة تقسّم الشيء إلى
ظاهر ووجود، أو إلى سطح وعمق. فظاهر الشيء هو سطحه، وعمق الشيء هو وجوده أو
ماهيته. وهكذا فالشيء له وجودان: وجود كنهي ووجود مزيف، والوجود الكنهي
للشيء هو وجوده الحقيقي الشفاف، بينما الوجود الظاهر للشيء هو وجوده غير
الحقيقي، أي هو وجوده المقنّع. وعليه فالظاهر ليس هو الوجود الأصلي للشيء،
وإنما هو وجوده الشبيهي، ولذلك فهو إن كان نسخة للوجود الحق، إلا أنها لا
ترقى إلى مستوى النسخة الأيقونة بل هي مجرّد سيمولاكر، أي نسخة "خائنة".
وعليه فالأفلاطونية ليست هي إقامة تقابل بين عالم المعقولات وعالم
المحسوسات، بل هي التمييز والمفاضلة بين النسخ الأيقونة والنسخ الخائنة،
بين الأيقونات والسيمولاكرات. الظاهر إذن هو قناع يحجب الماهية ويموّه
الحقيقة.




قلب الأفلاطونية لدى نيتشه
لا يعني – كما ذهب هايدغر إلى ذلك – إحلال الظاهر محلّ الوجود، وإحلال عالم
المحسوسات محلّ عالم المثل، وإنما القلب يستهدف إلغاء العالمين معا عالم
المثل والماهيات، وعالم الظاهر والأعراض[4].
إنه ليس حذفا لعالم الحقيقة من أجل الإبقاء على عالم الظواهر والكذب، بل هو
القول بأنّ ظاهر الوجود هو الوجود الظاهر، وأنّ السطح هو أعمق وجه في
الشيء، وأنّ وراء كل كهف يوجد كهف آخر أعمق منه، وخلف هذا الكهف هناك كهف
آخر..[5].فوراء كل ظاهر هناك
ظاهر آخر، بحيث يمكن الحديث عن "ظاهر الظاهر"، كما أنّه وراء كلّ قناع يوجد
قناع آخر، بحيث يمكن الحديث عن "قناع القناع".




نحن هنا أمام جغرافية جديدة
للفكر، فضاؤها ليس كهوف الفلسفة ما قبل السقراطية، وليس سماء المثل
الأفلاطونية، وإنما هو سطح المحايثة والحدث، أو لنقل بلغة دولوز إنه
"الواقع الافتراضي". فـ"ظاهر الظاهر" إذن هو أعمق بعد في الشيء، إذ هو السر
الفاضح لكل سر، أو السر الذي لا يبقى معه سر، أو السر الذي ليس بسر. "ظاهر
الظاهر" النيتشوي ليس هو ظاهر الميتافيزيقا، وإنما هو "عمقها" بعد أن أخضع
لزحزحة بموجبها تمّ انتشاله من أرضيته، ومعاودة إسكانه فضاء السطح. يتعلق
الأمر بالانفصال عن الميتافيزيقا عبر الاتصال بها، ومجاوزتها عبر إعادة
تملّكها، وذلك من خلال انتشالها من أرضيتها الأنطو-ثيولوجية وإعادة إسكانها
أرضية الجنيالوجيا[6].




إذا افترضنا الآن بأنّ
الميتافيزيقا- ليس فحسب لدى نيتشه وإنما أيضا لدى هايدغر- هي بمثابة
"قناع". وهي تشكّل قناعا لأنها تخفي آليات اشتغالها، وتحجب شروط انبثاقها.
فمن بين الآليات التي توظفها الميتافيزيقا في إنتاج المعاني التي تشتغل
داخلها كحقائق وماهيات، نجد اللغة. غير أنّ الخطاب الميتافيزيقي لا يكون
خطابا ممكنا، أي خطابا يقول الحقيقة إلا إذا أخفى الطابع البلاغي والشعري
للغته، أي إلاّ إذا ألغى الطابع الكثيف للعلامة، وكرّس التصور الأداتي للغة
عبر إقامة تطابق بين الدال والمدلول[7].
كما أنّ شرط انبثاق الميتافيزيقا ونشأتها بما هي خطاب "ماهية" الوجود
والحقيقة، هو إخفاء أصوله اللاهوتية والأخلاقية، أي ما يطلق عليه هايدغر
بالبنية الأنطو-ثيولوجيا للميتافيزيقا[8]،
أو ما يسمّيه نيتشه بالأرضية الأخلاقية للميتافيزيقا[9].




