سالار ثـــــــــــــــائر نشيـط
الجنس : عدد المساهمات : 239 معدل التفوق : 547 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 28/01/2012
| | هايدجر بين البدء الأول والآخر[1] | |
هايدجر بين البدء الأول والآخر[1]
إسماعيل المصدق كلية الآداب - القنيطرة يسرني أن أهدي هذه الدراسة إلى الأستاذ Heinrich Hüni الذي فتح عيني على كثير من خبايا تفكير هايدجر وقوله، مع أطيب المتمنيات بمناسبة عيد ميلاده الخامس والستين. يلاحظ المتتبع لمسار تفكير هايدجر أن تجربة المفكرين الإغريق الأوائل لم تكن تحتل مكانة مهمة في تحليلات "الكون[2] والزمان Sein und Zeit" وفي كتاباته ومحاضراته الجامعية التي ترجع إلى نفس الفترة. لقد كان هايدجر آنذاك مقتنعا بأهمية الفلسفة الإغريقية وبأن ما أتى بعدها لم يرقَ إلى مستواها. لكنه مع ذلك كان يركز اهتمامه على أفلاطون وأرسطو خاصة. ورغم إشاراته إلى بارمنيد وهيراقليط وغيرهما من المفكرين الإغريق الأوائل، فإنه لم يكن يرى في تلك الفترة فائدة من فتح حوار معهم. هذا الأمر سوف يتغير في الفترة التي تلت صدور "الكون والزمان" والتي عمل فيها هايدجر على إعادة تأمل منطلقه الفلسفي. منذ الثلاثينات من القرن الماضي بدأ اهتمام هايدجر بالإغريق الأوائل يتزايد ويتعمق، بل أصبح تأويله لتجربتهم وحواره معهم يحتل مكانة أساسية في تفكيره ويلعب دورا مركزيا في فهمه وتأويله للتاريخ الغربي. كيف يمكن تفسير هذا التحول في موقف هايدجر من المفكرين الإغريق الأوائل؟ يمكن أن نلاحظ أن هايدجر في نفس الفترة التي بدأ فيها يهتم بـ "البدء الأول" كما عبر عن ذاته في تجربة المفكرين الإغريق الأوائل أخذ يتحدث أيضا عن "بدء آخر" ممكن يتم معه تخطي الميتافزيقا التي بلغت اكتمالها في سيطرة الأسلوب العلمي – التقني للتعامل مع العالم والأشياء. وهذا الأمر قد يبعث على الاعتقاد بأن البدء الآخر المأمول لن يكون سوى إحياء للبدء الأول في تجربته الأصلية مع المفكرين الإغريق الأوائل. إذا قبلنا هذا الافتراض فمعنى ذلك أن اهتمام هايدجر بالإغريق الأوائل منذ الثلاثينات من القرن الماضي يجب فهمه كهروب من عدمية العصر الحاضر وحنين إلى أصل طاهر. وعليه سيكون البدء الأول هو الحالة الأصلية التي تتميز بالطهر والبراءة؛ في حين ستمثل الميتافزيقا حالة الانحدار والسقوط والابتعاد المتزايد عن هذه الحالة الأصلية؛ أما الخلاص من هذا السقوط فسيكون بالرجوع إلى الأصل الأول وبراءته. تقدم هذه الخطاطة تفسيرا سهلا وبسيطا لاتجاه هايدجر نحو الحوار مع المفكرين الإغريق الأوائل، لكن هذا التفسير يبقى عقيما ولا يساعد بتاتا على فهم المقاصد الحقيقية لهايدجر وبالأحرى على الاستفادة من أسلوبه في التعامل مع التقليد الفلسفي. لذلك سنحاول في هذه الدراسة أن نلقي بعض الضوء على علاقة هايدجر بالمفكرين الإغريق الأوائل من خلال متابعة متأنية لبعض المحطات الأساسية في طريقه الفكري. سنبرز في قسم أول المكانة التي تحتلها الفلسفة الإغريقية عند هايدجر خلال فترة "الكون والزمان"، وسوف يتضح أن عدم اهتمام هايدجر آنذاك بالإغريق الأوائل يرتبط بتصوره لبرنامج نقض تاريخ الأنطولوجيا، كما سيتبين أن هايدجر لم يتمكن من إنجاز برنامجه