من المعلوم أن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تعمل من خلال الموسم الدراسي على عقد ندوات ومناظرات في شتى الميادين المعرفية: الفلسفية والأدبية والنقدية والعلمية.وذلك بغية الإشعاع الفكري للجامعة على المستوى الوطني والعربي والدولي.
وهكذا، كان هذا الكتاب:"رهانات في الفلسفية العربية المعاصرة" حصيلة الندوة المنعقدة في ما بين 20-21 تشرين الثاني/نوفمبر 2009 (بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور). فرصة ملائمة لنخبة عربية ومغربية لمناقشة رهانات الفكر الفلسفي العربي المعاصر عن طريق إبراز الاستشكالات الأساسية لقضايا ومفاهيم تنتسب إلى فكر الحداثة وتحولاته أو إقامة استدلالات على أساس العودة إلى التراث. ومن ثمة، فكلا الأمرين يتطلع إليهما المتفلسف العربي اليوم.ولا يخفي على ذي بصيرة، أن هذه المداخلات أو الأوراق إنما ينضب معينها بمواقف من إشكالتي: التراث والحداثة.
يحتوي نص:"رهانات الفلسفة العربية المعاصرة"(2010) على كلمة للأستاذ ومنسق الندوة الدكتور محمد المصباحي التي يبتغى منها الوقوف عند المحركات الثلاثة التي تدفع إلى ممارسة جنس القول الفلسفي الوطن العربي.وخمسة محاور أساسية، وهي التالي:" المحور الأول: رهانات الفلسفة السياسية"، والمحور الثاني:"رهانات الفلسفة الدينية" والمحور الثالث:"رهانات مجتمع المعرفة والصورة" والمحور الرابع:"رهانات الحاضر في الفلسفة العربية" والمحور الخامس والأخير:"راهن الفلسفة العربية". فهذه المحاور قد أتت على براعة كبيرة وفائقة من الترتيب والتبويب على دفتي الكتاب.هذا فضلا عن ذلك، أن الخيط الناظم لهذه الأوراق الفكرية أو قل مفتاح المداخلات هو الرهان.هذا الأخير الذي حضر بأشكال مختلفة من حيث الملفوظ أو من حيث الاستشكال والبناء. فانظر كيف يحضر هذا اللفظ تارة في صيغة رهانات وتارة أخرى على صيغة راهن(المحور الخامس).
بيد أنه يغيب عن جل عناوين الأوراق الا في بعض منها حيث نجد د.حسن حنفي يعنون مداخلاته ب:" رهان الفلسفة في الوطن العربي والموقف الحضاري"، ويعنون د.محمد المصباحي ورقته ب:" رهان الحرية في العالم العربي"، ويضع محمد علي الكبسي عنوان عرضه ب:" في نقد الرهان" وعنونة بومسهولي كلمته ب:"الفلسفة ورهان الحاضر" و اختيار إدريس كثير ورقته ب:" راهن الفلسفة المغربية"..
من المؤكد، أن لعبة الحضور والغياب للفظ "الرهان" عن جل عناوين مداخلات الندوة، ربما، لها أكثر من دلالة وخلفية سواء لدى هؤلاء أو أولئك، والتي لا نتصدى لها في هذا السياق.فالرهان هو المقامرة الذي قد يحصد أحد الأمرين: إما الربح وإما الخسران.
ومن المعلوم أن الظروف أو السياقات التي يحصل فيها انطباق الرهان مع المصادفة لتحقيق مكتسبات من قبيل: رهان الحرية أو المقاومة أو رهان العلمانية..تكون نادرة ..!"فلماذا الإصرار على قران الفلسفة بالرهان؟"(ص282)، هل يمكن اعتبار الجواب عن هذا الاشتكال، هو قول د.حسن حنفي:"هنا لا يوجد رهان معلن للفلسفة بل يوجد فقط رهان غير معلن، تغطية الواقع بثقافة دون أن تؤثر فيه أو تحركه، وما يحدث هو رهان غير معلن، وجود فلسفات دون تفلسف او مذاهب فلسفية دون فلسفة"(ص15).
وبهذا، جاء تصور حنفي وفق ما هو معلوم للقارئ والمتابع لمشروع "التراث والتجديد"، ألا و هو: الرهان على الماضي: الموقف من التراث القديم. والرهان على المستقبل كجبهة ثانية في مشروع" التراث والتجديد"، ثم الرهان على الواقع أي" الرهان على قدرة الفلسفة على التنظير المباشر للواقع دون أن تكون تعاملا مع النصوص القديمة أو الحديثة."(ص28).
ومن الواضح أيضا، أن لهذا الرهان قوة في تغيير الشيء في ذاته وغيره، وكأن الأمر هنا ينجلي في معرض القوة المنفعلة والفاعلة في الشيء ذاته. فانظر كيف تكون المقاومة مع التونسي أبو يعرب المرزوقي موضوعا فلسفيا من حيث هو"فعل موجب يحقق عظمة الأمم بشرطيها الرمزي والمادي ولا يكتفي برد الفعل.."(ص32). وهي قراءة محكومة بتصور خلدوني رفيع في التعاطي مع مستجدات الواقع العربي و تلكئه في تحقق النهضة المنشودة بفعل عائق الاستكبار العالمي وتدخلاته المتواصلة يف شؤوننا العربية والقومية والإقليمية.
والاهم من كل هذا، ألم يكن الرهان على الواقع فيه الكثير من الاشتكال والصعوبات.بمعنى، هل نراهن على فكرة الحرية أو قضية العلمانية في ظل استمرار انغلاق الفكر العربي وسيادة النزعات المحافظة والهويات القاتلة.. التي تقرأ الوقائع بعيون أخرى! ألا نحتاج الا تغير خرائط تفكيرنا و تصورتنا من جديد؟ لماذا تتحول لدينا المطالبة بالحرية والحداثة وحقوق الإنسان إلى مزيد من الاضطهاد والإرهاب؟ ثم لماذا نحصد من المقاومة والمصالحة أو من رهاناتنا، كيفما كانت، الهشاشة و الارتداد؟!
ففي هذا المعرض يقر الدكتور محمد المصباحي أيما إقرار أن:" أزمة الحرية في العالم العربي لا تعود فقط إلى استبداد بعض الأنظمة السياسية، بسبب ربطها الحقيقة بالسلطة والعقيدة لا بالفرد، الذي هو مناط الحرية السياسية، ولكن تعود أيضا إلى استبداد بعض الأنظمة الثقافية التي تشوه الحقيقة وتدعي احتكارها وتسخر قيمها لمعاكسة الحرية والمس بمروءة الإنسان."(ص101).أليست خاصية الجنس البشري هي توافق وتكامل الحقيقة والعقل والحرية.
من هنا، أراد ناصيف نصار للحرية أن تكون بمعنى"استقلال الدولة ودستورها وتشريعاتها وأنظمتها عن الاعتبارات الدينية والمذهبية من دون عدائية"(ص139).وينجم من هذا، أن التعايش السلمي هو الحل" بين الأديان والمذاهب الدينية، تبعا لقطع الأمل أمام أي منها في السيطرة أو في الهيمنة على غيره بواسطة الدولة، على أساس استقلالية الدولة عن الأديان والمذاهب الدينية، خطوة عظيمة على طريق العدل بين الناس"(ص155).فلما كان هاجس الكاتب ناصيف نصار هو هاجس المثال اللبناني الذي يعج بالمذاهب والأديان والطوائف.فانظر كيف لمز الكاتب محمد الشيخ لمسألة في غاية الأهمية من حيث أنها مقدمات ضرورية، ألا وهي "فلسفة الدين" التي تعرف غيابا شبه مطلق في الفكر الفلسفي العربي.وكأنه يلفت انتباه أهل لبنا على وجه الخصوص إلى هذا الأمر الجلل..من جراء مقوله:"فهلا شفع لنا هذا التراث-على قلته وندرته-بتأسيس تقليد"فلسفة الدين "في العالم العربي؟"(ص197).وهذه دعوة إلى الرهان على "فلسفة الدين"، قبل الرهان على الحرية ، أو قل إن فلسفة الدين هي ماهية الحرية على حد تعبير فيورباخ. ، وإن كان اعتراف محمد الشيخ بأن "مبحث فلسفة الدين في العالم العربي طريق شاق وطويل منقلبه بين اليأس والرجاء"(ص198).
ولعل أن الدعوة إلى"تجديد الفكر الديني تتضمن بصورة عامة نداء من أجل الحرية "(ص207).وهذا معناه، أن أزمة الفكر الفلسفي في العالم العربي، على حد كلام عز الدين الخطابي، هي أزمة الحرية وغياب الديمقراطية. لذلك، أضحت "الحاجة ماسة إلى عقلانية حجاجية وتواصلية.."(ص277).
وإذا كان ذلك كذلك، فان بعض المداخلات دفعت الفكر الفلسفي العربي كي يراهن على رهانات- بلغة القطيعة لا بادوات الاستمرار- الحداثة وثوراتها الاتصالية والتواصلية(الصورة والميديا..).وعلة ذلك أن الصورة اليوم قد أسهمت بشكل جذري في بناء رؤى جديدة وتصورات هائلة."فالصورة أقوى نفاذا في منطق الاتصال من الفكرة نظرا لما تملكه من سحر وما تحوزه من جذب وإغواء وما تستطيعه من نفاذ إلى أعماق اللاشعور البصري.."(ص259).
وعلى هذا، كان على الفلسفة العربية المعاصرة تقوية ذاتها على أساس اللحاق بركب الحداثة، لان التراث او القدامة لم تعرف هذه الفتوحات والاشراقات الجديدة من الميديولوجيا ونظريات التواصل والمسوؤلية وفلسفات الحق..وهو ما عبر عنه الدواي بقوله أن من مسؤوليات الفكر الفلسفي العربي "أن يشاطر الفكر الفلسفي العالمي الملتزم هواجسه حول الرهانات الأخلاقية الجديدة المترتبة عن تلك التحديات، وأن يساهم في النقاش العالمي الدائر حولها."(ص229).
ولا مراء، في أن هذه المحصلة هي التي راهن عليها، الأستاذ أحمد ماضي، بانخراط العرب في المشترك الكوني، بمعنى يمكن" أن تفيد الفلسفة العرب من دون التضحية بما هو متعارف عليه عالميا على انه فلسفة"(ص415).
وهو الأمر الذي ينجلي لنا في تعقب بعض الأوراق والعروض لأسس النهضة الفلسفية المغربية التي ترعرعت وتطورت على حبل سري وهو" جدل الكونية والخصوصية" باعتبار أن شرط الإبداع الفكري يستلزم الانخراط في ماهية المشترك العالمي والإنساني، فجاءت الشخصانية مع الحبابي، والتاريخانية مع العروي، والنقدية الرباعية مع الجابري..(ص426 و427).
ويتحصل من جميع ما تقدم، أن رهانات الفلسفة العربية المعاصرة من خلال الندوة المنعقدة في رحاب جامعة محمد الخامس بالرباط هي، في جوهرها، رهانات على بناء لمواقف في التراث أو استذكار لموجات الحداثة وصيحاتها..وهذا لا يعني أن من يفكر في التراث هو ضد الحداثة، أو من يفكر في الحداثة هو ضد التراث.فإذا كان رهان الحرية في العالم العربي، على سبيل المثال، لا يتحقق الا بنقد عناصر مقاومتها في التراث والواقع.ألم ترى أن صياغة مفهوم المقاومة أو المصالحة أو فلسفة الدين...لا تتأسس الا عن طريق إعادة التفكير في الحاضر العربي وغليانه السياسي والإيديولوجي السياسي الذي يمنح تصورات مثمرة للماضي التراثي..كما أن السعي الجاد والقوي نحو الحداثة وما بعدها من دون شرط أو قيد يجعلنا في رحاب المغامرة المعرفية. وهو الأمر الذي يتطلب منا الاستيعاب الأكاديمي والعلمي لمسارات الحداثة وقوتها، و تعقل تراثنا العربي في الوقت ذاته. ذاك التراث الذي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، سحبه بجرة قلم، لان هذا غفلة خطيرة عن أن هذا التراث مخزون نفسي ووجداني..يحتاج إلى ممارسات نقدية تبرز محدوديته وآفاقه التاريخي والفكري حتى نتمكن من إدارة عجلة التقدم والتحديث.
وبكلمة، نقول إن رهانات الفكر الفلسفي العربي هو كتابة الحداثة على أساس خصوصيات قومية وتاريخية..وهذا مرمى الندوة المنعقدة في الرباط لتحسس رهانات الفلسفة العربية المعاصرة التي كانت حوار التراث والحداثة.