بعد أن قمنا بالتعرّف تدريجيا على المفاهيم السابقة؛ التماهي الواقعيّ الرمزيّ الخياليّ وعلى جدل السيد والرغبة كمفاهيم أساسية في نظرية التحليل النفسي للاكان، نعرض الآن لمفهومين آخرين. من المستحسن إعادة قراءة المفاهيم السابقة مجدّدا على ضوء ما تحصل لنا معرفته لاحقا من أجل فهم أفضل.
ذات subject sujet
المصطلح "ذات" حاضر في كتابات لاكان النظرية المبكّرة جدّاً (للنظر، Lacan 1932 )، ومنذ العام1945 وصاعداً فإنّه يحتلّ مكانةً مركزية في أعماله. وهذا ما تتميّز به أعمال لاكان، إذ أنّ هذا المصطلح لم يكن قائماً في المخزون اللغويّ النظريّ لفرويد، وإنّما يتّصل أكثر ما يتّصل بالخطاب الفلسفي، القانوني والألسني.
لا يشير المصطلح "ذات" في نصوص لاكان ما قبل الحرب، على ما يبدو، إلا إلى "إنسان" (للنظر Ec, 75)، ويستعمل المصطلح أيضاً للإشارة إلى المتحلّل نفسياً(Ec, 83).
يميّز لاكان في العام 1945 ثلاثة أنواع من الذات. أوّلاً هنالك الذات الغير- شخصية، الغير متعلّقة بآخر، الذات الصرفية البحتة، الذات العقلية، الموضوع المُقنّع في جملة "معروف أنّه…". ثانياً هنالك الذات التبادلية، الغير معرّفة، المتساوية بالكامل مع كلّ ذات أخرى والقابلة للتبديل مع أيّ ذات أخرى، هذه الذات التي يتمّ التعرّف عليها بالتوازي مع الآخر. ثالثاً هنالك الذات الشخصية والتي تؤسّس لتفرّدها من خلال الإقرار الذاتي (Ec, 207–8). المفهوم الثالث للذات؛ الذات في فرديتها، هو الذات التي تتواجد دائما في مركز أعمال لاكان.
يؤسّس لاكان في العام 1953 فارقاً ما بين الذات والأنا، ليبقى هذا التمييز واحداً من التشخيصات الأكثر أساسية في أعماله من الآن فصاعداً. ليست الذات إذا موازيةَ ببساطة للشعور الواعي بإتيان الأفعال، والذي ليس سوى وهم ينشئه الأنا، بل هي موازية لللاوعي، ذات لاكان هي ذات اللاوعي. يدّعي لاكان بأنّه من الممكن العثور على أصول هذا التمايز لدى فرويد : "كتب[فرويد] الأنا والهو (Das Ich und das Es ) من أجل الحفاظ على التمييز الأساسي بين الذات الحقيقية لللاوعي وبين الأنا، كما يتأسّس في بؤرته من خلال سلسلة التماهيات المُؤسلِبة "(E, 128).وعلى الرغم من أنّ للعلاج التحليلي تأثيره على الأنا، ألا أنّ التحليل النفسي يفعل فعله أوّلاً، وقبل كلّ شيء على الذات وليس على الأنا.
يتلاعب لاكان على المعاني المختلفة لمصطلح "ذات". في الألسنية وعلم المنطق؛ ذات البلاغ هي تلك الذي يتم إسناد تصريح ما حيالها(Lacan 1967 :19)، وتتخذ موقعاً نقيضاً لـ"الموضوع". يستعمل لاكان التباينات الفلسفية المختلفة لمفهوم الموضوع من أجل إيضاح مفهومه الخاص حول الذات، حيث أن هذا المفهوم يتصل لديه بتلك الجوانب في الإنسان، التي لا يمكن (أو من الممنوع) أن يتمّ تشييئها (أي التوجّه حيالها وكأنّها مجرّد أغراض) أو فحصها فحصاً "موضوعياً". " ما هو هذا الأمر الذي ندعوه ذاتاً؟، إنّه بالضبط ما يبقى خارج الموضوع خلال المعاينة الموضوعية(Objectivation) " .(S1, 194)
تسيطر الإحالات إلى اللغة على مفهوم الذات لدى لاكان منذ الخمسينات وصاعداً. إنّه يميّز بين ذات التصريح (Statement) وذات الملفوظية (Enunciation)، مبيناً أنّه وبما أنّ الذات في جوهرها هي كائن متكلّم ((parlêtre) فإنّها منقسمة، مخصية ومنفصمة لا محالة. في سنوات الستين المبكّرة يعرّف لاكان الذات على أنّها ما يتمّ عرضه من قبل الدالّ أمام دالّ آخر؛ أي أنّ الذات هي نتاج اللغة (Ec, 835).