إن القيام بجنيالوجيا
للميتافيزيقا أو بتقويضها يقتضي إماطة اللثام عن "قناع" الميتافيزيقا وفضح
الأوهام التي تقوم عليها مثل وهم الحقيقة، والعقل، والماهية، إلخ. وبما أنّ
"عالم الحقيقة" هو "مجرّد خرافة"[10]،
وبما أنّ "الماهية" مجرّد وهم، فإنّ قناع الميتافيزيقا هو القناع الذي
تستعمله الميتافيزيقا من أجل حجب حقيقتها بما هي خطاب يتوهّم أنه حقيقة، أي
بما هي خطاب "وهم" حقيقة.




لكن العمل الجنيالوجي لا
يهدف إلى إزالة القناع لإثبات البعد الوهمي للحقيقة، وإنما بالأحرى لإثبات
البعد الحقيقي للوهم. ولا يمكن إثبات "حقيقة" الوهم و"واقعية" الكذب إلا
بحجب وهم الحقيقة ولا واقعية الكذب، أي إلا عبر التأكيد على أنّ القيام
بجنيالوجيا للميتافيزيقا، يقتضي ليس إزالة القناع عن الميتافيزيقا وإنما
مضاعفته، أي يقتضي القيام بحجب قناع الميتافيزيقا، أي ب"حجب الحجاب"، وب"قناع
القناع".




1- صيرورة
المفهوم




إنّ الفيلسوف اليوم يختلف
بشكل جذري عن فيلسوف الأمس، فيلسوف الحقبتين معا القديمة والحديثة. فلا
يستطيع اليوم الفيلسوف أن يكتب مؤلفا فلسفيا على غرار "جمهورية" أفلاطون،
أو "تأمّلات" ديكارت، أو "فينومنولوجيا" هيجل. يمكن أن نترجم هذه الظاهرة
باعتبارها أفولا للمحكيات الكبرى الغربية[11].
لا يجب أن يفهم هذا بأنّ الفيلسوف اليوم هو أقلّ ذكاء من فيلسوف الأمس
وأسلافه السابقين. غير أنّ القول باستنفاذ المشاريع الكبرى ذاتها غير كاف
لوحده لتفسير هذه الظاهرة، إذ يتعلق الأمر بخلخلة كبيرة هزّت أعماق الروح
الفلسفية، حيث مسّت صورتها ودلالتها ووظيفتها.




أعتقد بأنّ الفلسفة والعمل
الفكري بصفة عامة قد تغيّرت صورته ووضعيته منذ نهاية القرن التاسع عشر.
فالفلسفة الحديثة من ديكارت إلى ماركس قد عرفت مؤلفين كبار أبدعوا أنساقا
فكرية كبرى تفسح المجال داخلها لمجالات واسعة للإيتيقا والاستيطيقا وفلسفة
العلم والفلسفة السياسية، إذ هي كانت تأخذ في حسابها جميع أوجه النشاط
الإنساني، أي ما نصطلح عليه بالفلسفة النظرية والعملية، حيث كانت تسعى إلى
منافسة الدين في نقطة أساسية دقيقة وجوهرية تتعلّق بالأسئلة الكبرى
النهائية، وخاصة تلك المتمحورة حول معنى الوجود. فحتى ماركس نفسه عمل على
بلورة رؤية شمولية للعالم، رؤية تتعايش داخلها مختلف أوجه النشاط الفكري
والثقافي للإنسان. كما أنّه سعى إلى تقديم حلّ نهائي لإشكالية معنى الوجود،
بتوكيده على أنّ الخلاص على الأرض أصبح ممكنا مع قدوم المجتمع الخالي من
الطبقات. إنّنا نعثر على هذه الظاهرة، أي على هذا "النزوع الشمولي" و"البحث
عن الخلاص"، وإن بدرجات متنوّعة ومتفاوتة في كل الفلسفة الحديثة وخاصة لدى
الفلسفة المثالية الألمانية.




لكن ما نلاحظه اليوم هو غياب
مثل هذا الادّعاء الشمولي لدى الفلاسفة، حيث نلاحظ منذ نيتشه حتى فلاسفة
الستينات في فرنسا، أنّ الفلسفة أصبحت تفكيكا للمثالية الألمانية بصفة
عامة، ولفلسفة الذاتية كما أسسها ديكارت وبلورها كل من ليبنتز وهيجل، وصولا
إلى ماركس وهوسرل. يتعلّق الأمر بوضع موضع تساؤل جذري الطابع اللاهوتي
والقيمي والطوباوي للأنساق الكبرى، وإماطة اللثام عما يمكن تسميته
ب"الأوهام الميتافيزيقية". لقد صار عمل الفيلسوف كما يقول نيتشه "عملا
جينيالوجيا" يروم إزالة الأقنعة عن أصول الأوهام المشكّلة للفلسفة الحديثة:
كوهم العقلانية، والوحدة، والحرية، والمساواة، ووهم التطابق، والحقيقة،
والجوهر، إلخ.




إنّ ما نشاهده لدى هؤلاء
جميعا هو اختفاء نهائي لفكرة بناء الأنساق، واتسام فلسفتهم بطابع النسبية
التاريخية، تلك النسبية التي تتمثّل في محاولة تفكيك طروحات الماضي وخلخلة
مفهوم الحقيقة، ومفهوم الزمن، والكائن والكينونة.




يمكن أن نزعم اليوم بأنّ
مهام التفكيك قد تحقّقت في الغرب على نطاق واسع. ويمكن توسيع العمل
الجينيالوجي ليشمل تاريخ الأفكار والمؤسسات الحديثة كما فعل نيتشه ومن بعده
فوكو. كما يمكن نقل التقويض الهايدغري للميتافيزيقا الحديثة إلى مجالات
أخرى، كالمجال السياسي على غرار ما فعلته حناح آرندت بنقدها للتوتاليتارية[12].




وبصفة عامة يمكن القول بأن
للفلسفة المعاصرة اليوم دورين تقوم بهما:




الدور الأوّل نظري يتمثّل في
محاولة فهم ما يحدث اليوم في العالم وما حدث في الماضي. يتعلّق الأمر
بإعادة إقامة جينيالوجيا ل"رؤى العالم" التي كانت تؤطّر وتخترق وتحرّك
المسار الديمقراطي في الغرب، وهو عمل لازال في نظرنا- إذا استثنينا محاولة
"جينيالوجيا الأخلاق" لدى نيتشه، و"تاريخ الجنس" لدى فوكو - لم ينجز بعد.
ويبدو أنّه عمل لابدّ من إنجازه إذا أردنا اليوم التفكير في التجربة
الديمقراطية في الغرب[13]،
وفي مفاهيم مثل المواطنة، وحقوق الإنسان، والهجرة، والجنس، والحرية...إلخ.




الدور الثاني الذي يجب أن
تضطلع به الفلسفة المعاصرة دورا إيتيقيا، يتمثّل في نقد الزمن الحاضر، أو
القيام ب"أنطولوجيا الحاضر" أسوة بفوكو. لقد مارست الأجيال السابقة هذا
النقد باسم نموذجين: فمثقفوا اليمين واليمين المتطرف في فرنسا، قد انتقدوا
مجتمعاتهم الديمقراطية باسم ماض قد ولّى وانقرض. والمثقفون التقدميون الذين
كانوا في معظمهم ماركسيين، قد انتقدوها باسم مستقبل مشعّ آت. ويبدو اليوم
أنّ المجتمعات الغربية قد "تصالحت" مع حاضرها حيث "تماهت" مع تجربتها
الديمقراطية. وهذا ما يجعل وظيفة الفكر النقدي اليوم وظيفة جينيالوجية-
تفكيكية تتمثّل في تفعيل النقد من الداخل، وتشخيص وتحليل واقع تلك
المجتمعات انطلاقا من مبادئها وبنياتها الداخلية، وكذا انطلاقا من
ادّعاءاتها والوعود التي تقطعها على نفسها دون أن تفي وتلتزم بها. ومما لا
شك فيه أن هذا النقد الداخلي – الذي يكتسي عدّة أوجه: كالجينيالوجيا،
والأركيولوجيا، والتقويض أو التفكيك- هو أكثر جذرية من النقد الخارجي الذي
يتم باسم حقيقة مطلقة، أو باسم مثل عليا وقيم مفارقة للمجتمعات
الديمقراطية، سواء اتخذت تلك المثل والقيم شكل حنين إلى ماض ذهبي، أو شكل
هروب إلى مستقبل موعود.