ذاك، لأن فهمه للتاريخ في تلك الفترة لم يكن قادرا على حمله. أما القسم الثاني فسيعمل على بيان أن اهتمام هايدجر ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي بتجربة المفكرين الإغريق الأوائل يرتبط بتعميق فهمه للتاريخ، وسوف يتضح أن رجوع هايدجر إلى هذه التجربة وحواره مع مفكريها الأساسيين لم يكن بغرض بعثها أو إحيائها من جديد، بل من أجل فهم الميتافزيقا التي انبثقت عنها والتي حددت التفكير والتاريخ الغربيين إلى الوقت الراهن. إن استعادة البدء الأول في أصليته هو ضرورة يفرضها التهيؤ لبدء آخر يتم معه تخطي الميتافزيقا التي بلغت ذروتها في العالم التقني الذي يحدد تجربتنا في الوقت الحاضر. عرف هايدجر منذ بداية طريقه الفلسفي كيف يزاوج بين معالجة القضايا الفلسفية التي تشغله وبين البحث في تاريخ الفلسفة. لا يتعلق الأمر عند هايدجر بمهمتين منفصلتين، بل متداخلتين. هكذا كان يدخل أحيانا خلال طرح ومعالجة أسئلته الفلسفية في حوار مع فلاسفة آخرين، كما كان في أحيان أخرى يصوغ قضاياه الفلسفية ويبسطها من خلال حواره مع فلاسفة ينتمون لحقب مختلفة من التقليد الفلسفي. ورغم أن هايدجر لم يهتم بكتابة تاريخ شامل للفلسفة على غرار هيجل، فإنه ترك كتابات غزيرة يقوم فيها بقراءة وتأويل عدد كبير من الفلاسفة. لماذا هذا الاهتمام بتاريخ الفلسفة؟ ولماذا هذا الحوار الذي لا ينتهي مع التقليد الفلسفي؟ لمعالجة هذا السؤال سيكون من المفيد أن نعود إلى دراسة حررها هايدجر خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1922 وقدمها لدعم طلبه للحصول على منصب الأستاذية بجامعة جوتنجن أو ماربورج. تحمل هذه الدراسة عنوان "تأويل فينومينولوجي لأرسطو"[3] وتضم مشروعا لمؤلف مفصل حول هذا الفيلسوف. هذه الدراسة مهمة جدا من زاوية موضوعنا لأنها تبين لماذا يجب الاهتمام بالبحث في تاريخ الفلسفة ولماذا يجب الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية وبالضبط إلى أرسطو. إن الحوار مع التقليد الفلسفي بالنسبة لهايدجر ليس مجرد ملحق للبحث الفلسفي هدفه الإشارة إلى ما قام به الآخرون أو التعرف على كيفية تفكير الفلاسفة السابقين، كما أنه ليس مناسبة لوضع تاريخ شامل يعرض تطور الفلسفة، بل هو الطريق الحق الذي يجب فيه أن يواجه الحاضرُ ذاتَه (ص. 249). فالبحث في ماضي الفلسفة لا يتم إذن من أجل هذا الماضي، بل من أجل الحاضر، إن له علاقة أساسية بالوضعية الحالية وبالفلسفة السائدة فيها. يرى هايدجر أن الفلسفة يجب أن تكون تأويلا للحياة، لكنه يسجل في نفس الوقت أن فلسفة الوضعية الحالية آنذاك لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة، إنها لا تستطيع أن تعبر عن الحياة بكيفية مباشرة، أو بعبارة أخرى إن التأويل الذي تقدمه ليس مستمدا من الحياة ذاتها في حيويتها وفي حركياتها الأساسية. والفلسفة الحالية لا تستطيع القيام بهذه المهمة لأنها تتحرك في مفاهيم موروثة أصبحت بفضل توارثها بديهية وتلقائية وبذلك فقدت القدرة على أن تعبر تعبيرا مباشرا عن الحياة. إن المفاهيم التي تتحرك فيها الفلسفة الحالية ليست مكتسبة بكيفية أصيلة، ليست نابعة من الاستماع للحياة، بل مستعارة من التقليد الفلسفي. والفلسفة