فيما عدا موقعه الألسني والمنطقي فإنّ لمفهوم الذات تضمينات فلسفية وحقوقية. ففي الخطاب الفلسفي يفيد هذا المفهوم الإدراكَ الذاتي الفردي، بينما يشير في الخطاب الحقوقيّ إلى الشخص الخاضع لسيادة آخر (subject of). وحقيقة أنّ هذا المصطلح يحمل كلا المعنيين معاً تعني أنّه يُظهِر بالكامل مَوضوعَة لاكان القائلة بأنّ الوعي يتحدّد على يد الرمزيّ : "الذات هي ذات لأنّها في الحقيقة خاضعة (subjection ) لمجال سيادة الآخر " ( S2, 188). كما ويشير المصطلح في الخطاب الحقوقي إلى تثبيت الفعل، الذات هي من يمكن الإشارة إليها كمسؤولة عن أفعالها(للنظر فعل).
يشدد لاكان بالتحديد على النواحي الفلسفية المرتبطة بمفهوم الذات، رابطاً إياه مع فلسفة الكوجيطو لديكارت :
من خلال المصطلح "ذات" […] لا أشير إلى الطبقة التحتية الحيّة الضرورية لهذه الظاهرة والتي هي الذات، وليس إلى كلّ أمر أو مخلوق حامل للمعرفة ببديع بيانه(pathos) ولا حتى إلى عقل ما وقد تجسّد، وإنما إلى الذات الديكارتية، المنبثقة في لحظة إدراكنا الشكّ على أنّه يقين (S11, 126).
حقيقة أن رمز الذات،S ، هي ملفوظ المصطلح الفرويدي Es (أنظر الـ-هو) توضّح كون الذات، وبعيني لاكان، هي ذات اللاوعي. في العام 1957 يخطّ لاكان على رمز الذات S, خطاً كاسراً، للإشارة إلى "الذات المنشطرة"، لإيضاح حقيقة أنّ الذات منقسمة في جوهرها.
آخر آخر otherOther autreAutre
مفهوم "الآخر" هو لربما المفهوم الأكثر تعقيداً في أعمال لاكان. عندما قام لاكان في الثلاثينيات باستعماله، فان هذا المصطلح حينها لم يكن قد أمتلك حضوره الخاص، وكان يرمز بشكل عام إلى "أناس آخرين". وعلى الرغم من أن فرويد كان قد أستعمل مصطلح الآخر وتكلم عن الشخص الآخر؛ الغير(dere Andere ) وكذلك الغيرية (das Andere ), إلا أن لاكان وعلى ما يبدو قد أستعار المصطلح من هيجل والذي تعرض لفلسفته من خلال محاضرات الكسندر كوجيف في École des Hautes Études ، ما بين الأعوام 1933-1939 (للنظر Kojève, 1947).
في العام 1955 يرسم لاكان حداًً فاصلاً ما بين "الآخر الصغير"(الآخر) وبين الـ-آخر الكبير(الـ-آخر) (S2, ch. 19) ، مثبتاً تمايزاً يحافظ على منزلته المركزية طوال أعماله منذ ذلك الحين. وانطلاقا من هذه النقطة فصاعداً يُشار في الجبر اللاكاني للـ آخر الكبير بالحرفA الحرف الكبير،(مُمثلاً ل- Autre بالفرنسية)، بينما يشار للآخر الصغير بالحرف a (الحرف الصغير المائل ممثلاُ ل outré بالفرنسية ). يدّعي لاكان أن التنبه لهذا الفارق ضروري للممارسة التحليلية وأن على المحلل النفسي أن يكون "مسكوناً بشكل مطلق" بإدراك هذا الفارق بينA وa (E, 140) كي يستطيع أن يُموضِع نفسه في موقع الـ- آخر وليس الآخر
(Ec, 454).