إنّ ما يميّز المجتمعات ما
قبل الحديثة أي ما قبل الديمقراطية، هو استنادها إلى مرجعية مفارقة توجد
خارجها. وليست هذه المرجعية غير ما نطلق عليه عندنا التقليد. فالمجتمع
التقليدي هو المجتمع الذي يحكمه قانون يستمدّ مرجعيته ومشروعيته من مصدر
يوجد خارج الكائن الإنساني. إنه قانون يمكن نعته بالقانون "اللاهوتي"
بالمعنى العام للاهوت. بينما ما يميّز المجتمعات الحديثة هو ما يمكن تسميته
بمشروع "التأسيس الذاتي"، أو "التشريع الذاتي". le projet
d’auto-institution[14] وهو-
كما هو معلوم- مشروع يجعل من الكائن الإنساني مصدرا للقانون، وهو الذي يعني
جعل القانون صادرا عن الإرادة والعقل والمصلحة الإنسانية.




2- انزياح الصورة




إذا كان زمن الأنساق الكبرى
قد ولّى، فإنّ الفلاسفة لم يتخلوا عن التفكير. فمنهم من يحاول أن يستكشف
تعرّجات ما بعد الحداثة (المسعى الجنيالوجي التفكيكي)، ومنهم من انخرط في
شؤون المدينة(الفلسفة السياسية المعاصرة)، والبعض الآخر يحاول الرجوع إلى
الوراء من أجل اقتفاء أثر الحكمة القديمة وإعادة استكشاف دروبها ومسالكها(الهيرمنوطيقا)،
والبعض الآخر يفضّل اقتفاء أثر العلم المعاصر ومساءلته(الإبستمولوجيا). غير
أنّ هذا التنوّع والاختلاف في الممارسة الفلسفية المعاصرة لا يحجب القاسم
المشترك بين مختلف الفلاسفة المعاصرين والذي يتمثّل، كما أشرنا إلى ذلك
آنفا، في رفضهم للأنساق المنحدرة من التقليد الأفلاطوني والهيجلي، والسعي
لإضفاء المشروعية على الاختلاف والغيرية. فاستلهام نيتشه، واكتشاف إمانويل
ليفناس، والإحالة إلى أولوية الآخر والمغايرة قياسا على الذات والهوية،
كلّها تعتبر بمثابة عناصر مثيرة لعقول مختلفة. وبالنسبة للبعض الآخر فإن
تيمة "نهاية الفلسفة" الهايدغرية قد دفعتهم إلى تثمين فضاء الأدب والإيتيقا
والانخراط في الكتابة(بلونشو، دريدا، والإيتيقا المعاصرة). وهذا يعني أن
الإحالة إلى فلاسفة التقليد الأنواري والحداثة يكتسي في الفلسفة المعاصرة
دلالات مختلفة: إنه يعني القدرة على تمثّل الدرس الفلسفي مع أخد المسافة
الضرورية منه في الوقت ذاته بدون الإحساس باللوم والوقوع في التناقض أو
التمزّق.




فمثلا يتم اليوم الرجوع إلى
ألتوسير ليس باعتباره صاحب دعوة تحرير العلم من الإيديولوجيا وإنّما
باعتباره الفيلسوف الذي تمثّل أحسن تمثيل الدرس السبينوزي بما هو صورة
الفيلسوف صاحب "الحكمة بدون وهم"، والداعي إلى مقاومة غشّ السلطة وضلالها.