الحالية توظف هذه المفاهيم دون أن تتساءل عن المجال الذي انبثقت عنه وعن التجارب الأصلية التي نبعت منها والحوافز الأصلية التي تولدت عنها. يفسر هايدجر استعمال الفلسفة للمفاهيم المتوارثة دون مساءلتها وتحديد أصلها انطلاقا من ظاهرة "السقوط das Verfallen" الذي هو ميل أساسي ينتمي لحركية الحياة ذاتها وينتاب كل سلوك في الحياة الفعلية، بما في ذلك السلوك الذي ينتمي إلى مجال المعرفة والتأويل. بمقتضى هذا الميل تعيش الفلسفة غالبا في ما هو غير أصيل، أي في ما يُنقل إليها وتمتلكه بكيفية غير أصيلة. تبعا لذلك تسقط الفلسفة في ما هو تلقائي ومعتاد وتستسلم له، أي تسقط في التأويلات المتوسطة durchschnittlich والعمومية öffentlich. وحتى ما تم اكتسابه بكيفية أصيلة في البداية يسقط في المتوسطية والعمومية، يفقد معناه الأصلي ويصبح معتادا ومقبولا دون مساءلة ونقد وتوضيح (ص. 248). لكي تكتسب الفلسفة شفافية إزاء وضعيتها وتتهيأ للقيام بمهمتها يجب أن تكشف عن علاقتها بماضيها. أما إذا ظلت علاقتها بموروثها غير واضحة، فإنها ستبقى خاضعة له خضوعا أعمى. توضيح علاقة الفلسفة الحالية بماضيها هو إذن تحرير لها من أجل أن تقوم بمهمتها الأساسية. في سياق توضيح هذه العلاقة يلاحظ هايدجر أن فلسفة الوضعية الحالية تفهم الحياة انطلاقا من مفاهيم وتحديدات تعود إلى الأنطولوجيا الإغريقية. لكن ما يزيد المشكل تعقيدا في نظر هايدجر هو أن الفلسفة الحالية لا تتحرك في هذه المفاهيم في صيغتها الأصلية لدى المفكرين الإغريق، بل في الشكل الذي اتخذته بعد أن مرت بسلسلة من التحويلات والتحويرات المتلاحقة وعرفت تحريفات وتقنيعات متتالية. إن الفلسفة الحالية تستعمل المفاهيم الإغريقية بعد أن تمت إعادة تأويلها مرارا خلال تاريخ الفلسفة وخاصة من قِبل الفلسفة المدرسية للعصر الوسيط. خلال عمليات إعادة التأويل هاته فقدت تلك المفاهيم أصليتها وصلتها الأولية بالحياة وبالتالي وظائفها التعبيرية. إن الفلسفة الحديثة ذاتها إلى اليوم تتحدد في فكرتها عن الإنسان، عن المثل العليا للحياة، عن تصوراتها للحياة البشرية انطلاقا من مخلفات لتجارب أساسية أثمرتها الأخلاق الإغريقية والفكرة المسيحية عن الإنسان والوجود البشري (ص. 249). إن التأويل المسيحي للحياة كما ترسخ في الفلسفة واللاهوت الوسيطين يحدد الفلسفة إلى الوقت الراهن، وهذا التأويل يتأسس بدوره على الأنطولوجيا الإغريقية. إذا كان من الواجب تحرير الفلسفة لتقوم بمهمتها التي هي إنجاز تأويل مباشر للحياة في حركيتها، فإنه لا بد من الرجوع إلى الأنطولوجيا الإغريقية وكشف الطبقات التي تراكمت على مر العصور فوق مفاهيمها وأدت إلى تحريفها وتقنيعها واجتثاثها من تربتها الأصلية. هذه المهمة يطلق عليها هايدجر النقض die Destruktion وسيبقى ملتزما بها طوال مساره الفكري. يعني النقض هنا كشف وتقويض التحريفات التي تعرضت لها المفاهيم الإغريقية وإعادة بناء علاقة هذه المفاهيم بتجاربها وحوافزها الأصلية. وإذا كان هذا العمل ينطوي على نقد، فإن هذا النقد ليس موجها للماضي، بل للحاضر،أو لعلاقة هذا الحاضر بماضيه. عندما يتكلم هايدجر عن ضرورة الرجوع إلى الأنطولوجيا الإغريقية، فهو يعني بذلك أساسا التوجه إلى أرسطو، إلى حد أنه يعتبر أن التفلسف الحق في الوضعية الحاضرة لا يمكن أن يكون إلا تأويلا فينومينولوجيا لأرسطو. لكن لماذا يقع اختيار هايدجر على أرسطو؟ يمثل أرسطو في نظر هايدجر اكتمال الفلسفة السابقة عليه والتعبير المشخص عنها (ص. 251). لكن الأهم من كل ذلك بالنسبة لهايدجر هو أن الفلسفة الأرسطية هي بدء الفلسفة اللاحقة بأكملها، وهذا يعني أن المفاهيم الأساسية لفلسفة أرسطو لم تكن مقتبسة بكيفية تلقائية غير أصيلة من تقليد سابق، لأن أرسطو هو بداية كل التقليد الفلسفي. إن مفاهيمه لا يمكن أن تكون مستمدة إلا من الحياة ذاتها ولا يمكن أن تكون قد فقدت وظائفها التعبيرية[4]. لهذا يبقى أرسطو هو الوجه البارز للفلسفة الإغريقية، وحتى ما هو سابق على أرسطو لا يمكن فهمه إلا انطلاقا منه، فنظرية بارمنيد في الكون Sein مثلا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى أرسطو (ص. 252). في المفاهيم الفلسفية لأرسطو تتكلم الحياة مباشرة، فما هو بدئي هو فقط ما يمكن أن يكون تعبيرا حقيقيا عن الحياة، أما في الزمن اللاحق، فإن المفاهيم الأرسطية بدأت تفقد علاقتها بجذورها وأرضيتها الحية. ومن مهمة النقض أن يعيد بناء هذه العلاقة وأن يبرزها. لكن هل معنى ذلك أن هايدجر يتبنى وصف أرسطو للحياة؟ وإذا كان ذلك صحيحا، أفلا يعني سقوطا في المفاهيم الموروثة واستسلاما لها؟ ماذا سيكون في هذه الحالة الفرق بين تفلسف يعود إلى أرسطو وبين الفلسفة السائدة في الوضعية الحالية؟ إن ما يميز تأويل أرسطو للحياة هو أنه تأويل مباشر، بمعنى أنه لم يتم بمفاهيم استقاها من تقليد سابق، بل بناها انطلاقا من انتباهه لتجارب الحياة ذاتها. وهذا لا يعني بصفة تلقائية أن هذه المفاهيم قد تمكنت بالفعل من الإمساك بالحياة. لذلك لا بد من فحص هذه المفاهيم ومساءلتها. والسؤال الموجِّه لهذا الفحص هو: هل معنى كون الحياة البشرية تم استقاؤه من تجربة أساسية محض لهذا الموضوع أي للحياة البشرية، أم أن أرسطو ينظر إلى الحياة البشرية انطلاقا من تحديدات أنطولوجية عامة تم استقاؤها من مجال آخر للموضوعات؟ (ص. 253) وبعبارة أدق: انطلاقا من أي نوع من الموضوعات تم تأويل كون الإنسان؟ (ص. 252) يجيب هايدجر: إن أرسطو يؤول الحياة انطلاقا من تحديدات أنطولوجية تتعلق بالكائن[5] عموما، لكن هذه التحديدات العامة تم استقاؤها من الموضوعات المصنوعة التي توجد عادة رهن الاستعمال. إن مجال الأشياء التي يتم التعامل معها بكيفية الإنتاج والاستعمال هو مجال التجربة الأصلية التي تم منها استقاء معنى الكون الذي تم إسقاطه على الحياة البشرية (ص. 253). أكيد أن المفاهيم والتحديدات المستمدة من تجربة الصنع والاستعمال لن تكون قادرة على الإمساك بالحياة في حيويتها وحركياتها الأساسية. لكن هذا لا ينفي تميز فلسفة أرسطو عن الفلسفات اللاحقة لها من حيث أنها نحتت مباشرة مفاهيمها ولم تتقبلها من تقليد سابق. لكن هذه المفاهيم ستفقد تدريجيا أرضيتها لكي تتحول إلى مفاهيم تُقبل بكيفية تلقائية دون مساءلة مما أدى إلى تحريفها وفصلها عن تجاربها الأصلية. إذا كانت المهمة المطروحة هي تحرير فلسفة الوضعية الحالية من أن تظل أسيرة للمفاهيم الموروثة