حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 هايدجر بين البدء الأول والآخر[

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سمير
ثـــــــــــــــائر متردد
ثـــــــــــــــائر متردد
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5
معدل التفوق : 13
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 19/03/2012

هايدجر بين البدء الأول والآخر[ Empty
22042012
مُساهمةهايدجر بين البدء الأول والآخر[



هايدجر بين البدء الأول والآخر[1]






إسماعيل
المصدق



كلية الآداب -
القنيطرة






يسرني أن أهدي هذه الدراسة
إلى الأستاذ Heinrich Hüni الذي فتح عيني على كثير من خبايا تفكير هايدجر
وقوله، مع أطيب المتمنيات بمناسبة عيد ميلاده الخامس والستين.




يلاحظ المتتبع لمسار تفكير
هايدجر أن تجربة المفكرين الإغريق الأوائل لم تكن تحتل مكانة مهمة في
تحليلات "الكون[2] والزمان
Sein und Zeit" وفي كتاباته ومحاضراته الجامعية التي ترجع إلى نفس الفترة.
لقد كان هايدجر آنذاك مقتنعا بأهمية الفلسفة الإغريقية وبأن ما أتى بعدها
لم يرقَ إلى مستواها. لكنه مع ذلك كان يركز اهتمامه على أفلاطون وأرسطو
خاصة. ورغم إشاراته إلى بارمنيد وهيراقليط وغيرهما من المفكرين الإغريق
الأوائل، فإنه لم يكن يرى في تلك الفترة فائدة من فتح حوار معهم.




هذا الأمر سوف يتغير في
الفترة التي تلت صدور "الكون والزمان" والتي عمل فيها هايدجر على إعادة
تأمل منطلقه الفلسفي. منذ الثلاثينات من القرن الماضي بدأ اهتمام هايدجر
بالإغريق الأوائل يتزايد ويتعمق، بل أصبح تأويله لتجربتهم وحواره معهم يحتل
مكانة أساسية في تفكيره ويلعب دورا مركزيا في فهمه وتأويله للتاريخ الغربي.




كيف يمكن تفسير هذا التحول
في موقف هايدجر من المفكرين الإغريق الأوائل؟ يمكن أن نلاحظ أن هايدجر في
نفس الفترة التي بدأ فيها يهتم بـ "البدء الأول" كما عبر عن ذاته في تجربة
المفكرين الإغريق الأوائل أخذ يتحدث أيضا عن "بدء آخر" ممكن يتم معه تخطي
الميتافزيقا التي بلغت اكتمالها في سيطرة الأسلوب العلمي – التقني للتعامل
مع العالم والأشياء. وهذا الأمر قد يبعث على الاعتقاد بأن البدء الآخر
المأمول لن يكون سوى إحياء للبدء الأول في تجربته الأصلية مع المفكرين
الإغريق الأوائل. إذا قبلنا هذا الافتراض فمعنى ذلك أن اهتمام هايدجر
بالإغريق الأوائل منذ الثلاثينات من القرن الماضي يجب فهمه كهروب من عدمية
العصر الحاضر وحنين إلى أصل طاهر. وعليه سيكون البدء الأول هو الحالة
الأصلية التي تتميز بالطهر والبراءة؛ في حين ستمثل الميتافزيقا حالة
الانحدار والسقوط والابتعاد المتزايد عن هذه الحالة الأصلية؛ أما الخلاص من
هذا السقوط فسيكون بالرجوع إلى الأصل الأول وبراءته.