كما أنّ الرجوع إلى دولوز
يتم بهدف ملاحقة مفعولات "الإنشيال من الأرضنة"La déterritorialisation
التي تحدثها تكنولوجيات التواصل. فالجهاز المفاهيمي الذي نحته كل من دولوز
وغاتاري يمنح للتكنولوجيات الجديدة بعدا فلسفيا غير متوقّع، سواء تعلّق
الأمر بمفهوم "انمحاء الفضاء والزمان" المرتبط بالسرعة الفائقة التي يتم
فيها تبادل المعلومات، أو "مضاعفة السيمولاكرات" بواسطة التقنيات الرّقمية؛
أو تعلّق الأمر بمفهوم "الواقع الافتراضي"[15].




كذلك فيما يتعلق بالعودة
إلى دريدا حيث يتم إدراجه ضمن الفكر المنتقد للتقنية[16]،
والمفكّك للذاتية ولفلسفة الحضور. كما يتمّ توظيف مفهوم "المباينة"La
différance من أجل وصف عملية السيرورة الجارية بدون "ذات" والتي تجد
تجسيدها المكتمل في العملية التقنية السائدة التي سبق لهايدغر أن اعتبرها
كاكتمال وتحقّق للميتافيزيقا[17].




وأخيرا وليس آخرا حينما يعود
فيلسوف ما اليوم إلى لفي ستراوس فمن أجل التأكيد على قوة وراهنية المشروع
الساعي إلى التعرّف على "الكلّيات"، أي "البنيات الأوّلية" التي تتوقف
عليها الحياة الاجتماعية والثقافية للإنسان.




لو شئنا نحت "بورتري"
للفيلسوف المعاصر لقلنا بأنه نتاج لتكوين يتشكّل من انفصالات، وقطائع،
وانعطافات، ومسارات تتوالى وتتقاطع فيها المدارس وتيارات الفكر. وربّما قد
يكون هذا التكوين "الهجين" المتنوّع والمتعدّد، هو الذي يفسّر تأرجح هذا
الفيلسوف بين إحالات ونماذج غير متجانسة[18]،
فهو يعيش نوعا من الدوّار Le vertige يهدّده تارة بالانغماس في ظلام الشك
والعدمية، أو السير في دروب ومسالك تائهة؛ ويدفعه تارة أخرى للانخراط في
منظورات نسبية غير مستقرّة.




وهكذا ففي هذا الفضاء
المعاصر لا يوجد أي مذهب صادق، بل كلّ مذهب وكلّ عقيدة هو مجرّد تأويل، وفي
أحسن الأحوال هو تأويل لتأويل[19].
إنّ الفيلسوف الأصيل هو ذلك الذي يرتبط بالأحداث، والمستجدات، والظروف،
والطوارئ، وليس بتاتا ذلك الذي يرتبط بالأفكار الأبدية، أو بالتصورات
اليقينية. إنّه من يستطيع أن يسجّل تدخّله في سياقات ملموسة ومتنوّعة،
ويروم أن يجمّع حول مواقفه عقولا يقظة منتبهة ومختلفة.




فبقدر ما يبتعد الفيلسوف عن
الأرتدوكسيات المسيّجة والعقيمة، بقدر ما يتمكّن من إسماع صوته داخل
المدينة، هذا إن لم يكن صوته هو ذاته صوت المدينة. بحيث لا يرى البعض في
الفلسفة المعاصرة سوى تخلّ عن الصّرامة الأكاديمية، وانشغال مهموم بملاءمة
الفكر مع حياة الناس وواقعهم. غير إنه إن كانت الفلسفة اليوم، أكثر مما
مضى، منفتحة بشكل أقوى على "حدثية" الواقع و"خارجية" العالم، إلاّ أنّ
انفتاحها هذا، لا يجعلها تذوب في العالم وتنصهر فيه.




هكذا إذن، استوعب الفلاسفة
المعاصرون درس أسلافهم المتمثّل أساسا في ضرورة التخلّي عن الطموح الهيجلي
في إقامة دولة "مملكة العقل"، حيث أصبحوا ينظرون، بتواضع كبير، إلى ما
يقومون به من مهام. لقد أصبح عملهم عبارة عن "ثورات صغرى" تأخذ على عاتقها
مختلف أوجه الواقع ومظاهر الحياة الإنسانية. لهذا نلتقي أحيانا بفلاسفة
منخرطين بالكامل في مجالات، كان ينظر إليها بالأمس القريب على أنها غير
جديرة بالفلسفة. مثل فنّ العمارة أو التمدّن، الإبداع الفني والسينما،
الموسيقى وتعبيرات الجسد؛ أو متورّطين في الحياة الجمعوية وقضايا الإنسان
وحقوقه.