التي لم تبق قادرة على التعبير عن الحياة، فإن ذلك لن يتحقق بتبني فلسفة أرسطو وتأويلها للحياة. إن الرجوع إلى تفكير البدء لا يعني تبعية له، بل إنه خطوة إلى التفكير الحي الخاص بالوضعية الحالية. وهو يكون خطوة بهذا المعنى عندما يدرك أن فلسفة أرسطو التي تمثل بداية التقليد الفلسفي، هي أيضا لها طابع خصوصي. عندما يتم فهم فلسفة أرسطو كتعبير عن الحياة تكون منتمية إلى الماضي ولن يكون من الممكن تبنيها[6]. إذا كان أرسطو يمثل بدء التقليد الفلسفي، فإن المطروح ليس هو إحياء هذا البدء وتبنيه، بل فهمه؛ هذا الفهم لا يمكن أن يعود إلى تقليد سابق، بل لا بد أن يتم من خلال التساؤل عن التجارب الأصلية التي يستند إليها وعن شروط إمكانيته في بنيات الحياة الفعلية ذاتها. وهكذا فإن الرجوع إلى البدء يدعو إلى تفلسف يتم فيه من جديد التعبير عن الحياة بكيفية مباشرة. هذه الكيفية في التعامل مع التقليد الفلسفي ستترسخ في مؤلف "الكون والزمان"[7]. لا بد أن نسجل في البداية أن هناك مسافة فكرية كبيرة بين دراسة 1922 وهذا المؤلف. ففي "الكون والزمان" سيصبح السؤال الأساسي عند هايدجر هو سؤال الكون، وسيضع هذا المؤلف على عاتقه مهمة إعادة طرح سؤال الكون وبسطه بعد أن وقع طي النسيان. أما تأويل الحياة، وبلغة "الكون والزمان" تحليل الكينونة[8]، فلن يصبح سوى تمهيد لطرح ومعالجة سؤال الكون عموما. صحيح أن دراسة 1922 تعتبر هي الأخرى أن الفلسفة كتأويل للحياة هي أساس كل الأنطولوجيات الجهوية (ص. 246)، ولكن ذلك لا ينفي أن تأويل الحياة والتعبير عن حركياتها يبقى هناك هو المهمة الأساسية للفلسفة. وعلاوة على ذلك فإن تحليلات هايدجر في "الكون والزمان" أصبحت أكثر صرامة كما أن مفاهيمه الأساسية أصبحت تمتلك وجها نظريا أكثر وضوحا. لكن رغم كل ذلك فإن نظرة هايدجر إلى التقليد الفلسفي وأسلوب تعامله معه لم يعرفا تحولا كبيرا. سيظل هايدجر مقتنعا بأهمية نقض الأنطولوجيا التقليدية كما سيظل ربطه بين معالجة القضايا التي تهمه والحوار مع التقليد الفلسفي قائما، بل يمكن القول إن الكيفية التي طرح بها هايدجر سؤال الكون هي ذاتها وليدة حواره مع التقليد الفلسفي. إذا كان هايدجر يطرح سؤال الكون كسؤال عن العلاقة بين الكون والزمان، فهذا يعود إلى أنه أدرك من خلال حواره مع التقليد الفلسفي، وخاصة مع الأنطولوجيا الإغريقية، أن التأويل السائد في هذا التقليد يحدد الكون كحضور. وهذا يعني أن الكون يتم تأويله انطلاقا من بعد زمني هو الحاضر. في هذا التأويل للكون يلعب الزمان دور الخيط الموجه دون أن يكون لهذا التأويل إدراك صريح لهذا الخيط ودون فهم ومعرفة للوظيفة الأنطولوجية الأساسية للزمان. لهذا لا مناص للتفكير المتسائل من أن يطرح صراحة سؤال العلاقة بين الكون والزمان وأن يبين كيف ينتمي الزمان إلى معنى الكون وكيف يشكل الأفق الذي يتم انطلاقا منه فهم الكون[9]. يبقى هايدجر في "الكون والزمان" مقتنعا بأن النقض يجب أن يرجع إلى الفلسفة الإغريقية وبأن أرسطو يمثل علميا الدرجة الأرقى والأصفى لهذه الفلسفة (ص. 26). وإذا كان الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية ضروريا، فذلك لأنها لازالت تحدد الفلسفة وتوجه أسلوب