تقدم هذه الخطاطة تفسيرا
سهلا وبسيطا لاتجاه هايدجر نحو الحوار مع المفكرين الإغريق الأوائل، لكن
هذا التفسير يبقى عقيما ولا يساعد بتاتا على فهم المقاصد الحقيقية لهايدجر
وبالأحرى على الاستفادة من أسلوبه في التعامل مع التقليد الفلسفي. لذلك
سنحاول في هذه الدراسة أن نلقي بعض الضوء على علاقة هايدجر بالمفكرين
الإغريق الأوائل من خلال متابعة متأنية لبعض المحطات الأساسية في طريقه
الفكري. سنبرز في قسم أول المكانة التي تحتلها الفلسفة الإغريقية عند
هايدجر خلال فترة "الكون والزمان"، وسوف يتضح أن عدم اهتمام هايدجر آنذاك
بالإغريق الأوائل يرتبط بتصوره لبرنامج نقض تاريخ الأنطولوجيا، كما سيتبين
أن هايدجر لم يتمكن من إنجاز برنامجه ذاك، لأن فهمه للتاريخ في تلك الفترة
لم يكن قادرا على حمله. أما القسم الثاني فسيعمل على بيان أن اهتمام هايدجر
ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي بتجربة المفكرين الإغريق الأوائل يرتبط
بتعميق فهمه للتاريخ، وسوف يتضح أن رجوع هايدجر إلى هذه التجربة وحواره مع
مفكريها الأساسيين لم يكن بغرض بعثها أو إحيائها من جديد، بل من أجل فهم
الميتافزيقا التي انبثقت عنها والتي حددت التفكير والتاريخ الغربيين إلى
الوقت الراهن. إن استعادة البدء الأول في أصليته هو ضرورة يفرضها التهيؤ
لبدء آخر يتم معه تخطي الميتافزيقا التي بلغت ذروتها في العالم التقني الذي
يحدد تجربتنا في الوقت الحاضر.




عرف هايدجر منذ بداية طريقه
الفلسفي كيف يزاوج بين معالجة القضايا الفلسفية التي تشغله وبين البحث في
تاريخ الفلسفة. لا يتعلق الأمر عند هايدجر بمهمتين منفصلتين، بل متداخلتين.
هكذا كان يدخل أحيانا خلال طرح ومعالجة أسئلته الفلسفية في حوار مع فلاسفة
آخرين، كما كان في أحيان أخرى يصوغ قضاياه الفلسفية ويبسطها من خلال حواره
مع فلاسفة ينتمون لحقب مختلفة من التقليد الفلسفي. ورغم أن هايدجر لم يهتم
بكتابة تاريخ شامل للفلسفة على غرار هيجل، فإنه ترك كتابات غزيرة يقوم فيها
بقراءة وتأويل عدد كبير من الفلاسفة. لماذا هذا الاهتمام بتاريخ الفلسفة؟
ولماذا هذا الحوار الذي لا ينتهي مع التقليد الفلسفي؟




لمعالجة هذا السؤال سيكون من
المفيد أن نعود إلى دراسة حررها هايدجر خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1922
وقدمها لدعم طلبه للحصول على منصب الأستاذية بجامعة جوتنجن أو ماربورج.
تحمل هذه الدراسة عنوان "تأويل فينومينولوجي لأرسطو"[3]
وتضم مشروعا لمؤلف مفصل حول هذا الفيلسوف.




هذه الدراسة مهمة جدا من
زاوية موضوعنا لأنها تبين لماذا يجب الاهتمام بالبحث في تاريخ الفلسفة
ولماذا يجب الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية وبالضبط إلى أرسطو. إن الحوار مع
التقليد الفلسفي بالنسبة لهايدجر ليس مجرد ملحق للبحث الفلسفي هدفه الإشارة
إلى ما قام به الآخرون أو التعرف على كيفية تفكير الفلاسفة السابقين، كما
أنه ليس مناسبة لوضع تاريخ شامل يعرض تطور الفلسفة، بل هو الطريق الحق الذي
يجب فيه أن يواجه الحاضرُ ذاتَه (ص. 249). فالبحث في ماضي الفلسفة لا يتم
إذن من أجل هذا الماضي، بل من أجل الحاضر، إن له علاقة أساسية بالوضعية
الحالية وبالفلسفة السائدة فيها. يرى هايدجر أن الفلسفة يجب أن تكون تأويلا
للحياة، لكنه يسجل في نفس الوقت أن فلسفة الوضعية الحالية آنذاك لا تستطيع
أن تقوم بهذه المهمة، إنها لا تستطيع أن تعبر عن الحياة بكيفية مباشرة، أو
بعبارة أخرى إن التأويل الذي تقدمه ليس مستمدا من الحياة ذاتها في حيويتها
وفي حركياتها الأساسية. والفلسفة الحالية لا تستطيع القيام بهذه المهمة
لأنها تتحرك في مفاهيم موروثة أصبحت بفضل توارثها بديهية وتلقائية وبذلك
فقدت القدرة على أن تعبر تعبيرا مباشرا عن الحياة. إن المفاهيم التي تتحرك
فيها الفلسفة الحالية ليست مكتسبة بكيفية أصيلة، ليست نابعة من الاستماع
للحياة، بل مستعارة من التقليد الفلسفي. والفلسفة الحالية توظف هذه
المفاهيم دون أن تتساءل عن المجال الذي انبثقت عنه وعن التجارب الأصلية
التي نبعت منها والحوافز الأصلية التي تولدت عنها.




يفسر هايدجر استعمال الفلسفة
للمفاهيم المتوارثة دون مساءلتها وتحديد أصلها انطلاقا من ظاهرة "السقوط
das Verfallen" الذي هو ميل أساسي ينتمي لحركية الحياة ذاتها وينتاب كل
سلوك في الحياة الفعلية، بما في ذلك السلوك الذي ينتمي إلى مجال المعرفة
والتأويل. بمقتضى هذا الميل تعيش الفلسفة غالبا في ما هو غير أصيل، أي في
ما يُنقل إليها وتمتلكه بكيفية غير أصيلة. تبعا لذلك تسقط الفلسفة في ما هو
تلقائي ومعتاد وتستسلم له، أي تسقط في التأويلات المتوسطة durchschnittlich
والعمومية öffentlich. وحتى ما تم اكتسابه بكيفية أصيلة في البداية يسقط في
المتوسطية والعمومية، يفقد معناه الأصلي ويصبح معتادا ومقبولا دون مساءلة
ونقد وتوضيح (ص. 248).




لكي تكتسب الفلسفة شفافية
إزاء وضعيتها وتتهيأ للقيام بمهمتها يجب أن تكشف عن علاقتها بماضيها. أما
إذا ظلت علاقتها بموروثها غير واضحة، فإنها ستبقى خاضعة له خضوعا أعمى.
توضيح علاقة الفلسفة الحالية بماضيها هو إذن تحرير لها من أجل أن تقوم
بمهمتها الأساسية. في سياق توضيح هذه العلاقة يلاحظ هايدجر أن فلسفة
الوضعية الحالية تفهم الحياة انطلاقا من مفاهيم وتحديدات تعود إلى
الأنطولوجيا الإغريقية. لكن ما يزيد المشكل تعقيدا في نظر هايدجر هو أن
الفلسفة الحالية لا تتحرك في هذه المفاهيم في صيغتها الأصلية لدى المفكرين
الإغريق، بل في الشكل الذي اتخذته بعد أن مرت بسلسلة من التحويلات
والتحويرات المتلاحقة وعرفت تحريفات وتقنيعات متتالية. إن الفلسفة الحالية
تستعمل المفاهيم الإغريقية بعد أن تمت إعادة تأويلها مرارا خلال تاريخ
الفلسفة وخاصة من قِبل الفلسفة المدرسية للعصر الوسيط. خلال عمليات إعادة
التأويل هاته فقدت تلك المفاهيم أصليتها وصلتها الأولية بالحياة وبالتالي
وظائفها التعبيرية. إن الفلسفة الحديثة ذاتها إلى اليوم تتحدد في فكرتها عن
الإنسان، عن المثل العليا للحياة، عن تصوراتها للحياة البشرية انطلاقا من
مخلفات لتجارب أساسية أثمرتها الأخلاق الإغريقية والفكرة المسيحية عن
الإنسان والوجود البشري (ص. 249). إن التأويل المسيحي للحياة كما ترسخ في
الفلسفة واللاهوت الوسيطين يحدد الفلسفة إلى الوقت الراهن، وهذا التأويل
يتأسس بدوره على الأنطولوجيا الإغريقية.




إذا كان من الواجب تحرير
الفلسفة لتقوم بمهمتها التي هي إنجاز تأويل مباشر للحياة في حركيتها، فإنه
لا بد من الرجوع إلى الأنطولوجيا الإغريقية وكشف الطبقات التي تراكمت على
مر العصور فوق مفاهيمها وأدت إلى تحريفها وتقنيعها واجتثاثها من تربتها
الأصلية. هذه المهمة يطلق عليها هايدجر النقض die Destruktion وسيبقى
ملتزما بها طوال مساره الفكري. يعني النقض هنا كشف وتقويض التحريفات التي
تعرضت لها المفاهيم الإغريقية وإعادة بناء علاقة هذه المفاهيم بتجاربها
وحوافزها الأصلية. وإذا كان هذا العمل ينطوي على نقد، فإن هذا النقد ليس
موجها للماضي، بل للحاضر،أو لعلاقة هذا الحاضر بماضيه.




عندما يتكلم هايدجر عن ضرورة
الرجوع إلى الأنطولوجيا الإغريقية، فهو يعني بذلك أساسا التوجه إلى أرسطو،
إلى حد أنه يعتبر أن التفلسف الحق في الوضعية الحاضرة لا يمكن أن يكون إلا
تأويلا فينومينولوجيا لأرسطو. لكن لماذا يقع اختيار هايدجر على أرسطو؟ يمثل
أرسطو في نظر هايدجر اكتمال الفلسفة السابقة عليه والتعبير المشخص عنها (ص.
251). لكن الأهم من كل ذلك بالنسبة لهايدجر هو أن الفلسفة الأرسطية هي بدء
الفلسفة اللاحقة بأكملها، وهذا يعني أن المفاهيم الأساسية لفلسفة أرسطو لم
تكن مقتبسة بكيفية تلقائية غير أصيلة من تقليد سابق، لأن أرسطو هو بداية كل
التقليد الفلسفي. إن مفاهيمه لا يمكن أن تكون مستمدة إلا من الحياة ذاتها
ولا يمكن أن تكون قد فقدت وظائفها التعبيرية[4].
لهذا يبقى أرسطو هو الوجه البارز للفلسفة الإغريقية، وحتى ما هو سابق على
أرسطو لا يمكن فهمه إلا انطلاقا منه، فنظرية بارمنيد في الكون Sein مثلا لا
يمكن فهمها دون الرجوع إلى أرسطو (ص. 252).




في المفاهيم الفلسفية لأرسطو
تتكلم الحياة مباشرة، فما هو بدئي هو فقط ما يمكن أن يكون تعبيرا حقيقيا عن
الحياة، أما في الزمن اللاحق، فإن المفاهيم الأرسطية بدأت تفقد علاقتها
بجذورها وأرضيتها الحية. ومن مهمة النقض أن يعيد بناء هذه العلاقة وأن
يبرزها. لكن هل معنى ذلك أن هايدجر يتبنى وصف أرسطو للحياة؟ وإذا كان ذلك
صحيحا، أفلا يعني سقوطا في المفاهيم الموروثة واستسلاما لها؟ ماذا سيكون في
هذه الحالة الفرق بين تفلسف يعود إلى أرسطو وبين الفلسفة السائدة في
الوضعية الحالية؟




إن ما يميز تأويل أرسطو
للحياة هو أنه تأويل مباشر، بمعنى أنه لم يتم بمفاهيم استقاها من تقليد
سابق، بل بناها انطلاقا من انتباهه لتجارب الحياة ذاتها. وهذا لا يعني بصفة
تلقائية أن هذه المفاهيم قد تمكنت بالفعل من الإمساك بالحياة. لذلك لا بد
من فحص هذه المفاهيم ومساءلتها. والسؤال الموجِّه لهذا الفحص هو: هل معنى
كون الحياة البشرية تم استقاؤه من تجربة أساسية محض لهذا الموضوع أي للحياة
البشرية، أم أن أرسطو ينظر إلى الحياة البشرية انطلاقا من تحديدات
أنطولوجية عامة تم استقاؤها من مجال آخر للموضوعات؟ (ص. 253) وبعبارة أدق:
انطلاقا من أي نوع من الموضوعات تم تأويل كون الإنسان؟ (ص. 252)




يجيب هايدجر: إن أرسطو يؤول
الحياة انطلاقا من تحديدات أنطولوجية تتعلق بالكائن[5]
عموما، لكن هذه التحديدات العامة تم استقاؤها من الموضوعات المصنوعة التي
توجد عادة رهن الاستعمال. إن مجال الأشياء التي يتم التعامل معها بكيفية
الإنتاج والاستعمال هو مجال التجربة الأصلية التي تم منها استقاء معنى
الكون الذي تم إسقاطه على الحياة البشرية (ص. 253).




أكيد أن المفاهيم والتحديدات
المستمدة من تجربة الصنع والاستعمال لن تكون قادرة على الإمساك بالحياة في
حيويتها وحركياتها الأساسية. لكن هذا لا ينفي تميز فلسفة أرسطو عن الفلسفات
اللاحقة لها من حيث أنها نحتت مباشرة مفاهيمها ولم تتقبلها من تقليد سابق.
لكن هذه المفاهيم ستفقد تدريجيا أرضيتها لكي تتحول إلى مفاهيم تُقبل بكيفية
تلقائية دون مساءلة مما أدى إلى تحريفها وفصلها عن تجاربها الأصلية.




إذا كانت المهمة المطروحة هي
تحرير فلسفة الوضعية الحالية من أن تظل أسيرة للمفاهيم الموروثة التي لم
تبق قادرة على التعبير عن الحياة، فإن ذلك لن يتحقق بتبني فلسفة أرسطو
وتأويلها للحياة. إن الرجوع إلى تفكير البدء لا يعني تبعية له، بل إنه خطوة
إلى التفكير الحي الخاص بالوضعية الحالية. وهو يكون خطوة بهذا المعنى عندما
يدرك أن فلسفة أرسطو التي تمثل بداية التقليد الفلسفي، هي أيضا لها طابع
خصوصي. عندما يتم فهم فلسفة أرسطو كتعبير عن الحياة تكون منتمية إلى الماضي
ولن يكون من الممكن تبنيها[6].
إذا كان أرسطو يمثل بدء التقليد الفلسفي، فإن المطروح ليس هو إحياء هذا
البدء وتبنيه، بل فهمه؛ هذا الفهم لا يمكن أن يعود إلى تقليد سابق، بل لا
بد أن يتم من خلال التساؤل عن التجارب الأصلية التي يستند إليها وعن شروط
إمكانيته في بنيات الحياة الفعلية ذاتها. وهكذا فإن الرجوع إلى البدء يدعو
إلى تفلسف يتم فيه من جديد التعبير عن الحياة بكيفية مباشرة.




هذه الكيفية في التعامل مع
التقليد الفلسفي ستترسخ في مؤلف "الكون والزمان"[7].
لا بد أن نسجل في البداية أن هناك مسافة فكرية كبيرة بين دراسة 1922 وهذا
المؤلف. ففي "الكون والزمان" سيصبح السؤال الأساسي عند هايدجر هو سؤال
الكون، وسيضع هذا المؤلف على عاتقه مهمة إعادة طرح سؤال الكون وبسطه بعد أن
وقع طي النسيان. أما تأويل الحياة، وبلغة "الكون والزمان" تحليل الكينونة[8]،
فلن يصبح سوى تمهيد لطرح ومعالجة سؤال الكون عموما. صحيح أن دراسة 1922
تعتبر هي الأخرى أن الفلسفة كتأويل للحياة هي أساس كل الأنطولوجيات الجهوية
(ص. 246)، ولكن ذلك لا ينفي أن تأويل الحياة والتعبير عن حركياتها يبقى
هناك هو المهمة الأساسية للفلسفة. وعلاوة على ذلك فإن تحليلات هايدجر في
"الكون والزمان" أصبحت أكثر صرامة كما أن مفاهيمه الأساسية أصبحت تمتلك
وجها نظريا أكثر وضوحا.




لكن رغم كل ذلك فإن نظرة
هايدجر إلى التقليد الفلسفي وأسلوب تعامله معه لم يعرفا تحولا كبيرا. سيظل
هايدجر مقتنعا بأهمية نقض الأنطولوجيا التقليدية كما سيظل ربطه بين معالجة
القضايا التي تهمه والحوار مع التقليد الفلسفي قائما، بل يمكن القول إن
الكيفية التي طرح بها هايدجر سؤال الكون هي ذاتها وليدة حواره مع التقليد
الفلسفي. إذا كان هايدجر يطرح سؤال الكون كسؤال عن العلاقة بين الكون
والزمان، فهذا يعود إلى أنه أدرك من خلال حواره مع التقليد الفلسفي، وخاصة
مع الأنطولوجيا الإغريقية، أن التأويل السائد في هذا التقليد يحدد الكون
كحضور. وهذا يعني أن الكون يتم تأويله انطلاقا من بعد زمني هو الحاضر. في
هذا التأويل للكون يلعب الزمان دور الخيط الموجه دون أن يكون لهذا التأويل
إدراك صريح لهذا الخيط ودون فهم ومعرفة للوظيفة الأنطولوجية الأساسية
للزمان. لهذا لا مناص للتفكير المتسائل من أن يطرح صراحة سؤال العلاقة بين
الكون والزمان وأن يبين كيف ينتمي الزمان إلى معنى الكون وكيف يشكل الأفق
الذي يتم انطلاقا منه فهم الكون[9].




يبقى هايدجر في "الكون
والزمان" مقتنعا بأن النقض يجب أن يرجع إلى الفلسفة الإغريقية وبأن أرسطو
يمثل علميا الدرجة الأرقى والأصفى لهذه الفلسفة (ص. 26). وإذا كان الرجوع
إلى الفلسفة الإغريقية ضروريا، فذلك لأنها لازالت تحدد الفلسفة وتوجه أسلوب
تساؤلها وبحثها عن الأجوبة إلى اليوم. إن المفاهيم الأنطولوجية الإغريقية،
بعد خضوعها لتأويلات متلاحقة حرفتها وفصلتها عن جذورها وأرضيتها، هي التي
حددت ميتافزيقا العصر الحديث التي انتقلت إليها هذه المفاهيم في صياغتها
المدرسية. هذه المفاهيم حددت كذلك توجه الفلسفة الترنسندنتالية كما حددت
أيضا أسس وغايات "المنطق" لهيجل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

هايدجر بين البدء الأول والآخر[ :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

هايدجر بين البدء الأول والآخر[

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  هايدجر بين البدء الأول والآخر[1]
» الذات والآخر هشام روحانا
» العالم والأشياء: قراءة لفلسفة مارتن هايدجر(*)
» عقد البيع العقاري (الفصل الأول).
»  ابن عربي: في البدء كان الأنثى

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المدونات العامة-
انتقل الى: