في أوائل نوفمبر الماضي )2011 (، بثت مجموعة قراصنة على شبكة
الإنترنت، معروفة بـ (أنونيموس) أو ( المجهولين/Anonymous)،
فيديوهات على موقع يوتيوب ومواقع الاتصال الاجتماعي، كشفت فيها عن
"عملية" إسقاط المواقع التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر.
ووفقا لمقاطع الفيديو، فإن الدوافع الأساسية وراء هذه الفعلة هي ما وصف
بالتهديد الذي تشكله الجماعة على الثورة المصرية التي ضحى من أجلها
المصريون بأرواحهم، وكذلك على مصالح دول أخرى كالولايات المتحدة. كما
كشفت تلك الخطوة أيضا عما تقوم به الجماعة من أجل الوصول إلى السلطة في
أرجاء الوطن العربي، فضلا عن أساليبها ونظم عملها التي تشبه إلى حد كبير
أساليب العمل السرية للماسونية وكنيسة السينتولوجي (Scientology).
وقد شدد الفيديو في النهاية على أن هذا الهجوم ليس ضد الاسلام، إذ إن
كثيرا من أولئك القراصنة "المجهولين" مسلمون، ولكنه هجوم ضد أفعال
الجماعة التي تنافي روح الدين الإسلامي - من وجهة نظرهم - وتقوم على
الفساد الذي تحاربه "أنونيموس" بضراوة. وقد حددوا الثامنة مساء يوم
الحادي عشر من نوفمبر ميعادا للهجوم.
وبالفعل، بدأ هجوم شديد على عدة مواقع تابعة للجماعة في الوقت المحدد، أدي
إلي إسقاط موقع "إخوان أون لاين" لمدة تزيد على ثلاث ساعات. وفي يوم
الثاني عشر من نوفمبر، صدر فيديو آخر منسوب للمجموعة ذاتها
"أنونيموس"، تعلن فيه امتداد الهجمات على مواقع الإخوان المسلمين إلي
يوم الثامن عشر من نوفمبر، وهو الوقت نفسه الذي أعلن فيه بعض مهندسي
ومبرمجي الشركات المسئولة عن هذه المواقع عن نجاحهم في إبقاء بعض المواقع
قيد التشغيل، في حين سقطت أخرى.وأكد بيان لجماعة الإخوان المسلمين إن
إدارة موقع "إخوان أون لاين" تبحث الوسائل القانونية لملاحقة هذه
المجموعة قضائيا، كما تدرس الأساليب الفنية التي تحول دون تكرار مثل هذه
الهجمات الإلكترونية.
قد لا يكون الكثيرون على دراية بالمعني الحرفي لكلمة "أنونيموس"
ولا حتي بجماعة القرصنة الإلكترونية التي تشير إليها الكلمة. إلا أن
الأنباء عن تهديد "المجهولين" بالهجوم وإسقاط الموقع قد ترددت، ولو
بشكل بسيط، في وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومواقع إخبارية مصرية وعالمية،
وتداولها الكثير من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي. وهذه ليست المرة
الأولى التي يرد فيها اسم هؤلاء القراصنة في وسائل الإعلام، فأحيانا ما
يحوذون على اهتمام كبير، نتيجة لأعمالهم المثيرة للجدل، خاصة في وسائل
الاعلام الأوروبية والأمريكية.
والحقيقة أيضا أن هذه ليست المرة الأولى التي تكون فيها مصر على
قائمة أعمال هؤلاء الـ "هاكرز"، فقد سبق أن قاموا بعدة عمليات ضد
مواقع وصفحات الهيئات الحكومية والوزارات المصرية في أثناء ثورة 25 من
يناير، ردا على قمع قوات الأمن للمتظاهرين، وانتقاما لقطع الإنترنت
والاتصالات عن المصريين، وهو ما أطلق عليه اسم (Operation Egypt) أو
"العملية مصر"، والتي تعاونوا فيها مع مجموعة "تيليكوميكس"
لتوفير طرق غير تقليدية تمكن المصريين من الاتصال بالإنترنت بعد قطع
الخدمة عنهم.
ورغم هذا الاحتكاك بين الإعلام وهؤلاء القراصنة، تظل "أنونيموس" حقا
مجهولة، وتبقي المعلومات عنها سطحية وغير موثقة. فالقليل جدا، ليس فقط
في مصر، من يعرف ماهية هذه المجموعة أو تركيبها، أو كيفية عملها أو
تاريخها. ومن النادر أن توجد عنها دراسات أكاديمية أو تحليلات متعمقة.
لذا، ربما يكون من المفيد تقديم بعض المعلومات عن هذه الجماعة
الإلكترونية بشكل يزيل قليلا من الغموض المحيط بها، وذلك من خلال بحث
وتحليل لأدبيات ومصادر غير تقليدية، كالمدونات والتعليقات ومقاطع
الفيديو التي قام بها نشطاء "أنونيموس"، وإجابات تم تقديمها من قبل
بعضهم من خلال شبكات الدردشة المعروفة بالـ (IRC)، وشبكات التواصل
الاجتماعي، خاصة تويتر وفيسبوك. ويأتي ذلك كله في إطار محاولة للإجابة
على سؤال أساسي، هو: هل "أنونيموس" هي الشكل المعاصر للحركات
الاجتماعية الاحتجاجية في القرن الـ 21؟.
في الواقع، غالبا ما تكون نتيجة البحث عن "المجهولين" في الصحافة
أو على الإنترنت انطباعا عاما بأنها منظمة ما مكونة من مجموعة من عباقرة
الحاسوب ومحترفي القرصنة الذين يضعون دائما قناع "جاي فوكس)1"(،
والذين يقومون بعمليات اختراق، غالبا ما يضفون عليها طابعا أخلاقيا أو
بطوليا، أو في سبيل الدفاع عن مبادئ معينة كحرية الرأي والتعبير
والديموقراطية وغيرها، ومرددين شعارهم المكون من خمس جمل قصيرة يختمون بها
كل بياناتهم المكتوبة أو المصورة: "نحن المجهولون، نحن فيلق، لا نسامح،
لا ننسي، توقعنا)، 2" ( ولكن الواقع قد يكون أكثر عمقا، فهذه المجموعة
ومثيلاتها)3(، أسهمت في إلقاء الضوء على ظاهرة الـ
(Hacktivism))4(، طارحين نموذجا لحركات احتجاجية معاصرة تأخذ من
عالم الإنترنت ساحة لأفعالها.
الفكرة الأم: تنبع فكرة "أنونيموس" من منطق منتديات الصورالتي ظهرت أصلا في
اليابان، ثم أصبحت معروفة للعالم كله من خلال منتدي فورتشان (4Chan)
الذي طبق المبدأ نفسه، ولكن بشكل أوسع وباللغة الإنجليزية. فكرة هذه
المنتديات ببساطة هي أن أي شخص يستطيع أن ينشر أي صورة دون الالتزام بأي
قواعد أو أية موضوعات، وكل ناشر يتم تعريفه بكلمة (Anonymous) أي
مجهول، وعلى أي حال، فلا شخص يقيم أو ينتقي أو يملك أيا مما نشر، بل هو
ملكية لجميع المستخدمين.
يعرف "المجهولون" "أنونيموس" كفكرة بسيطة بلا أصل وجدت دائما
ولا تموت أبدا، وقابلة للتطبيق في أي مكان وأي زمان، ومن قبل أي شخص، وذلك
عن طريق إخفاء الفرد لهويته الحقيقية، وتحمل مسئولية العمل من أجل أي قضية
تنفع البشرية. وعلى هذا الأساس، فإن لكل شخص الحق والفرصة في أن يدعو
لفعل أو نشاط ما من أجل نصرة قضية ما، ويخضع ذلك لأبسط قواعد الديمقراطية
بين "مواطني الإنترنت". فإذا استجابت أغلبية المواطنين وتحركت، فإن
ذلك يعني نجاح النشاط المدعو إليه، وإن لم يستجيبوا أو وضعوا الدعوة قيد
المساءلة، فإن ذلك يشير إلى فشل أو ضعف الفعل المدعو إليه، وهو ما يجعل
منها، بالنسبة لهم، أول ديمقراطية حقيقية.