تساؤلها وبحثها عن الأجوبة إلى اليوم. إن المفاهيم الأنطولوجية الإغريقية، بعد خضوعها لتأويلات متلاحقة حرفتها وفصلتها عن جذورها وأرضيتها، هي التي حددت ميتافزيقا العصر الحديث التي انتقلت إليها هذه المفاهيم في صياغتها المدرسية. هذه المفاهيم حددت كذلك توجه الفلسفة الترنسندنتالية كما حددت أيضا أسس وغايات "المنطق" لهيجل (ص. 2، 22). يريد النقض أن يوضح علاقة الفلسفة بماضيها، وهذا التوضيح ضروري لأن علاقة الكينونة بالتقليد الذي تنتمي إليه لا تكون في العادة شفافة، فالكينونة تميل بمقتضى تحديد أساسي لها إلى أن تسقط في التقليد وتستسلم له دون مساءلة ونقد، حتى يحمل عنها عبء توجيهها وسؤالها واختيارها. وهذا يصح أيضا بالنسبة للفلسفة. فالفلسفة ككيفية من الكيفيات التي تنجز بها الكينونة وجودها تتعرض هي أيضا إلى أن تستسلم لتقليدها. والتقليد عندما يصبح سائدا لا يسمح ببلوغ ما ينقله، بل يقنعه. إنه يجعل الموروث بديهيا ويوصد الطريق إلى المنابع الأصلية التي تم منها استقاء المقولات والمفاهيم الموروثة. هكذا يقتلع التقليد تاريخية الكينونة من الجذور، والنتيجة هي أن الكينونة لا تفهم الشروط الأولية التي تسمح برجوع إيجابي إلى الماضي بمعنى تملك خصب له (ص. 21). إن وظيفة النقض هي أن يحررنا من الاستسلام للتقليد وأن يجعلنا نفهم هذا التقليد في تاريخيته. أما الأدوات اللازمة لممارسة هذا النقض فيجب أن نستمدها من تحليل الكينونة. لكن لماذا يجب الرجوع إلى تحليل الكينونة إذا كان النقض يتم في علاقة بسؤال الكون وليس كتمهيد لتأويل الحياة؟ يجب أن نذكر هنا بأن تحليل الكينونة يمثل عند هايدجر في هذه الفترة خطوة ضرورية لمعالجة سؤال الكون. وهذا يعود إلى العلاقة المتميزة للكينونة بالكون، هذه العلاقة لا تبتدئ فقط عندما تهتم الكينونة الفلسفية بالكون وأنماطه ومقولاته، أي عندما تنشئ أنطولوجيا. إن علاقة الكينونة بالكون تسبق كل نظرية أنطولوجية، لأن الكينونة في حياتها اليومية تفهم دائما الكون بكيفية ما. هذا الفهم يبقى غالبا ضمنيا وغير محدد، لكنه لا يمكن أبدا أن يكون غائبا. لهذا يمكن القول إن الكينونة تتوفر دائما على فهم "قبل أنطولوجي" للكون؛ هذا الفهم هو شرط إمكانية كل أنطولوجيا، أي كل اهتمام صريح بالكون وكل محاولة لتحديد مفاهيمه ومقولاته، بل إن النظريات الأنطولوجية المختلفة تجد أساسها في هذه التصورات التي تمتلكها الكينونة اليومية بكيفية ما، إنها ليست سوى صياغة وبسط صريحين لهذه التصورات السابقة للأنطولوجيا. ما دام الأمر كذلك فإنه من الواضح أنه لا يمكن ممارسة النقض إلا على ضوء معرفة ببنيات الكينونة. وهكذا فإذا كانت الأنطولوجيا التقليدية من الإغريق إلى اليوم تفهم الكون عموما انطلاقا من نمط كون الكائن الذي يقوم أمامنا das Vorhandene، فهذا يعود إلى أن الكينونة في فهمها المتوسط اليومي للكون تميل إلى أن تفهم كونها والكون عموما انطلاقا من الكائن الذي تتصرف إزاءه في البداية وفي الغالب، أي انطلاقا من "العالم" (ص. 15). إن فهم الكون يتوجه غالبا انطلاقا من أسس تكمن في الكينونة حسب الكائن القائم أمامنا، ولهذا فإن التأويل الأنطولوجي للكون في بداية الفلسفة يتوجه حسب ما هو قائم