إنّ الذي يميّز مداخلة
الفيلسوف المعاصر عن علماء الإنسان، هو بصفة عامة نوع من "الإيقاع الجذري
في النقد"، ونوع من استباق العصر. إنه البعد الذي يجعل الفيلسوف "ضد
الراهن"، أي ضد التقوقع في بعد من أبعاد الزمان الثلاثة. هذا البعد هو ما
يجعل الفيلسوف "لحظي" intempestif، أي ذلك الكائن الغير متصالح مع وقته
والنظام القائم فيه، سواء تعلّق الأمر بنظام الحقيقة أو الأخلاق، أو تعلّق
الأمر بقواعد اللعبة السياسية. فعلى سبيل المثال نجد بأنّ عمل ليوستراوس قد
ساهم في يقظة فلسفة سياسية وجعلها تدخل في سجال مفتوح مع هيمنة العلوم
الإنسانية. والانتقادات الموجّهة ضدّ التوتاليتارية التي قادها كلّ من كلود
لوفور، وكورنليوس كاستريادس، وحناح آرندت، قد أكملت ما تبقى. فحيوية
الفلسفة الراهنة ترجع بشكل أساسي إلى تسلّحها بمسعى النقد الجذري الرافض
للوضعية، ولكلّ نزوع يروم إضفاء الطابع العلموي على الاجتماعي والسياسي.
لقد انقرضت صورة الفيلسوف التي تجعل منه متجاوزا من قبل العصر لعدم انخراطه
في قافلة السوسيولوجيا أو "الرياضيات الاجتماعية". فتقديس "الوقائع" قد ترك
المجال للمساءلة حول القيم وإرادة القوى. إننا نلاحظ اليوم حذرا من
التجريدات الجوفاء، في مقابل ذلك يتم منح للنشاط المفهومي دورا أساسيا
وحيويا. وليس غريبا أن تكون آخر أعمال دولوز كتابه في الفلسفة بما هي إبداع
للمفاهيم.




لفهم هذا الانزياح يكفي
النظر إلى الكيفية التي يطرح بها اليوم مشكل التلاؤم ما بين "شمولية القيم"
الموروثة عن عصر الأنوار، وبين "النزعة النسبية" التي يفرضها علينا تنوّع
الثقافات واختلافها. بل إنّ الذي يميّز اليوم الفيلسوف ويشكّل فرادته، إنما
يتمثّل في موقفه داخل المناظرات المتعلّقة بالتنوّع الإثني والاختلاف
الثقافي والتعدد اللغوي. حيث برهن أنه لا يكفي للمرء لكي يكون فيلسوفا أن
يخصّص معظم حياته في بناء عمارة فكرية، أو في دراسة نصوص فيلسوف ما. إنّ
هذا ما أظهرته المناظرات المعاصرة حول " حدث 11 شتنبر" في الولايات
المتحدة، أو "مسألة الحجاب" في فرنسا، أو"العصيان المدني" الذي قادته سكينة
الأحياء المهمّشة بباريس خلال هذه السنة.




وبصفة عامة فلقد تخلّى
الفيلسوف اليوم عن صورة سلفه في القرن 18، بما هو مربّي النوع البشري، أو
الباحث عن الحقيقة والمستشهد من أجلها، أو الذي يكرّس حياته كلّها للدفاع
عن المثل العليا كالتحرير، والسعادة والتقدم والاشتراكية..إلخ.




