في ما خصّ المثقف الأبله
راسم المدهون |
| |
ظاهرة المثقف المنكفئ والمعزول والمكتفي بذاته ولذاته، تبدو اليوم في أشد حالاتها وضوحاً: شريحة من المثقفين الفلسطينيين لا تجد نفسها هنا أو هناك في البنى السياسية والمؤسساتية الموجودة. هي ترفض ما هو قائم وما ثبت عجزه على مدار العقود ولكنها في الوقت ذاته لا تمتلك لا الرؤية ولا الإرادة لاجتراح بديل حقيقي قادر على نقلها من حالة انكفائها الى أفق مختلف يعيد اليها دورها السابق أو بعضه على الأقل. تمكن رؤية صور لا تحصى من تلك الحالة على صفحات الفايسبوك بالذات. في موقع الفايسبوك، يمكن للمثقف أن يقول ما يجول بذهنه من دون أن يتسبب قوله برفض الصحف ووسائل الإعلام: هنا أيضاً يأخذ التعبير طلاقته الكاملة في ما يشبه مرآة بالغة الوضوح وتتسع لكل شيء، أي أننا نقرأ الهواجس والأحلام وحتى الأوهام كما لا يمكن أن تقع عليها أعيننا في أية مساحة إعلامية أياً يكن نوعها ووسيلة تعبيرها. هذا المثقف يرفض كل شيء ولكنه في الوقت ذاته يلعب دور «المرسل»، ولا يقبل ولا لمرَة واحدة أن يكون مستقبلاً لما يقوله الآخرون: كتبت مرّة تعليقاً سريعاً على «بوست» كتبه شاعر صديق على صفحته في الفايسبوك يخالف رأيه، فما كان منه إلا أن حذفه بسرعة البرق، فسارعت وكتبت له شكراً وكنت أتوهم أنني بذلك أوصل له عتبي على الحذف، فما كان منه سوى أن كتب عفواً، وكأنه يؤكد لي أنه على حق وأنني لا يحق لي أن أعترض على حذف تعليقي ناهيك بالطبع بأن أعترض على أفكاره! ظاهرة المثقف المكتفي بذاته ولذاته هذه تابعتها من وقت لآخر في مجالات وموضوعات الحياة كلها ووجدت أن سمتها الأبرز والأهم الانطلاق من الأفكار إلى الواقع، وليس العكس، في ما يشبه «كلاكيت» للمرة البليون للصراع بين المثالية والمادية في الماركسية الكلاسيكية. فالشيء موجود إذا اعتقدنا أنه موجود وهذا الاعتقاد يكفي للحديث عنه بل ووصفه من كافة جوانبه وصوره وأجزائه. اللافت في هذه الحالة أن صاحبها لا يشبه أحداً قدر ما يشبه المريض النفسي الذي لا يمكن علاجه إن لم يعترف أولاً بمرضه، والذي، ثانياً، يرى نفسه سليماً وبكامل عافيته فيما يرى الآخرين هم المرضى بل ويشفق عليهم وربما يسعى بصدق لعلاجهم وانتشالهم من حالتهم التي يتخيلهم فيها. الأمر يصبح أشد فداحة حين تمتد الحالة لتطال السياسة والعمل الوطني فينسحب الواقع كلياً من مخيلة هذا المثقف وتحتل الأفكار (أعني الأوهام) مكانه، فتأخذ المسألة برمتها شكل الجنون أو على الأقل الفانتازيا التي لا صلة لها بالواقع الحقيقي. الصراع السياسي يأخذ في هذه الحالة ما يشبه الثأر الشخصي، كأن تقرأ آراء أحدهم الحادة وحتى الاستفزازية ضد أبو مازن (ومن قبله أبو عمار) ولا تجد عنواناً ينتظمها ويناسبها سوى عنوان واحد «أنا وأبو عمار»، وكأن الأمر برمته عود على بدء من كتابة تطلع من الذات وترتدّ اليها. تعترض كاتبة على منح ربعي المدهون جائزة البوكر للرواية العربية وتكريم الرئيس أبو مازن له فتطلق سيلاً من أقذع الشتائم بحق الكاتب، والويل بعد ذلك لمن لا يعتبر تلك الشتائم نقداً وحتى موقفاً وطنياً صافياً! في مصر، اعتاد المثقفون والسياسيون أن يطلقوا في هذا المقام زفرة طويلة يقولون بعدها «ما فيش فايده غطيني يا صفية»، في إشارة الى عبارة الزعيم سعد زغلول الشهيرة ، فيما لا تستطيع نخبة فلسطين أن تفعل ذلك لأنها ببساطة مطالبة وبالضرورة بأن تكون فاعلة، وهي التي من المفترض أن تتقدم الصفوف لقيادة شعبها في مواجهة تراجيديا لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً. نخبة تعيش في الخواء وتتعلم منه وتكتشف متأخرة كل مرَة أنها لم تنتج سوى الخواء، وهي تنكفئ أكثر فأكثر داخل شرنقتها وتحدق في مراياها بإعجاب وخيلاء لا يدعوان للشفقة قدر دعوتهما للحزن على المآل الفلسطيني الراهن، خصوصاً أن لا أمل في العثور على شفاء منه بعد أن عمَ الخراب