إدغار موران يتحدث عن كتابه الجديد "فلاسفتي"
لا نجد فكرة الخلاص في مسرح شكسبير لأنه من أصل يهودي!
الترجمة والتقديم : يقظان التقي
إدغار موران من كبار الفلاسفة والمفكرين في عصرنا ودائماً يطرح
أفكاراً سجالية مهمة وجديدة في مسائل تاريخية وسيوسيولوجية وفلسفية تترك
آثاراً مهمة، وهو اليوم يطلّ من علوّ على الساحة الفكرية والفلسفية
العالمية بمؤلفه الضخم "Mes Philosophes amoi" "فلاسفتي" والذي يعرض فيه
لأسماء الفلاسفة الذين تركوا أثراً في مسيرته والذين أثروا به وبالإنسانية.
مجلة "لوبوان" الفرنسية التقت إدغار موران وحاورته حول مؤلفه.
[لوبوان:
تبدأ كتابك عن فلاسفة أثروا بك أو ما نسميه "فلاسفتك" من الصدمة التي
تركها دوستويفسكي في مرحلة سنك اليافع أو مراهقتك. من خلال دوستويفسكي
بدأت يقظتك الفلسفية الأولى؟
- إدغار موران: أعطى رأيه وعبّر بشكل جيد
مثل رجل السخرية والألم والتراجيديا الإنسانية وعلى نحو مميز وفهم جيداً
أن الإنسان هو رجل المعرفة والحكمة، الحلم الذي تملأه بالأحلام. كما أن
لديه ذلك الحس بالتضاد الجدلي والتناقض الذي يذكر بالشك عند باسكال. يوجد
لدى دوستويفسكي كما لدى أشخاصه ستافرغوين الى كارامازون التضاد نفسه
والتمزق الداخلي نفسه. وعلى نحو ما تردد مما هو في عالم باسكال، ذلك
الصراع بين اليقين والشك، بين الإيمان والقلق، الأمل والخيبة. ولدى
دوستويفسكي ذلك العالم السحيق من البؤس والعدم الإنساني والتراجيديا
السوداء. كتب في رواية "الأبله" "lidiot": "الرأفة هي الشريعة الأساسية،
الشريعة الوحيدة في الوجود الإنساني".
باسكال
[البطل الكبير بين فلاسفتك والذي تضعه في المرتبة العليا بين الآخرين هو باسكال، لماذا كل هذا الإعجاب؟
-
لأني وجدت لديه ذلك الجنّ الشيطاني "السقراطي" الإيمان والشك، العقل
والسحر والخرافة، ولأني أحب على العموم الفلاسفة الجدليين والذين يشتغلون
على جدلية التضاد. هيراقليطس ليبدأ استخدم تلك القاعدة التي أثرت بالعمق
مثل "الايقاط نائمون" أو "من دون الأمل لا يمكن التعرف الى اللاأمل" أو
"أن نعيش الموت، أن نموت الحياة" باسكال في المسار نفسه. هو رجل علمي
عقلاني وفي الوقت نفسه رجل دين ساحر. بالنسبة له الإيمان والشك، الدين
والعقل عناصر تتصارع وتعيش الواحدة في الأخرى.
في ليلة في 23 تشرين
الثاني 1654 عاش باسكال ليلة قدرية مثيرة ترجمها بكتابته الشهيرة: الفرح،
الفرح، الفرح، دموع الفرح، بكاء الفرح". هو رجل مسيحي متحمّس ومع ذلك كان
مسكوناً بعالم الشك واللايقين والأسئلة الوجودية الدائمة. أنا مثله رجل
عقلاني وصوفي ولكن على نحو مغاير. أنا رجل أعبد الحب ومثلما قال رايمون
بانيكار: "بالنسبة لي هي معرفة وحكمة الحب ووعي الحب أكثر من حب المعرفة
أو الحكمة". أنا أؤمن بشاعرية الحياة وأشعر بها إيمانياً أو دينياً من
ناحية عنصر العلاقة والترابط بين الأخوة والمساواة والمشاركة في وحدة
الشعور في الاستماع الى الموسيقى أو مشاهدة منظر طبيعي.
[تذهب الى مؤلفك للمطالبة برأي باسكال هو دائماً بمغامرة لماعة ومشعة؟
-
نعم لأنه رجل مختبر ومجرب مع كل البساطة والسببية الواضحة في تلك الجملة
السحرية والمحددة. كل الأشياء تخضع لمبدأ السببية وهي أشياء مسببة بدورها،
عوامل مساعدة ومساعدة في آن، أشياء مباشرة وغير مباشرة(...). لا تستطيع
معرفة الكل من دون معرفة الأجزاء. النظر الى دوائر الدائرة يتم من خلال
مركز الدائرة، وكل الدوائر الأخرى هي نتاج حركة هذا المركز، أي الجزء هو
الذي يحرك الكل، والكل يتماهى مع الجزء. أنا تأثرت بهذا الفكر لأبدأ عملي
على كتاب "الطريقة". من خلال هذا المفهوم للكائن الإنساني باعتباره نسيجاً
في جدلية التضادات من نوع: "المجد والسقوط الإنساني"، أو "الرفعة والحثالة
الإنسانية". أبعد من ذلك، ذلك الإحساس البنيوي غير المعقول.. باسكال وضع
الكائن الإنساني بين نهائيتين على نحو ما أكدته أبحاث الفيزياء المجهرية
وأبحاث علم الفيزياء الفلكي في القرن العشرين.
عندما أقرأ بالمصادفة كتاب "الأفكار" لباسكال أعثر على قواعد عليا رفيعة وسامية وقواعد خلقية وفكرية.
[على العموم، باسكال ساعدك على الحياة؟
-
تحديداً بسبب رهان باسكال على وجود الله ووعيه أن وجود الله لا يقوم على
براهين علمية أو منطقية أو على معجزات. الله عند باسكال لا يحتاج وجوده
الى برهان. كما الحقيقة لا تحتاج الى برهان. باسكال يعمق إيمانه على رهان
آخر. أنا أيضاً أجمع نظريتي على برهان. ليس فقط على الله، ولكن على تلك
القرارات التي أستطيع أن أتخذها في الحياة، في العاطفة والحب، في السياسة،
كما في كل أعمالي.
ديكارت
[لدى قراءة كتابك، يتولد الشعور بأن
الفلاسفة الآخرين أقل شأناً بالملاحظة قياساً بباسكال. كنتم متزمتين بعض
الشيء بالنسبة لديكارت مثالاً؟
- ديكارت هو فيلسوف كبير، ولكن طريقته
مغرقة في الهندسة التحليلية أكثر. إنه يجزأ إشكالياته الى قطع صغيرة
ويعالجها على نحو جزئي. أي عكس طريقة باسكال تماماً، أي التفكير المنهجي
العقلاني أكثر. وهذا برأيي سبب لخروج الفلسفة الديكارتية كنسيج متماسك
الخيوط.
وسبينوزا؟
[ننتقل بعض الشيء الى السبينوزية؟
- هو فيلسوف ما فوق
المعاصر أو ما فوق الحداثي والذي تقرأه كما لو أنك لا تقرأ كتابك في
الفلسفة، وأنها الحياة مكتوبة بلغتين، لغة المفاهيم الفلسفية ومنها وجود
الله، ولغة الرموز الأدبية أو التجليات في الطبيعة البسيطة التي تعزز
وجاهة الأفكار، وكل شيء عند سبينوزا تصاحبه فكرة عن علته حتى فكرة الله
تصاحبها الطبيعة كفكرة عن علته، وحتى الحب فرح تصاحبه فكرة عن علته، إنها
الحياة المعيشة هنا وهناك، فعلياً، وحقيقة، بتعبير آخر إنها حياتنا
الحقيقية، وغالباً ما نكون مفصولين عنها نتيجة تصوراتنا الفلسفية وجراء
آمالنا وأحلامنا وإحباطاتنا ومخاوفنا، وهذا ينبغي التخلص منه وتبديده كله.
فالحكمة ليست حياة أخرى لنلوذ بها.
وفق سبينوزا هذا يدلنا على الوجهة
الصحيحة، وإن كان يدل على شيء فهو يدل على الكف عن الحياة، بمعنى تحرير
أفضل لكل ما تنطوي عليه من طاقة أي أن نرغب أقل ما يمكن في ما ينقصنا
وأكثر ما يمكن في ما هو موجود(...) أحب في سبينوزا كراهيته للغضب والحقد
ورفضه التعصب لرأي أو عقيدة، يوجد في كتابه "Lethique" جمل رائعة عن الحب
من مثل أن الحب أو "فكرة الحب تتعلق بالأمر الذي يسمح لنا أن نتعلم
ونتحرر"، أو كما يقول سبينوزا: "ان نكون أقل ارتباطاً بالأمل والخوف..
وهذا ما لم يستطع أحد بلوغه بطبيعة الحال ولذلك لا أحد يحوز كلياً صفة
الحكيم. باختصار يقول سبينوزا يجب أن نحيا بدلاً من أن نأمل أن نحيا(..)
لكن يجب أن اعترف بأن البناء الهندسي لكتابه الضخم "Accroissement de
mois-memes" يضجرني بعض الشيء.
[ولكنك تضع سبينوزا بين من تعتبرهم ما بعد المارانيزم "Post-marranisme" وفي أساس الفكرة المعاصرة؟
-
دعني اشرح أهم ما كشف عنه باسكال وبشكل رائع هو أن الحقيقة بدون محبة ليست
هي الله ـ المسألة هي أن نعرف ما إذا كانت الحقيقة في تساوق تام مع المحبة
كما يقول الدين أو بتعبير آخر أن نعرف ما إذا كانت الحقيقة تحبنا أو ما
إذا كان علينا أن نحبها بغض النظر عن حبها لنا، أي أن نحبها حباً مجانياً
يكاد يخلو من كل مصلحة، حباً خالصاً وفريداً. المسألة عند ديكارت تصادف
معها الكثير من الحقائق والكثير من المستحيل أو الشك بتعبير ديكارت. هذه
الاستحالة أعرف أنها بلا معنى وليس هناك من حقيقة علمية، هناك معارف علمية
هي دوماً نسبية وتقريبية وموقتة، أما مونتاني وهيوم فهما أوضح فلسفياً من
سبينوزا، ذلك أن الأخلاق المبرهن عليها على نحو هندسي ليست سوى خدعة.
سبينوزا يحيلنا على فلسفة اللاأمل على نحو ذهب اليه كل من ابيقور
والرواقيين وأيضاً البوذية القديمة، واليأس بمفهوم الحكمة لا حدود له،
والحكمة ليست ملكاً لأحد، مع التذكير بمفهوم اليأس هنا، اليأس الذي لا
ينبغي الموت بسببه، بالعكس ينبغي العيش بسببه وينبغي الحياة بسببه.
لا
ننسى أن سبينوزا من المسيحيين الذين يحتفظون باليهودية في أعماقهم أو هو
بتعبير آخر مسيحي ملحد، ما بعد الرواقيين وما بعد البوذية وما بعد
اليهودية المسيحية، وبالنسبة إليه الصدمة ما بين اليهودية والمسيحية أدت
الى هذا الفراق أو التفرقع بين الديانتين مثل الصدمة الفيزيائية بين
المادة واللامادة. اذاً، سبينوزا مهم لانه ينتمي أكثر الى المستقبليات
منها الى الأوهام والأديان، وكذا كل تلك الآمال التي تشعل فتيل الصدمات
والتفرقعات وعلى حد تعبير سبينوزا ليس ثمة من أمل دونما خوف ولا خوف دونما
أمل". وعلى منواله يمكن أن نقول ما من طمأنينة دونما يأس ولا يأس حقيقياً
وإنما شيء أو أشياء من الطمأنينة. ماذا يعني هذا، يعني هذا أن عالماً
جديداً مفتوح أمامه. نموذج آخر أكثر وضوحاً من سبينوزا هو مونتاني الذي
تجاوز الديانتين الكبيرتين وصار مفكراً حراً وتجاوز الدوغمائية اللاهوتية
والدينية المسيحية. مونتاني رفض فكرة إمتلاك الحقيقة المطلقة، ورفض حتى
فكرة أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون توصل الى امتلاك الحقيقة المطلقة.
مونتاني رفض فكرة هذا الوهم وزمن الأنظمة الفلسفية المتكاملة والمقلقة
التي تجيب عن كل شيء. انتهى هذا الزمن، فلا النظام الديكارتي والا الكانطي
ولا الهيغلي ولا الابيقوري يمثل الحقيقة المطلقة وإن اكتشف كل منها جانباً
مهماً من الحقيقة والواقع. هذا مذهب فلسفي تجاوزه الزمن، وبالتالي الفلسفة
ماتت بصيغتها القديمة التوتاليتارية، أو أنها حقيقة لم تمت بل انبعثت
معاصرة من جديد.