3- المشهد الفلسفي
المعاصر:الفلسفة الفرنسية كنموذج




سنبدأ حديثنا عن المشهد
الفلسفي الفرنسي المعاصر من خلال إثارة المفارقة التالية: إنّ المسألة التي
تبدو أكثر كونية وشمولية، هي في الوقت ذاته الأكثر خصوصية و فرادة. إنّ هذا
يشبه ما يطلق عليه هيجل "الكلّي الملموس". و يبدو أن تاريخ الفلسفة يجلي
هذه المفارقة على نحو بيّن: فكلّ فلسفة هي من جهة كلّية وشمولية حيث تتوجّه
إلى الجميع بدون استثناء؛ ولكن ومن جهة أخرى، في كلّ فلسفة يوجد الكثير من
الخصوصيات الثقافية والقومية والتاريخية. هناك إذن لحظات للفلسفة في الزمان
والمكان. فالفلسفة إذن هي من جهة نزوع شمولي للعقل، وهي في الوقت ذاته لا
تنجلّى إلاّ عبر لحظات هي في مجملها خاصة وفريدة وأصيلة.




يقدّم لنا باديو في محاضرة
قيّمة[20]، مثالين أو لحظتين
فلسفيتين بارزتين: لحظة الفلسفة الإغريقية ولحظة الفلسفة المثالية
الألمانية. فالأولى التي تقع ما بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد
والتي تمتدّ من بارمنيد إلى أرسطو، ثمثّل ما يمكن اعتباره لحظة التأسيس
والإبداع الفلسفيين وهي لحظة استثناء قصيرة العمر في الزمان.




والمثال الثاني هو الذي
تجسّده لحظة الفلسفة المثالية في ألمانيا ما بين القرنين – نهاية القرن
الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر- وهي التي تمتدّ من كانط إلى هيجل، ومن
فيخته إلى شيلنغ. فهذه أيضا تمثّل لحظة فلسفية استثنائية كثيفة وخلاّقة،
وتمثّل أيضا فترة قصيرة من الناحية الزمنية.




على غرار هاتين اللحظتين
يمكن أن نتحدّث عن لحظة فلسفية فرنسية تتموضع ما بين النصف الثاني من القرن
العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. يمكن مقارنتها مع اللحظات الفلسفية
الآنفة الذكر.




لنأخد كمثال على هذه اللحظة،
مؤلف "الوجود والعدم"- وهو المؤلف الأساسي لسارتر الذي ظهر سنة 1943، وآخر
كتاب لدولوز "ما هي الفلسفة؟" الذي ظهر في بداية التسعينات من القرن
العشرين. ما بين سنة 1943 ونهاية القرن العشرين، تبلورت لحظة الفلسفة
الفرنسية. ومابين سارتر ودولوز، يمكن أن نتحدّث عن باشلار، وميرلوبونتي،
ولفي ستراوس، وألتوسير ، وفوكو، ودريدا، ولاكان.. مجموع هذه الكتابات التي
تتموضع ما بين المؤلف الأساسي لسارتر وآخر مؤلفات دولوز، هي التي تشكّل ما
اعتبرناه يمثّل لحظة الفلسفة الفرنسية المعاصرة. إنها تمثل بحقّ لحظة
فلسفية جديدة، لا تخلو من أصالة وفرادة وإبداع، وفي الوقت ذاته تتسم بطابع
الكونية والشمولية.




والمشكل الذي يواجهنا هنا
يتمثّل في كيفية التعرّف على هذه الكلّية، وتحديد سمات وتقاطعات واختلافات
هذا المجموع من النماذج والمؤلفات والاهتمامات.




لنبدأ -مقتفين في ذلك أهمّ
خطوات محاضرة باديو المشار إليها آنفا- بطرح الأسئلة التالية: ما الذي طرأ
على مستوى المشهد الفلسفي ما بين سنة 1940 ونهاية القرن 20؟ ما الذي تعنيه
نعوت مثل الوجودية، البنيوية، التفكيكية؟ هل يمكن أن نتحدّث عن وحدة فكرية
وتاريخية لهذه اللحظة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما طبيعة تلك الوحدة ؟




يجيب باديو عن هذه الأسئلة
انطلاقا من أربعة كيفيات مختلفة يصيغها في أربعة أسئلة: السؤال الأول يتعلق
بالأصل، والثاني يتعلق بالإجراءات، والثالث يتعلق بعلاقة الفلسفة بالأدب،
والرابع يتعلق بعلاقة الفلسفة بالتحليل النفسي.




3-1- مسألة الأصل




للتفكير في أصل هذه اللحظة
الفلسفية الفرنسية المعاصرة يجب الصعود إلى بداية القرن20 حيث حدث انقسام
أساسي داخل الفلسفة الفرنسية، كان نتيجته تشكّل تياران مختلفان بشكل جذري.
ومن بين معالم هذا الانقسام نجد المحاضرتين المشهورتين اللتان ألقاهما
برغسون سنة 1911 في أكسفورد، وتم نشرهما في "مقتطفات برغسون" تحت عنوان
"الفكر والحركة". وفي نفس التاريخ وبالضبط سنة 1912 ظهر كتاب برنشفيك الذي
يحمل عنوان "مراحل الفلسفة الرياضية". هذان التدخلان قد تمّا قبل حرب 1914،
أي بداية الحرب العالمية الأولى. وهما يشيران إلى وجود توجّهين مختلفين
بشكل حاد. ففي حالة برغسون نكون أمام ما يمكن أن نطلق عليه "الفلسفة
الجوانية"، أو "الباطنية الحيوية" Philosophie de l’intériorité vitale.
يتعلّق الأمر بأطروحة التماهي والتطابق بين الوجود والتغير، بين فلسفة
الحياة والصيرورة. إنّ هذا التوجّه سيحافظ على استمراريته طوال القرن 20،
وسنجد له حضورا حتى في فكر دولوز.




في كتاب برنشفيك نكتشف
"فلسفة للمفهوم" ذات مرتكز رياضي. يتعلق الأمر هنا بإمكانية بناء صوري
للفلسفة وبفلسفة للرّمزي. وهذا التوجّه بدوره استمرّ طوال القرن وخاصة مع
كل من لفي ستراوس، وألتوسير، ولاكان.




كخلاصة أولى إذن، عرفت
بداية القرن 20 أوّل انقسام في الفلسفة الفرنسية المعاصرة: فمن جهة هناك
"فلسفة الحياة"، ومن جهة أخرى هناك "فلسفة المفهوم". وهذا المشكل، أعني
مشكل الحياة والمفهوم سيصبح هو المسألة المركزية للفلسفة الفرنسية حتى
اليوم. فبموازاة النقاش الدائر حول الحياة والمفهوم، هناك نقاش حول
"الذات". ويمكن اعتباره بمثابة النقاش المنظّم للمرحلة بكاملها. لماذا؟
لأنّ الذات الإنسانية هي جسد حي ومبدع للمفاهيم في الوقت نفسه. فالذات إذن
هي القاسم المشترك بين التوجّهين، حيث يتمّ مساءلتها من حيث حياتها: حياتها
الذاتية، حياتها البهيمية، حياتها العضوية هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتمّ
مساءلتها من حيث فكرها ومفاهيمها وأفكارها، ومن حيث قدرتها الإبداعية،
وقدرتها التجريدية. فالعلاقة بين الجسد والفكرة، بين الحياة والمفهوم، هي
النّاظم لصيرورة الفلسفة الفرنسية. وهذا الصراع الفكري حاضر مند بداية
القرن مع برغسون وبرنشفيك. وإذا جاز لنا أن نستعير من كانط تعريفه للفلسفة
كحقل لنزاع تدور رحاه بين الفلاسفة، فيمكن القول بأنّ المعركة المركزية
للفلسفة في النصف الثاني من القرن 20 ستكون معركة تدور حول "مسألة الذات".
ومن أهمّ معالمها يمكن أن نذكر ما يلي:




- فألتوسير يعرّف التاريخ
كصيرورة بدون ذات، كما يعتبر "الذات" مقولة إيديولوجية.




- كما أنّ دريدا في
تأويله لهايدغر، يعتبر "الذات" المقولة الأساسية للميتافيزيقا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مشهد الفلسفة المعاصرة بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مشهد الفلسفة المعاصرة بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  مشهد الفلسفة المعاصرة بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم
» مشهد خوف لا ينتهي
» الوجودية في الفلسفة المعاصرة : سارتر نموذجا - مراد العبدي
»  نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة- ألان باديو
» رهانات الفلسفة العربية المعاصرة: حوار التراث والحداثة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المدونات العامة-
انتقل الى: