“ربّما نحتاج إلى ديكارت الذي كرّس مبدأ الشك، وفتح الأفق لتطوّر الفكر الحديث. ونشير إلى ديكارت لأنه كان مبتدأ الفكر الحديث. لكن ربّما كنّا أوّلاً بحاجة إلى دحض منطق الغزالي وابن تيميّة لأنّهما أساس المنطق اليقينيّ المزروع فينا “.
هذا ما انتهى إليه الصديق سلامة كيلة في مقالة اختار لها عنوانا ديكارتيّاً لفظاً ومضموناً ” [ربما نحتاج إلى ديكارت->http://www.alawan.org/%D8%B1%D8%A8%D9%85%D8%A7-%D9%86%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A5%D9%84%D9%89.html] “.
يشير إعطاء الأولوية لدحض الغزالي وابن تيمية على توسيع حضور الديكارتية في المشهد العقلي للعرب والمسلمين، إلى أن استنهاض ما راكمه الاعتزال والرشديّة وربّما الأشعريّة من اتّجاهات “عقلية” في مقاربة القرآن – أنظر تحت هذا العنوان : كتاب نصر حامد أبو زيد “الاتجاه العقلي في التفسير ” – تتقدم حاجتنا إليه على ما تقدمه المثاقفة مع الغرب في هذا الاتجاه ..ما يومئ إليه سلامة كيلة سبق أنْ شقّ طريقه إلى التنفيذ على يد أسماء أصبح لها حضورها الطاغي ” حسن حنفي، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، محمد عابد الجابري ..الخ”. يفتح هذا ملفّ ” الحسّ العمليّ” الفاتر عند المثقف الحديث القادم من مناخات ماركسيّة خصوصا ..حجّتي على هذا الفتور، الحصّة الصغيرة للماركسيّة داخل المساحة الضيقة التي احتلتها الحداثة العقليّة في الفضاء الثقافي الإسلامي ..
في البداية يلحّ هذا السؤال: بماذا ندحض الغزالي وابن تيمية إذا دفعنا الديكارتية إلى المرتبة الثانية في الوسائل المستخدمة؟ وهل الرشدية أو الاعتزال يشكلان الوسادة المعرفية للمفكرين المذكورين أعلاه؟ أم إنّهما مساحة للبحث عن العقلانية الموؤودة ينهض بها عقل شكلّت عملية المثاقفة مع الغرب وسادته المعرفية ؟..إلا أنّ للمعضلة وجها آخر.
لقد فات الوقت الذي كان يسمح بالتصدّي من داخل المساحة التأويلية للنصّ المقدس الإسلامي، ودون المغامرة بإنتاج مزيد من التشققات المذهبية لم يعد للنص المقدس أو بتعبير أدق لحضوره في الاستعمال من قبل المسلمين ” تلك المرونة والحيوية التي رافقت الإسلام في شبابه ” القرون الهجرية الخمسة أو الستة الأولى ” ..وربما أنّ الغزالي ولاحقا ابن تيمية ممّن أسّس لإيصال الإسلام في الاستخدام إلى مخنقه الراهن ..رغم ذلك لا أريد أن أغلق بابا يطرقه الآن ما يسمّى بالإسلام المستنير. الباب الذي أغلق على الرشدية وقبلها على الاعتزال. وعلى الدروب العقلية التي حاولا شقّها للمسلمين لاستنطاق نصّهم المقدس …ما أريد قوله أن المخنق الراهن الذي تعانيه الأيدلوجيات الحديثة يعود:
أولا إلى غياب التاريخية ( للتوسّع يستحسن العودة إلى المؤلف الهام لعبد الله العروي : العرب والفكر التاريخي )..قاد هذا الغياب إلى تعثر امتلاك ” نقدي ” للأيديولوجيات الحديثة الوافدة. وتركنا كما يقول العروي ” نحلّ المسألة بترديد النظرية الصالحة لحلّها “.
ثانيا أنها لم تخرج أي الأيديولوجيات الحديثة من حواكير المثقفين إلى الحقول الفسيحة للقوى والشرائح الاجتماعية ..بمعنى أنها لم تشق طريقها نحو الاستعمال من قبل الحوامل الاجتماعية المناسبة. والذي يفاقم المشكلة أن الجدل الدائر داخل حواكير المثقفين لا تغيب عنه هذه المعضلة فقط ، بل ويهرب أيضا من إدارة نقاش- إلاّ على نحو خجول – لتحديد أي القوى والشرائح الاجتماعية التي يعطيها موقعها داخل بنية الإنتاج الراهنة، القدرة على إيصال مشروع الحداثة إلى نقطة أبعد على الطريق؟ البرجوازية أم الطبقة العاملة أم الفلاحون أم الفتات الطبقي الناتج من احتكاك بعضها بالبعض الآخر؟
يبطن هذا مزيجا من رغبة المثقف في احتكار إخراج” الزير من البير” وفتورا في حسّه العملي ورؤية ثقافوية للمعضلة.
لقد تقلص الإطار العام لإشكالية التحديث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، فخرج منه ما سمي في حينه ” بالتحديث الاشتراكي”، ولم يبق للحداثة من مستقبل خارج تعميق التحولات الرأسمالية داخل البنى التي تأخر فيها هذا التحول ..بل هناك ميل إلى اعتبار تجارب بناء رأسماليات دولة هنا أو هناك، بمثابة طرق التفافية حول معضلة التحول المتأخر إلى الرأسمالية في الطور الإمبريالي لهذه الأخيرة، اضطرت إليها الكثير من المجتمعات، بدءاً بألمانيا القرن التاسع عشر مرورا بكتلة الدول الاشتراكية ووصولا إلى الكثير من تجارب مجتمعات العالم الثالث طيلة القرن العشرين. وهي”أي رأسماليات الدولة ” تندرج في نفس السيرورة الكونية للتحول الرأسمالي. يفتح ذلك على ضرورة إعادة ضبط وتحديد معوقات الحداثة على الجبهتين :
1- جبهة الثقافة، وما يتصل بها من ممانعة يبديها التراثان الشفهي والمكتوب في الحوض العربي – الإسلامي. سيما بعد أن جرى تفعيل ” التراث المكتوب ” على نحو سلبي، بواسطة تعليم سقفه محو الأمية لا تغيير البنية العقلية.. تعليم مزق عقول الناشئة بين ما تقوله علوم الطبيعة، وما تقوله علوم الدين في غياب شبه كامل للفلسفة وتاريخها عن المناهج المدرسية والجامعية.
2 – جبهة البنية الاقتصادية – الاجتماعية حيث تتراص قوى وشرائح اجتماعية، تجد عن وعي أو نقص فيه، في الحداثة الرأسمالية تهديدا لمصالحها الاقتصادية أو لهيمنتها الاجتماعية .
وبالعودة إلى الغزالي وابن تيمية :
لا حاجة للتذكير بأن احتلالهما هذه المساحة داخل الإسلام قد سهلته الشروط السياسية التي ولدها الاجتياحان” الصليبي ثم المغولي ” ..لقد تحول الثراء العقلي الذي اكتنزت به الحضارة العربية – الإسلامية عند الحافة بين الألفيتين الميلاديتين إلى عبء “فكري – سياسي ” أضعف وحدة الكلمة في مواجهة العدوان الخارجي. وسهل على تحالف ” الفقهاء –العصبيات ذات الشوكة”، فرض حالة طوارئ بالمفهوم القانوني الحديث لها على مجتمعات العالم العربي والإسلامي ..وهي مناخات نعيشها الآن في العالمين العربي والإسلامي تشكلت بفعل التناغم بين المخاطر الخارجية والتحجر العقلي، حيث التناسب طردي بين الطرفين مما يغلق الأفق على مجتمعات المنطقة للخروج من دوامة تخلفها المتعدد الوجوه والمستويات .