أمامنا[10]. ما يتجلى في المجال النظري للأنطولوجيا هو تحديد عام للكينونة يتمثل في الميل إلى أن تفهم ذاتها انطلاقا من الأشياء وأن تستمد مفهوم الكون مما هو قائم أمامنا[11]. إن نقض الأنطولوجيا التقليدية معناه في النهاية إبراز التحديدات التي تكمن في نمط كون الكينونة والتي تتأسس عليها المفاهيم والنظريات الأنطولوجية. يمكن أن نوضح خطوات هذا النقض بالرجوع إلى التأويل الذي خصصه هايدجر للمفهوم التقليدي للزمان. تتمثل الخطوة الأولى في بيان أن مفهوم الزمان كما صاغه أرسطو في الكتاب الرابع من مؤلف "الطبيعة" هو الذي حدد فهم الزمان طوال تاريخ الفلسفة الغربية بما في ذلك مساهمات لايبنز وكانط وهيجل. حتى التحليلات والتأملات المهمة التي صاغها برجسون حول هذه الظاهرة لم تتمكن حسب هايدجر من أن تخرج عن الإطار الذي رسمه الفهم الأرسطي للزمان (ص. 18، 26). أما الخطوة الثانية فيبين فيها هايدجر أن المفهوم الأرسطي للزمان يجد جذوره في الفهم الضمني الذي يوجه تعامل الكينونة مع الزمان عند إنجاز مهامها اليومية. مفهوم الزمان كما بسطه أرسطو علميا لا يختلف عن الفهم الضمني المتداول للزمان في الحياة اليومية. هذا الفهم المتداول للزمان يجب تمييزه عن الفهم الأصلي للزمان. لذلك يجب في خطوة ثالثة بيان كيف ينبثق الفهم المتداول للزمان الذي يحدد فهم الزمان طوال تاريخ الفلسفة عن المعنى الأصلي للزمان الذي يتمثل في نظر هايدجر في زمانية الكينونة. إن الفهم المتداول للزمان ينبثق من زمانية الكينونة ولكنه في نفس الوقت يقنعها ويحرفها ويجعل النفاذ إليها غير ممكن. من خلال هذه الوقفة عند "الكون والزمان" نلاحظ هنا أيضا أن هايدجر لا يحاول تأويل فلسفة أرسطو بالعودة إلى المفكرين الإغريق الأوائل. صحيح أن هناك في هذه الفترة إشارات إلى بارمنيد وهيراقليط وغيرهما من المفكرين السابقين لسقراط. لكن مع ذلك فإن هايدجر لا يعود إليهم لتأويل أرسطو، بل لا يجعل منهم موضوعا لانشغال عميق كما هو الأمر فيما بعد. في محاضراته الجامعية لدورة الصيف 1926 التي نشرت تحت عنوان "المفاهيم الأساسية للفلسفة القديمة"[12] يخصص هايدجر مقطعا من حوالي 40 صفحة للفلسفة قبل أفلاطون. في هذه الصفحات يستعرض هايدجر بشكل جد سريع عددا كبيرا من المفكرين، لكنه لا يقوم بتحليل مفصل ودقيق لأفكارهم ولا يدخل بالأحرى في حوار معهم. إن عدم اهتمام هايدجر بالمفكرين الإغريق الأوائل يعود إلى برنامجه لنقض الأنطولوجيا الذي كان يستمد أدواته من تحليل الكينونة. رغم أن "الكون والزمان" والمحاضرات الجامعية التي تعود إلى نفس الفترة تقدم أمثلة عديدة على نقض بعض تصورات الأنطولوجيا التقليدية، إلا أن هايدجر مع ذلك لم ينجز برنامج النقض كما صاغه في مقدمة "الكون والزمان". لا شك أن عدم إنجاز هذا البرنامج له علاقة بمصير "الكون والزمان" الذي بقي غير مكتمل. لكننا سنوجه انتباهنا هنا لبرنامج نقض الأنطولوجيا فقط. يتوقف نقض تاريخ الأنطولوجيا على بلورة مفهوم للتاريخ يمكن من فهم تاريخية الكينونة وبالتالي علاقتها بالماضي وبالتقليد. لهذا سيثير هايدجر مشكل التاريخ منذ § 6 من "الكون والزمان" التي يعرض فيها برنامجه لنقض تاريخ الأنطولوجيا. لن يبسط هايدجر