لطريق إلى إيدا لريكاردو بيجليا
رانيا جابر |
| |
صدرت أخيراً رواية «الطريق إلى إيدا» للكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا، عن سلسلة الجوائز التي تنشرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة عبدالسلام باشا. للوهلة الأولى، تبدو لنا الرواية سيرة ذاتية لمؤلفها الذي يتطابق اسمه الثاني مع اسم السارد «إيمليو رنزي»؛ خصوصاً عندما نعرف أن ريكاردو بيجليا نفسه قد أمضى خمسة عشر عاماً في التدريس في جامعات مختلفة في الولايات المتحدة وأنه لم ينف أن في روايته ملامح من سيرته الذاتية وخبرته في التدريس والحياة في الولايات المتحدة. في الفصول الأولى من الرواية نتلمس إطاراً بوليسياً، يسعى «إيمليو» إلى التحقق من مقتل زميلته «إيدا بروان» ولكنه في أثناء رحلته المضنية نحو كشف غموض تلك الجريمة، ينتقل فجأة بالرواية من شكل الرواية البوليسية أو رواية السيرة الذاتية إلى خلق روابط بين روايات جوزيف كونراد، وعالم الرياضيات الذي اعتزل العالم على مدار عشرين عاماً ليقرر شن حرب شعواء على النظام الرأسمالي ممثلاً في الولايات المتحدة نفسها. من هنا نجد الكاتب وقد تماهى مع الشخصية الروائية وسط شخصيات علمية مرموقة ومعروفة لدينا، والتي تخصص كل منها في كاتب كلاسيكي كبير، فنجد مثلاً كيروجا مع تولستوي، وهيدسون مع ميلفيل، وهو يهدف من ذلك إلى إقامة وشائج بين النصوص الإبداعية وقارئيها والمتخصصين في تحليلها والكتابة عنها لتقديمها في النهاية للمتلقي. في الرواية يواصل المؤلف هوايته في صنع تناص نقدي وأدبي، بين الكثير من النصوص والقامات الأدبية الكبيرة والتيارات الفكرية والسياسية التي غيَّرت مسار البشرية خلال القرنين الماضيين. ولذا فمن الممكن أن نرى هذه الرواية عملاً أدبياً ذا شأن، يتجاوز الكثير من الأجناس الروائية، طارحاً في الوقت نفسه نوعاً جديداً ومختلفاً من الكتابة الجذَّابة والمشوقة التي تسلط الضوء على التشابكات غير المرئية بين ثقافات وأفكار ونظم سياسية وفكرية متباينة عبر النصوص الأدبية والفلسفية لكتّاب عديدين، كأنها تضع العالم الأدبي والفكري في ثقافات وأزمنة مختلفة تحت جهاز لأشعة أكس، أو تحت إضاءة فوق بنفسجية، يكون من شأنها فضح غير المرئي، رغم حضوره المحسوس، وهو ما يجعل المتلقي متأكداً من أنه يوجد جانب مهم آخر في الرواية ألا وهو اللغة التي نراها تعبر في شكل كبير عما يرمي إليه المؤلف. ويتبع بيجليا في معظم أعماله السردية تقليداً أرجنتينياً عريقاً وهو أن الرواية البوليسية هي رواية البحث والتقصي والغموض، بعد أن تأثر الأدب الأرجنتيني بالآداب المكتوبة باللغة الإنكليزية في شكل ملموس. من هذا المنطلق، فإن كل شخصيات الرواية تقريباً هي شخصيات مزدوجة، سواء في هويتها، أو مهنتها، أو أفعالها أو في مسلكها في الحياة، لذا نرى السارد يقول في الفصل الأول: «في ذلك الوقت كانت لي أكثر من حياة، الحب، الكحوليات، السياسة، الكلاب، الجولات الليلية، كنت أكتب سيناريوات لا يتم تصويرها، وأترجم روايات بوليسية كثيرة تبدو دائماً الرواية نفسها». هذا التشرذم في الشخصية الروائية يمتد إلى القط؛ الحيوان الوحيد الذي يظهر في صفحات قليلة من الرواية وله حياتان مزدوجتان، وإن لم تكونا متوازيتين، فهو قط متمرد، تلفظه القطة الأم، تاركة إياه فوق شجرة، لكنه يقبل بحياة منزلية هادئة، غير أنه لا يحتملها طويلاً، إنه هنا مثله مثل البشر، يفر إلى العالم الحر والمفتوح، إنه فقط يبحث عن الخبرة والتجربة، والمغامرة، فيما تعيش الشخصيات البشرية ازدواجها وخيالاتها بالتوازي. وفي أحيان كثيرة تتحرك الشخصية بين عالمين، سواء سراً، في الليل تحت ستار العتمة، أو في أفكارها ورغباتها المعلَنة والمكبوتة. وهذا ما يسمح لنا أن نصف هذه الرواية بأنها رواية تحليل نفسي، وهو ما اعترف به الكاتب نفسه في طيات روايته. ووفق المترجم، فإنه «في الطريق إلى إيدا»، يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الأدب التوثيقي، أو الأدب الوثائقي، فالقاتل الذي يظهر في الرواية هو شخصية حقيقية، لها التاريخ الشخصي نفسه تقريباً، والوقائع حدثت في الفترة الزمنية نفسها، لكن الاستفاضة أكثر من هذا في تفاصيل الشخصية ربما يُفقد النص بريقه وحيويته وزخمه. إننا هنا أمام رواية عصيَّة على التصنيف، وربما على الفهم أيضاً، لأننا نجد بها من الأدب البوليسي غموض جريمة القتل والبحث المضني عن القاتل، كما نجد بها في الوقت ذاته لمحات خادعة من أدب السيرة الذاتية، فالبطل الذي ظهر بالاسم نفسه في روايات بيجليا السابقة، المدعو «إيميلو رينزي»، يعاود الظهور هنا، ولإضفاء نوع من التماهي المصطنع، بين المؤلف والشخصية الروائية سنجد أن اسم الكاتب بالكامل هو ريكاردو إيمليو بيجليا رينزي، ولهذا فلنا هنا أن نتساءل: ماذا يوجد في أدب بيجليا من سيرة ذاتية؟ نعتقد بأنه يوجد شيء أكثر من الاسم بالطبع، ربما بعض المعلومات والملامح الحقيقية، مثل السفر إلى الولايات المتحدة، ورؤية بشر ومناخ مختلفين، التدريس في الجامعات المختلفة،وكذلك امتهان الكتابة والنقد الأدبي. «الطريق إلى إيدا» رواية تستحق القراءة لما فيها من فن روائي وحبكة سردية متقنة ومثيرة، حيث نجد الحياة في صيغة الغائب، وهو ما عبّر عنه الكاتب بقوله: «إنني الآن أتوه في الدوَّامات الحقيرة للذكريات الشخصية، أفضل شيء أن أستحم وأجلس للعمل، قلت، وانتبهت إلى أنني أتكلم بصوت عال، ولم أكن