1. الآخر الصغير وهو الآخر الذي ليس بآخر فعلاً، وإنما الصورة المتخيلة وإسقاط (Projection) الأنا (EGO) (من هنا، يمثل الدال a تارة الآخر الصغير وتارة الأنا في الشكل (L ، إنّه في ذات الوقت النظير والصورة المنعكسة. ومن هنا فإنّ الآخر الصغير مُسجّلٌ بالكامل في النظام المتخيّل. ( لتفصيل أضافي حول الدال a عند لاكان يمكن مراجعة الموضوع a صغيرة ).
2. الـ-آخر الكبير يمثل الغيرية المُطلقة والمتجاوزة لغيرية النظام المتخيّل الوهمية، حيث أنّها غير قابلة للتمثّل من خلال التماهي. يوازي لاكان هذه الغيرية الجذرية مع اللغة والقانون، ولهذا فإن الـ-آخر الكبير مُسجّلٌ في النظام الرمزيّ. وفي الحقيقة فإنّ الـ-آخر الكبير ما هو إلا الرمزي متشخصا، على صورة فردٍ ما مقابل ذاتٍ ما. ووفقاً لهذا فإنّ الـ-آخر هو ذات أخرى في غيريتها الجذرية وتفرّدها غير القابل للتمثّل، وفي نفس الوقت النظام الرمزي القائم كوسيط للعلاقات المتشكّلة مع الذات الأخرى.
لكن معنى "الـ-آخر كذات أخرى" هو حصراً، ثانويٌ لمعنى"الـ آخر كنظام رمزي" إذ " يجب أدراك الـ آخر أولاً وثانياً كموقع، هذا الموقع الذي يتأسس فيه الكلام " (S3, 274). من الممكن الحديث أذاً عن الـ-آخر كذات، فقط ضمن المعنى الثانوي، أي بالمعنى الذي تتخذ فيه ذات ما هذا الموقع، وبهذا "تُجسِّد" الـ-آخر مقابل الذات الأخرى(S8, 202).
من خلال الادعاء بأن مصدر الكلام ليس الأنا ولا حتى الذات وإنما الـ- آخر يشدد لاكان على أنّ الكلام واللغة يتواجدان خارج مجال السيطرة الواعية للإنسان، إنّهما يحضران من مكان آخر، من خارج الوعي، لهذا فـ"إنّ اللاوعي هو خطاب الـ-آخر "( Ec, 16). ومن خلال إدراك الـ-آخر كموقع، يشير لاكان إلى مفهوم فرويد عن مشهد الأحداث النفسية والذي وفقه يتمّ وصف اللاوعي بال -"مشهد آخر" (للنظر، مشهد).
إنّها الأمّ هي أوّل من يحتلّ موقع الـ-آخر الكبير قبالة الطفل، إذ أنّها هي أُّوّل من يستقبل الصراخ البدائي للرضيع فتعطيه وبأثر رجعيّ، معنىًً ما، جاعلةً منه رسالة معيّنة (للنظر،Punctuation تفصيل المعنى). تتكوّن عقدة الخصاء عندما يتّضح للطفل أنّ هذا الـ-آخر ليس كاملاً. هنالك نقصٌ في الـ-آخر. بكلمات أخرى؛ هنالك دوماً دالٌٌّ ناقصٌ في معجم الدوالّ المؤسّس من قِبَل الـ-آخر. الـ-آخر المتكامل الأسطوري(والذي يكتب بالحرف اللاتيني الكبيرA في الجبر اللاكاني ) غير قائم. في عام 1957 يقدم لاكان عرضاً شكلياً لهذا الـ-آخر الناقص، عن طريق مدّ خطّ مائل يقسم هذا الرمزA ليغدو A، واهباً اسماً إضافياً للـ-آخر المخصيّ فيغدو الـ-آخر الناقص وهو الـ-آخر المثلوم.
الـ-آخر هو أيضا "الجنس الـ-آخر "( S20, 40)، الجنس الـ-آخر هو دائماً امرأة، مقابل الذات الذكرية والذات الأنثوية على حدّ سواء، " يقوم الرجل بدور محطّة تبديل حيث تغدو المرأة آخراً تجاه نفسها كما هي آخرُ تجاهه"