مفهومه للتاريخ إلا في الفصل الخامس من المقطع الثاني، لكن عرضه لبرنامج نقض الأنطولوجيا يفترض مسبقا هذا المفهوم. إذا توقفنا عند هذا المفهوم فسوف يتبين أنه لم يكن قادرا على حمل برنامج نقض الأنطولوجيا لأنه لم يكن جذريا بما فيه الكفاية[13]. التاريخ هو مجال اختبار سؤال الكون وهو بالدرجة الأولى مادة النقض. فالنقض يهدف إلى تقويض التحريفات التي تعرضت لها المفاهيم الأنطولوجية خلال التاريخ والكشف عن التجارب الأصلية والافتراضات المسبقة الخفية التي حددت التأويل التقليدي للكون. وهذا يعني أنه يجب تقويض التقليد الذي نجد أنفسنا تاريخيا فيه على ضوء بنيات الكينونة وتجاربها الأصلية، وذلك ما يبدو كما لو كان رجوعا إلى حصيلة أولية تبقى ثابتة. إن الأمر يتعلق بإبعاد ما تراكم عبر عصور التاريخ فوق ما يعتبره هايدجر تجارب أصلية وبإزالة التقنيعات المتجمعة المتراكمة فوق بعضها التي تجعل من غير الممكن التعرف على الكون وعلى المعنى البدئي للكون. من هنا يظهر أن مفهوم التاريخ الذي أقام عليه هايدجر برنامجه لنقض الأنطولوجيا لم يكن جذريا بما فيه الكفاية. فهايدجر يؤسس التاريخ انطلاقا من زمانية الكينونة، أي إنه يحاول أن يمسك بالتاريخ انطلاقا من الزمانية التي تشكل عنده معنى كون الكينونة. فالزمانية هي شرط إمكانية التاريخية die Geschichtlichkeit ككيفية زمنية لكون الكينونة ذاتها (ص. 19). لهذا فتأويل تاريخية الكينونة ليس سوى بسط مشخص للزمانية (382). إن التاريخية هي بالأساس تاريخية الكينونة. أكيد أن هايدجر يؤكد على تاريخية العالم أيضا، لكنه لا يدركها في "الكون والزمان" بكيفية جذرية، فالعالم ليس له طابع تاريخي إلا لأنه يشكل تحديدا أنطولوجيا للكينونة (ص. 381). إن العالم يستمد تاريخيته من تاريخية الكينونة التي تتأسس على زمانيتها. العالم له طابع تاريخي بمقتضى زمانية الكينونة. لا شك في أن الكائن داخل العالم das Innerweltliche هو تاريخي بمعنى ثانوي، أي أنه يستمد تاريخيته من انتمائه إلى العالم. لكن هذا لا ينفي بأن ما هو تاريخي أوليا ليس هو العالم التاريخي بل الكينونة الزمنية. إن مفهوم التاريخ الذي تم إدراكه انطلاقا من نمط كون الكينونة وبالضبط من زمانيتها لم يكن قادرا على أن يؤسس نقضا فينومينولوجيا لتاريخ الأنطولوجيا. في الفترة التي تلت "الكون والزمان" سيقوم هايدجر بإعادة تأمل منطلقه الفلسفي ومراجعة أسلوبه في معالجة سؤال الكون. ستعرف هذه الفترة اكتمالا مؤقتا في مؤلف "مساهمات في الفلسفة" (1936 – 1938)، وسيكون من ثمارها إعادة تحديد مفهوم التاريخ وتفكيره بكيفية أكثر عمقا وجذرية. هكذا سيصبح ما هو تاريخي بالأساس ليس هو الكينونة الزمانية، بل الكون ذاته. إن تفكيرا يفهم ذاته كتفكير تاريخ الكون سيكون عليه أن يتأمل التقليد الفلسفي ويفهمه انطلاقا من تاريخ الكون. فالتاريخ بالمعنى الأولي هو تاريخ الكون، أما الكينونة فليست تاريخية إلا لأنها مندرجة في تاريخ الكون باعتبار أنها المحل الذي يحتاج إليه حدوث حقيقة الكون. إن الكون لا يمكن أن ينفتح إلا للكينونة، لكن الكينونة لا تحدد الكيفية التي ينفتح بها الكون في كل حقبة، بل تتقبل هذا الانفتاح وترعاه وتنشئه في الكائن | |
|