الفلسفة لا يمكنها أن تبلغ مدارك الحكمة إلا إذا محت
نفسها فالدرب هو درب الفكر، ولكن حين يؤدي بنا الى الحقيقة لا يعود ثمة من
درب، ولا حتى من فكر فالواقع يكفي، الحياة تكفي. دعني أقدم نموذجاً آخر
لمن يتقدمون بأفكارهم ما أمكن مثل ليفي شتراوس الذي تحدث عن همجية الفن
الأميركي، أيضاً مقالة نموذج آخر هو شكسبير في اتجاه أفكاره ما بعد المذهب
اليهودي وهو المتحدر من أصول اليهودية (سيفاراد) وأحدهم أعطاه الأسم
الانكليزي الذي هو عليه. ولهذا لا نجد الخلاص في كتاباته أو مرفأ الأمان،
والفكرة المهيمنة لديه في أن الحياة هي "التاريخ الذي يرويه الحمقى".
[في مؤلفك أيضاً تخصص فصلاً واحداً للسيد المسيح وآخر لبوذا، ماذا تحمل ذلك من ناحية الأفكار الفلسفية؟
-
لم تبنِ الأفكار القديمة على نظريات تجريدية، الحكمة النظرية والتأملية
احتوت على خيرة حقيقية محررة من الأنا تضعنا في حالة من الصفاء والامتلاء
حتى الصمت كأن نختزن الخلود أو تجربة الألم أو تجربة الغبطة. ولا تنسَ
الحكمة تقبل كل شيء في الحياة الى حد الاستسلام، بل تقبلها في تمردها
وثورتها، وهدفت جلياً كل من البوذية والمسيحية الى تغيير الذات والوجود
بحكمة متواضعة، ملموسة، مبنية على تطبيق جسدي وذهني يتمحور حول الأقدار
الذاتية، والرياضات الروحية ولو جمعنا دعوة سقراط "أعرف نفسك" الى "حد ما
أنت عليه" لينتشه و"السعي الى الرغبة" لسبينوزا و"السيطرة على الذات"
لبوذا وفكر "تحمل الألم والصفح" (السيد المسيح) يسعنا التوصل الى فلسفة
حياتية في توزن غريب بين الفكر والقلب والجسد. في هذا يتلاقى الرهبان
البوذيون والمحاربون والتائهون ويتحاذون مع المتصوفين المسيحيين والنسّاك
وبتحاور الرسالات هكذا نقرأ أقوال بوذا أو أقوال اغسطينوس أو أغناطيوس
دولويولا أو سقراط حين يقول "أعرف نفسك فتعرف الكون والآلهة"، أليس هذا
إله الدين المسيحي الساكن في قلب الإنسان.
عند بوذا فكرة الديمومة أو
الأبدية مع هيراقليطس (القرن الخامس قبل الميلاد) وبأننا نعيش في عالم
نتطور فيه، في عالم ظاهر (ما يبدو من الشيء في مقابل ما هو عليه في ذاته)
وبأننا نتعلم في عالم العدم والظل الذي نحن فيه على نحو الاحتمال أو الأثر
الذي ننتظره(...) ولكن الرسالة الأساس هي الرحمة إزاء كل الآلام. لهذا
اعتبر المسيحية هي نيوبوذية(...)
[ونيو مسيحية أيضاً؟
- أنا مثل النحلة أقطف من كل الأزهار (يضحك) أصنع "عسلي" من كل الأزهار، من رحيق كل الأزهار.
السيد المسيح خرج من رحم اليهودية وحمل الى الإنسانية معنى الصفح والغفران والتسامح.
الصفح في عينيه هو أبعد من العدالة وأكبر من العدالة.
قبل
السيد المسيح لم نتعرف على معنى الصفح الفردي لا عند اليهود ولا عند
الاغريق ولا عند الرومان. أنا مأخوذ جداً برسالة القديس بولس "من دون حياة
أنا لا أكون شيئاً". لأنه سبب هذا الصفح، وهذا الحب (ليس السلام العلوي أو
الإلهي الذي يأتي من القبة الزرقاء) مع هذا الحب أشعر جيداً بأنني نيو -
مسيحي.
