سوسية ثـــــــــــــــائر نشيـط
الجنس : عدد المساهمات : 159 معدل التفوق : 341 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 05/03/2012
| | قراءة في الحرب الباردة | |
كان ذلك في الثمانينيات، في السنة التي اتخذت فيها الحرب الباردة منحاً شديد الخطورة حيث وقف العالم يومها على شفير حرب نووية، كنت يومها واقفاً على شفير من نوع آخر، في قريتي المنسية هناك في جبال خرجت عنوة من أحشاء البحر، هناك حيث لم أكن أعلم أننا كبشر مهددون بالفناء في لحظة واحدة، ولم تكن قريتي ذات أثر في موازين القوى الدولية لتمنع حدوث ذلك. على أية حال كنت مشغولاً يومها بما هو أهم من ذلك. فقد قررت اليوم أني سأجتاز ذلك الخزان اللعين من طرفه إلى طرفه.
كان خزان ماء، لكنه كان غريباً جداً ومع أنني في عمر يقترب من الخمس السنوات ولم أكن قد رأيت الكثير غيره إلا أنني استطعت إدراك مدى غرابته، فقد كان محفوراً في الأرض وليس مبنيا فوقها، دعمت أرضه وجدرانه بطبقة اسمنتية على ما أظن، و كان مكشوف السطح لتتمكن بكل سهولة من الوقوع فيه، لكن ما هو أغرب أن الخزان كان مقسوماً إلى نصفين متساويين بجدار رقيق من الطوب من طرفه إلى طرفه. لم أعرف يوماً سبب هذا التقسيم كما لم أعرف لماذا ما فتئ هذا المنصف يغريني أن أمشي فوقه فأجتاز الخزان من منتصفه.
اليوم وبعد عدة أيام من التردد والخوف قررت أن أقوم بذلك، استيقظت باكراً قبل كل الأولاد في حارة بيت الخطيب حتى لا يراني أحد إذا فشلت، حين وصلت شعرت بالتردد مجدداً فقد كان عمق الخزان يزيد عن خمسة أمتار وهو فارغ تماماً، أي أن السقوط سيكون على الإسمنت مباشرة، لذا فالمغامرة ليست محمودة العواقب على الإطلاق، لكني وبعد شيء من التردد تذكرت شيئاً هاماً جداً، كنت في الأمس قد أقسمت في نفسي إني سأفعلها صباح اليوم، كان هذا سلاحي الأكثر فعالية لقهر ذاتي ففي تلك الأيام كان الله يعني لي شيئاً.
لذا وجدت أن لا مفر من فعل ما يتوجب علي فعله، وضعت قدمي على الحاجز الإسمنتي وأخذت خطوتي الأولى، ذعرت ذعراً شديداً حين أيقنت أن سماكة الحاجز تكاد لا تتجاوز سماكة قدمي الصغيرة، حاولت أن أتمالك نفسي وأتابع فلا مجال للتراجع بعد الآن، خطوة أخرى، تسمرت عيني في قاع الخزان، فكرت حينها كم كان غبياً ذاك الذي ما فتئ يردد "لا تنظر إلى الأسفل وسيكون كل شيء على ما يرام"، من المستحيل ألا تنظر إلى الأسفل وكلما نظرت زادت الأمور سوءاً، سرت قشعريرة شديدة البرودة في أطرافي، وسرت مرة أخرى وأخرى.. و أحسست بشيء ما يسحبني نحو القاع بسرعة شديدة، انتظرت أن يرتطم رأسي بالأرض الاسمنتية، لأكتشف بعد لحظات أني اجتزت الحاجز وأصبحت على الطرف الآخر، كانت قدماي تقوداني دونما إدراك، بعد ثوان تبدد الذعر وحل مكانه كل ما في الدنيا من سعادة.
لقد أصبحت منذ هذه اللحظة بطلاً حقيقياً، على مستوى الضيعة، بل على مستوى الكرة الأرضية، من الوارد أن لا يكون أندربوف قد سمع بي لأنه كان مريضاً بقصور الكلى وحزيناً أيضاً، لأنه أعطى أمراً خاطئاً بإسقاط طائرة مدنية بدلاً من طائرة تجسس مزعومة، و ريغان أيضاً لم يسمع بإنجازي العظيم لأنه كان مشغولاً بتسريح شعره مستخدماً زيت جوز الهند مستذكراً صباه حين كان ممثلاً من الدرجة الرابعة، قبل أن يخرج على الأمة ليشتم امبراطورية الشر ويستفزها إلى الحد الذي جعل أندربوف يبقي إصبعه قريبةً جداً من الزر الأحمر، ومن المؤكد أن السيد توباز لم يكن ليعرف شيئاً وهو داخل أروقة النيتو يكشف أخطر أسراره ويرسلها مشفرة إلى الجيش الأحمر.
لم أدرك شيئاً من كل ذلك، كل ما خطر لي في تلك اللحظة أن أركض إلى أمي و أخبرها ببطولتي، لكن و في تلك السن كنت قد راكمت بعضاً من خبرة الحياة جعلتني أدرك أن هذا النوع من البطولات سيكون جزاؤه عند أمي صفعة مدوخة.
وهكذا في الوقت الذي كانت تتنازع العالم صراعات تكاد تودي به، و كانت الأرض برمتها تمشي مجبرة على شفير أرق من الذي كنت عليه، كنت الأكثر حكمة حين اكتشفت أن ذلك المبتبجح الذي يقول ((لا تنظر إلى الأسفل)) ليس إلا أخصائياً في المشي على الحبل في سيرك من أحد دول المعسكر الاشتراكي
| |
|