وبالتالي، فـ" أنونيموس" هي حصيلة فعل المواطنين، وفعل نابع من
الجميع ومن أجل الجميع. وانطلاقا من هذا، فليس لأي فرد أن يدعي أنه
"المجهول"، وكذلك ليس لأي كيان أو منظمة أن تدعي أنها "أنونيموس"،
لأن هذه الأخيرة لا توجد على أرض الواقع، فهي فكرة ليس لها أي ملامح
مادية. ويذهب بعضهم إلى شرح أن إخفاء الهوية يجعل من الجميع متساوين
وأحرارا دون قيود، وبالتالي يقوم في العالم الافتراضي بما لا يقوم به في
العالم الحقيقي الذي تقيده القوانين والنظم.
لكن هذا التركز في العالم الافتراضي لم يبق طويلا، وذلك لعدة أسباب.
أولا، لأن التقدم التكنولوجي وتوغل نظم الشبكات المعلوماتية في إدارة
مختلف المؤسسات، والاعتماد العالمي على الإنترنت، وكذلك تطور تطبيقات
الحكومة الإلكترونية، كل ذلك جعل كثيرا من معالم هذا الفضاء الافتراضي
مرتبطة بشدة بمؤسسات وكيانات موجودة في العالم الحقيقي، بل وتمثل انعكاسا
لها. وقد أدي ذلك بالضرورة إلى تطور التشريع وشموله هذا العالم بقواعد
وقوانين تجعل ممن يخالفها مجرما مذنبا في أعين القانون والمؤسسات
القضائية.
وبالتالي، فمهاجمة موقع إنترنت المخابرات المركزية الأمريكية، أو
محاولة اختراق قاعدة بيانات المباحث الفيدرالية، لا تقل في أهميتها
وخطورتها كثيرا عن مهاجمة مباني هذه الهيئات في الحقيقة، وتعود تبعاتها
بثمن غال على أصحابه. أما السبب الثاني، فهو أن "المجهولين"
أنفسهم قد بدأوا مع الوقت في نقل نشاطهم وأفعالهم من عالم الإنترنت إلي
العالم الحقيقي. ربما يكون ذلك رد فعل على القيود التي تظهر تباعا،
وتقنن النشاط على الإنترنت، أو ربما هو أيضا تطور طبيعي لحركة
"صبيانية" راحت تنضج واكتسبت زخما كبيرا في الأعوام القليلة
الماضية.وفي هذا الصدد، يمكن تتبع التطور الذي شهدته هذه الحركة، من خلال
إلقاء الضوء على الطفرة النوعية في أفعالها و"عملياتها"، خلال الأعوام
القليلة الماضية.
النشأة والتطور: ارتبط ظهور "أنونيموس" في البداية بظاهرة "التصيد" أو ما يعرف
بالـ (Trolling)، وهي عبارة عن القيام بمقالب من أجل إثارة الضحك على
الآخرين (تعرف هذه الأفعال بالـ (Lulz)، ككشف بيانات شديدة الخصوصية
وفاضحة عن شخص ما في منتدي عام، أو سرقة رقم الكروت البنكية لشخص وشراء
أغراض كثيرة باسمه وإرسالها إلى منزله، وغيرها من المقالب الطفولية.
وأحيانا ما تكون حملات جماعية من أجل المزاح واختلاق النكات على
المنتديات وغرف الدردشة التي يشاركون بها.
في عام 2008، قاموا بأشهر حملاتهم ضد كنيسة السينتولوجي) 5(
في الولايات المتحدة، وادعوا أنها انتقام لما سموه الرقابة وقمع حرية
التعبير الذي يمارسه كهنة هذه الكنيسة على أعضائها السابقين، ومنعهم من
الحديث عن طقوس هذا الدين، فضلا عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وقد قاموا
بعدة حملات لسرقة بيانات أعضاء الكنيسة وكشفها وتسريب فيديوهات لطقوس
سرية، والهجوم على خطوط تليفونها، وكذلك إغراقها بالتهديدات والأفعال
التخريبية. ومع ظهور الضرر الذي سببوه إلى كنيسة تحت أضواء الإعلام،
وجهت لهم انتقادات كثيرة، واحتدمت النقاشات بينهم على شبكات الدردشة
الخاصة، وعبر رسائل فيديو مصورة عن جدوي الاستمرار في هذا الهجوم، إلى أن
قام أحد أبرز الناشطين ضد الكنيسة - يدعي "مارك بنكر"- بتوجيه رسالة
فيديو مفتوحة إلى "المجهولين" على موقع "يوتيوب"، ودعاهم إلى الكف
عن الأعمال الطفولية، والقيام بحملة أكثر جدية، وذات بعد سياسي وقانوني
شرعي. حينها، بدأت الحملة تأخذ منحي آخر، ألا وهو تنظيم وقفات احتجاجية
أمام كنائسها، وتنظيم مسيرات استقطبت بدورها ناشطين في مجالات حقوق
الإنسان والحريات والرقابة.
كانت هذه المسيرات هي بداية إضفاء طابع سياسي على أهداف هذه المجموعة،
وهو ما نما بشكل كبير في حملاتهم التالية. كانت ثاني أشهر هذه الحملات
"عملية الثأر" المعروفة، التي جاءت في البداية انتقاما من محاولات
إغلاق موقع المحتويات المقرصنة المعروف ”Pirate Bay" من قبل جمعية
الصور المتحركة الأمريكية. ثم سرعان ما تحول اهتمام القائمين عليها إلى
موضوع آخر، هو وثائق ويكيليكس المسربة، التي تزامن نشرها في الوقت نفسه في
أواخر 2010 .
ولكن تغير الهدف هذه المرة، فقد انصب جام غضبهم على شركات "
"PayPal و""Amazon و" MasterCard" التي حرموا ويكيليكس من
خدماتها وحجبوا عنها التبرعات المحولة إليها دون أي سبب قانوني. كان
لافتا للكثير مقدرتهم على تعطيل مواقع هذه الشركات العملاقة، وبالتالي
خدماتها الإلكترونية، لبضعة أيام، وهو ما أثار ضجة إعلامية، ولفت أنظارا
كثيرة لهذه الظاهرة "السيبرانية" الجديدة.
لقد كان عام 2011 منذ أول أيامه عاما مهما للحركات الاحتجاجية في
العالم العربي على وجه الخصوص، وهو ما انعكس على هذه الحركة الاحتجاجية
الإلكترونية. منذ احتماء الاحتجاجات في تونس، بدأت تنتشر فيديوهات على
الإنترنت تحمل توقيع أنونيموس تحت اسم "العملية تونس"، وهي عملية
انتقامية من السلطات التونسية لما مارسته من عنف ضد المتظاهرين وحملات
اعتقال للمدونين، إذ تم تعطيل مواقعها الحساسة، ولاسيما مواقع وزارات
الدفاع والداخلية والخارجية.
وقد تكررت هذه الأفعال بالنمط نفسه الذي يبدأ غالبا برسالة دعم
للشعب، ثم تهديد ووعيد للحكومة، بالنسبة لمصر، وليبيا، وتركيا،
وإسبانيا،واليونان، وإيطاليا، والبرتغال، ودول شرق أوروبا، وزيمبابوي،
والصين، وروسيا، وإيران، وسوريا، وغيرها، كدعم للحركات الاحتجاجية التي
حدثت هناك، أو مؤازرة لحركات المطالبة بالديمقراطية ومناهضة الفساد. وهو
ما حدث كذلك في الولايات المتحدة لدعم حركة "احتلوا" (Occupy)، ولكن
بشكل مختلف. إذ قامت المدونات والصفحات الإخبارية التابعة والمتعاطفة
مع "أنونيموس" على الفيسبوك بمتابعة ميدانية أكثر منها حشدا أو فعلا
إلكترونيا. وذهب الأمر إلى شن هجوم إلكتروني شديد على شبكة "فوكس
نيوز" المعروفة بميولها اليمينية المحافظة.