نيو بوذي
[ أنت نيو - بوذي ونيو - مسيحي ونيو - ماركسي ألا يوجد تناقض ما؟
-
ماركسيتي كانت دائمة مفتوحة على المؤثرات والتحولات ولهذا كانت ماركسية
متأثرة وتعيش حريتها بنفس الوقت، وهي معرض فكري واجتماعي مهم. ماركس نفسه
آمن بالتطور والتقدم. التقدم أكثر من التطور لأن التطور قد يكون في المكان
نفسه، أي التحول لكن في المكان نفسه أما التقدم فهو الانتقال من حال الى
حال. وهذا مرتبط بأشياء ومحددات في الاجتماع والواقع وبمدى عقلانية
التاريخ. مفهومي للعالم مادي ومن دون حدود جرى تجاوزه اليوم. ولكن عدداً
من الأفكار المفاتيح تبقى حية وقوية.
اعتقد الآن مثل جان دولاكروا بأن
المعرفة نفسها في جهالة جديدة وبأن الضوء يأتي من ذلك المصدر المظلم
والمعتم. هذا يستدعي منا أن نتخلص من كل ما يعيقنا ولا يفتأ يحول بيننا
والواقع وهذا ما تصلح له الفلسفة. الضوء هذا هو الذي يجذبنا ويحفزنا واعين
تارة ولا واعين طوراً. هذا الضوء قد يعمي بصرنا، فنتيه، أو يطربنا فنتقدم
ونحلق، وتنقذنا البصيرة ونلتقي بنواتنا الحقيقية فتصير الأشياء جيداً،
للأسف كلا المسيحية واليهودية اشتغلتا على التفكك والتدمير المتبادل.
[بين فلاسفتك، هناك مفاجأة مهمة، هي بيتهوفن؟
- لقد أطلق فكرة ثورية في قبوله العالم وحولها الى قاعدة عندما قال "أنا لا أنحني إلا أمام الطبيعة والحلم".
ونيتشه؟
[ في مؤلفك فجوة ما، تركت نيتشه جانباً.
- دائماً هناك
فجوات (يضحك) ولكن أعرف أن نيتشه شكل لحظة مهمة في الفلسفة بعد النهضة جرى
البحث بعمق عن الحقيقة سواء مع ديكارت أو كانط أو هيغل. نيتشه قلب الطاولة
بقوله إنه لا يوجد بالعمق تلك الحقيقة وهي التي لا ترى إلا بذاتها وتخلق
ديناميتها أكثر مما هي مجرد واقع. وحدها بذاتها بإمكانها أن تمثل ما يقدمه
لها الواقع، والتساؤل حينئذٍ حول حقيقة تمثلها وليست الحقيقة التي
يتناولها الفكر وحده(...)
[الفلسفة لم تقدم كثيراً منذ أيام أرسطو وافلاطون. هل لديكم الشعور أنها توقفت مع نيتشه؟
-
هذه ملاحظة غير صحيحة تماماً. أولاً يجب أن يمر وقت طويل حتى تُطرح
الأفكار الجديدة والموهوبة والمتميزة. بروست في مفكرته الأدبية قال ما
حرفيته إنه حين كان في الليسيه "عالم نفس جيد ولكن كتّاب كثر سيئين الذين
يحتفون في جمل غامضة ومعقدة". أيضاً لا أدري كيف يمكننا أن نمر ونعبر
اليوم من دون المرور بأفكار سبينوزا، باسكال أو هيغل وهم فلاسفة معاصرون.
ثم أمام الفلسفة مستقبل جيد جداً وجميل إذا لم تنطو على نفسها كأن تكون
قاعدة بدل أن تكون انعكاساً للعالم.
خلال القرون الماضية كانت العلوم
والفلسفة مخفية، الآن، اليوم، نشهد ذلك التقدم العلمي الهائل والذي يقود
الى ثورات من الأمثلة المعرفية والفلسفية. من أين أتينا؟ كيف ذلك البدائي
الأول انتصب على قدميه وصار الإنسان الذي نحن عليه؟، نحن نعيش دائماً في
قلب الأسرار ونحتاج دائماً الى الفلاسفة ليقوموا بتلك العملية وبذلك
الطواف الى جانب العلوم، والى جانب الحياة وعلى الحدود تماماً ما بين
الوصف الدقيق وبين ذلك الخفي، وما لا تبلغه معرفة الإنسان أو المجهول.