ليس واضحا إن كان للـ "مجهولين" دور محوري في التحضير لـ
"احتلوا وول ستريت" وغيرها من الحركات الاحتجاجية في أرجاء الولايات
المتحدة وكندا وأوروبا، ولكن من الثابت أنهم أسهموا في إلقاء الضوء عليها
عن طريق شبكات الإعلام البديل، في ظل تعتيم الإعلام التقليدي الذي تعمد
غض البصر عنها على الأقل في بدايتها.
ليست هذه هي العمليات الوحيدة، فكل يوم يمر تعلن فيه عملية، قد يكتسب
بعضها زخما وحضورا، وقد يموت بعضها الآخر. ولكن بعض هذه العمليات كان
فريدا من نوعه. وأشهر هذه العمليات هي "عملية الفيسبوك" التي هددت
بإسقاط أشهر شبكات التواصل الاجتماعي على الإطلاق يوم الخامس من نوفمبر
الماضي. أطلقت العملية في أغسطس من أجل الانتقام من الشبكة التي، وفقا
لهم، تتعدي على خصوصية الأفراد، وتبيع معلومات عن نشطاء لشركات أمنية خاصة
تعاقدت مع النظام المصري القديم، ومتعاقدة مع النظام السوري الحالي، مما
آل بهؤلاء النشطاء إلى المعتقلات.
ولكن هذه العملية لم تحذ على موافقة الكثير، ولاقت معارضة بين
"المجهولين" أنفسهم، تمثلت في بيانات ورسائل فيديو ترد على الداعين
للعملية، وتوضح عواقبها. وقد تم إلغاؤها قبلها بعدة ساعات لعدة أسباب
معلنة، منها التأثير السلبي الذي قد يؤديه غياب الفيسبوك في الحركات
الاحتجاجية، وفي كشف انتهاكات حقوق الانسان التي تقوم بها الأنظمة
القمعية. ووفقا لأحد "المجهولين" بارزي النشاط، فإن هناك من كشف عن
علاقة ما بين أول من دعا إلى هذه العملية، وتسويق "جوجل بلس"، شبكة
التواصل الاجتماعي الجديدة التي تحاول أن تروجها شركة "جوجل" وتنافس
بها "فيسبوك" المتصدر" عالميا، ولذا فهي عملية تشوبها الأهداف
التجارية الخفية. وهو ما يوضح سهولة اختراق هذا المجتمع، نظرا لعدم
الإفصاح عن الهويات.
من العمليات الفريدة كذلك "عملية كارتيل" التي شنها عدة نشطاء ضد
عصابة المخدرات المكسيكية الشهيرة "لوس زيتاس". وكانت العملية تهدف
إلى الكشف عن أسماء وبيانات الأشخاص المنتمين للعصابة بشكل علني علي
الإنترنت، وكذلك فضح المتعاونين معهم من أجهزة الأمن والقضاء، لتسهيل
تتبعهم قانونيا ومقاضاتهم، ولكنها جاءت في إطار الانتقام من خطف أحد
"المجهولين"، وهو يوزع أوراقا في الشارع. كان رد الفعل عنيفا من قبل
العصابة التي أجمع الخبراء على أنها ستضاعف جرعات العنف بشكل عشوائي تجاه
نشطاء الإنترنت، حتي وإن لم تكن لهم علاقة بالعملية.
وقد تفاوتت الآراء حول مدي فاعلية الخوض في هذا الطريق، وتضاربت
الرسائل حول مصير هذه العملية بين من ادعي أنها ألغيت، ومن ادعي أنها لا
تزال كائنة. ويضاف إلى هذه العملية أخرى أكسبت "المجهولين" سمعة
جيدة، وهي تسريب أسماء رواد وقادة شبكات تعمل في مجال إباحية وعري
الأطفال، وأخرى كشفت عن قدرات بعضهم التقنية المرتفعة جدا، إذ تمكنوا من
تسريب رسائل شخصية لمستشار خاص للمباحث الفيدرالية الأمريكية لشئون الأمن
الإلكتروني من شركة" HB Gary "التي كانت تسعي إلى تحديد هويات بعض
"المجهولين". وأخيرا، تم الإعلان أخيرا عن عملية جديدة، هي "عملية
روبين هود"، التي يشاع عنها حتي الآن أنها ستطبق مبدأ السرقة من البنوك
وتمنح الفقراء. وتثير المعلومات الأولية عن هذه العملية جدلا أخلاقيا
وتقنيا كبيرا، ولا تزال حتي الآن مشروعا قيد النقاش والتطوير.
سمات وخصائص "المجهولين": يمكن مما سبق استخلاص عدة خصائص لهذه المجموعة. أولاها: أنها كيان
عابر للقارات. فعلى الرغم من أنها تكونت بشكل أساسي في الولايات المتحدة
وبريطانيا، فإنها لم تنحسر بهما. حيث إن ظروف ومكان ظهورها - الشبكة
الدولية للمعلومات - جعلاها فكرة قابلة للتطبيق ومنتشرة في كل الأقطار
المتصلة بالشبكة العنكبوتية. إذ يكفي أن يبحث الشخص عن كلمة "
Anonymous " على موقع الفيسبوك حتي يكتشف الكثير من الصفحات التي
ترتبط فيها هذه الكلمة باسم بلد، كأنونيموس فرنسا، وانجلترا، وهندوراس،
والبرازيل، والتبت، ومصر (التي يوجد بها نحو أربع صفحات ناشطة)
وغيرها.
وحقيقة الأمر أن لكل منها أولوياتها الخاصة. فعلى سبيل المثال، قامت
مجموعة من "المجهولين المصريين" بتنفيذ "العملية نتنياهو" بالهجوم
على موقع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، انتقاما لمقتل جنود
مصريين على الحدود، وتم بالفعل تعطيل الموقع، بالإضافة إلى مواقع
إسرائيلية أخرى، وهو ما ليس بالضرورة أن يشارك فيه "مجهولون" من دول
غير عربية، كما هو الحال في "عملية الإخوان المسلمين" التي ليس
بالضرورة أن تنال دعم كل "مجهولي" مصر.
أما ثانية هذه الخصائص، فهي أنها لا تتكون حصريا من مجموعة من محترفي
القرصنة، أو ما يعرف بـ "الهاكرز"، ولكنها تضم في صفوفها مجموعات
لديها مهارات الكتابة، وأخرى قادرة على صناعة مقاطع الفيديو، وأخرى ناشطة
في الشارع، وأخرى قد لا تكون لديها أي من هذه المهارات، ولكنها تساعد في
نشر المعلومات والرسائل واستنساخها، خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي.
هذه التركيبة تشير إلى طبيعة "أنونيموس" غير المتجانسة معرفيا،
فضلا عن كونها ثقافيا، وهو ما يجعلها غنية بالأفكار والمبادرات، ولكن
كثيرا ما تكون في الوقت نفسه متناقضة المعايير والاتجاهات. ولكن ينبغي
توضيح أنه رغم غياب القيادة، فإن العمليات الناجحة المؤثرة غالبا ما
تسلك منهجا معينا يبدأ بطرح الأفكار ومناقشتها في غرفتي الدردشة
الخاصتين بموقعي ”Anonet" و”Anonops" . وهو ما يقودنا إلى السمة
الثالثة. فقد أظهرت طبيعة عمليات "أنونيموس" أنها مجموعة لا مركزية
بكل معني الكلمة، وليس هناك زعماء أو قادة، ولكن هناك عناصر مؤثرة اكتسبت
تأثيرها بوجودها المكثف أو الثابت على غرف الدردشة السالف ذكرها، فضلا
عن قدرتها التقنية العالية التي تمكنها من القيام بعمليات قرصنة محترفة،
كتسريب المعلومات، وسرقة البيانات، والتي تعد أكثر تعقيدا من تعطيل أو
إسقاط موقع. من ضمن هؤلاء العناصر المؤثرة من تم القبض عليه، أو حققت معه
السلطات في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسبانيا، وهولندا، وتركيا،
وأشهرهم "كوماندر اكس"، و"توبياري" ذو الثمانية عشر ربيعا.
أما السمة الرابعة لهذا الكيان، فهي قدرته على الحشد، مستخدما أساليب
تعبئة شعبية كالموسيقي ومقاطع الفيديو، والرموز، والأعلام، والبيانات
المطبوعة، ورسوم الجرافيتي في الشوارع، وغيرها من أدوات إعلانية يطورها
المتحمسون للفكرة. بل والأكثر من ذلك تسهيل أدوات مشاركة غير
المحترفين في إسقاط المواقع عن طريق برامج سهلة التنزيل والاستخدام
كبرنامج " "LOIC الذي يمكن مستخدميه من إغراق الموقع الذي يختارونه
بطلبات إرسال. فمع زيادة عدد المهاجمين في اللحظة نفسها، يعجز الموقع
عن الاستجابة، ويتوقف مؤقتا عن العمل. وهو ما جعل من "المجهولين"،
أيا كانت إمكانياتهم التقنية، جيشا جرارا تعتمد هجماته على كثافة العدد،
ويكفيه أن يحدد ميعادا وموقعا كهدف محدد، كي يخرجه من الخدمة. وهو
غالبا ما يعود على المشاركين بإحساس بالنشوة والقوة، وبالتالي يحفزهم على
تكرار المشاركة في مثل هذه الهجمات.
خاتمة: في ضوء ما سبق، وإجابة على التساؤل المطروح: هل تمثل "أنونيموس"
شكل الحركات الاجتماعية في القرن الـ 21، يمكن القول إن الأسلوب الذي
اتبعه "المجهولون" غالبا ما جاء كرد فعل انتقامي على ظاهرة أو سلوك
ما، ولم يأت في شكل مبادرة بين أناس تجمعهم أيديولوجية واحدة، وهو ما يجعل
هذا الكيان بشكل خاص حركة احتجاجية بالدرجة الأولى تستخدم أساليب معاصرة
للاعتراض، ولكنها ليست بالضرورة شكلا جديدا للحركات الاجتماعية في
مجملها.
ويكمن أحد الفروق الأساسية بين الحركات الاجتماعية بصورتها التقليدية
و"أنونيموس"، في أن الأولى تنطلق من أيديولوجيا تنبثق منها أفعال معينة
وسلوكيات محددة، في حين أن الثانية تطورت بشكل عكسي، إذ بدأت بأفعال
صبيانية، ثم أخذت في التحول إلى نشاط هادف، حتي تبلورت حولها بعض الأفكار
التي لم ترق بعد إلى مستوي المنظومة الأيديولوجية. ومن الفروق الجوهرية
كذلك أن "أنونيموس" على عكس الحركات الاجتماعية التقليدية، ترفض أن
يكون لها ممثل يتحدث بالنيابة عن الجموع، ويقدم مطالبهم، بل هي تقوم بشكل
أساسي على فكرة عدم التمثيل وانعدام السلطة.
ولقد أدركت الأجهزة الأمنية العالمية أن الحرب القادمة هي حرب
إلكترونية، وهو ما دفعها إلى استخدام القرصنة كسلاح)6(، وأيضا استهداف
القراصنة كعملاء تعينهم)7(، أو كتهديد تطاردهم. ولكن هل أدركت أن
ظهور حركات هجينة تخلط النشاط السياسي بالقرصنة - في شكل نشاط إلكتروني
جماعي لا يتطلب أدني التزامات ولا حتي المعلومات الشخصية - هو تحول في
شكل الحركات الاحتجاجية الشعبية، وتطور لسلوك الاحتجاج المعاصر؟.
الإثنين مارس 19, 2012 12:06 pm من طرف Ayoodi