العيش بصحبة الفلسفة " لميشال فوكو
عسو بحاج |
| |
إذ و أننا نود أن نشتغل أو نلامس بعضا من القضايا التي تتصل بشكل أو بآخر بالخطاب الفلسفي، كان لزاما علينا أن نحاول استقراء معاني مفهوم الفلسفة حسب الإمكان. ما هي الفلسفة؟ سؤال الماهية، سؤال عميق الدلالة و المعنى يتصل ببينة هذه المقولة و امتداداتها المعرفية و الثقافية، كما تتعدد التعاريف التي تتناول مقولة " الفلسفة" و ذلك بتعدد الإنتماءات الفكرية و الزمنية لواضيعها والزوايا التي ينظرون منها إليها. فالفلسفة عند ّأفلاطون ليست عبارة عن معارف أو صيغ معرفية، ينبغي تلقينها لعدد من التلاميذ في كراسات خاصة يفهمونها و يدركون معناها، ثم يقومون بعد ذلك بحفظها:" لا تلقن و تحفظ و تدرك" ( ص:96). بل الفلسفة : " بخلاف ذلك يؤكد أفلاطون نتعلمها عبر ما يدعى ب : sunousia peri to pragrame » وsunousia – حسب فوكو- تعني " الكينونة مع l’être avec" بمعنى أن كل من يريد أن يمارس فعل التفلسف، عليه أن يلازمها، و يحيي بمرافقتها : إن كل من يتفلسف مجبر على السكن مع الفلسفة" (ص: 97) لكي يدرك معانيها و يتعرف حقيقتها، و بفضل هذه الصحبة/ الملازمة س: " تتوهج الأضواء داخل النفس... مثلما يشتغل فتيل المصباح عندما نقربه من النار" (ص:97)، هذا ما إن يشتعل فتيله و يضيء حتى يكون ملزما ب: " إقاته ذاته بوقوده هو ذاته" ( ص: 97). نخلص من هذا إلى أن الفلسفة – عند أفلاطون- تكتسب عن طريق ممارسة تمارين شاقة و عملية، و بملازمة تامة لأهلها، حتى يكتسب التلميذ المؤهلات التي تخول له ممارستها، فعندما تسطع الأضواء في صدره و تتوقد، إذ ذاك يغذو متمكنا من أصول التفلسف مستقلا بذاته، قادرا على إضاءة طريقه بنفسه لا يحتاج في ذلك إلى غيره، فالفيلسوف العظيم- في نظر أفلاطون- كما جاء في محاورة تييتيت، هو الذي ينصرف عن الحياة و ملذاتها كلية ليشتغل بقراءة نواميس الكون و الطبيعة و بالبحث في ماهية الإنسان، لا يعرف عن الحياة العامة شيئا يذكر. و يعتبر الفيلسوف الألماني إيما نويل كانط الفلسفة جزءا من المعارف العقلية التي تستنبط من مبادئ من قبل متمرس على استعمال عقله بكيفية حرة[1]: " نسق من المعارف الفلسفية أو المعارف العقلية القائمة على التصورات[2][3]". أما ميشال فوكو فينطلق في تعريفه لها من خلال وظيفتها النقدية لواقع ذواتنا ( النحن)، للحاضر... ربما يختلف حاضرنا اختلافا مطلقا عما ليس هو، أي عن ماضينا". لما ذا تمرد Denys الفيلسوف عن معلمه أفلاطون؟ تمخض عن رفض Denys اجتياز الإختبار الذي وضعه له معلمه أفلاطون Platone - في نظر فوكو- مسألتين هامتين تتعلق الأولى: " بالإصغاء l’écoute": إن رفض Denys أن يتبع المنهج الفلسفي الذي رسمه له أفلاطون – اعتبره هذا الأخير خطأ سلبيا- أي لم يرد Denys ذاك المتمرد ممارسة التمارين الشاقة التي أرشده إليها معلمه، و لم يصغ بذلك لأول درس في الفلسفة، فقد شق عصا الطاعة عنه، و لم يمتثل لما وجهه إليه من تمارين ، فإذا ما اتبعها و حفظ محتواها " عن ظهر قلب" ( ص: 95) و سطع النور في قلبه، فسيغدو فيلسوفا ! لكنه تمرد عن منهجه، و خطا أول خطوة نحو التحرر من سلطة المعلم، و سار نحو بناء ذاته بنفسه بعد أن اكتسب المبادئ الأولى التي سيعتمد عليها في حياته، لأنه يعتقد أنه : " مستفيض في علمه بها [ أي الفلسفة[4]] حد استغناءه عن كل رغبة في التعلم" (ص-94) – نحن لا نأهب هنا بالرد الغاضب لأفلاطون لكونه معلما يريد احتضان تلميذه، لكي يسير على خطاه و يتمم ما بدأه – ف Denys قادر على اختيار منهجه- و هذا ما قام به فعلا- و تحمل مسؤولية نتائجه رغم التحذير الشديد الذي تلاقاه من أفلاطون: " فكر إذن في هذا الأمر و احترس حتى لا تدفع الثمن غاليا، جراء ما قد تتركه الآن يديع بشكل بشع" ( ص: 95) و يحذره من فعل الكتابة الذي سيصر Denys على ركوبه. Denys الفيلسوف الذي يكتب: أنتج Denys نصا فلسفيا مكتوبا و هذا هو الخطأ الثاني الذي ارتكبه- يعتبره فوكو خطأ إيجابيا- و هو الركيزة الثانية في منهجه. لقد كتب النص فعلا و لم ينسخه كما يدعي أفلاطون " كونه أراد أن يتبنى تلك النصوص التي هي في الحقيقة ليست غير نسخ للدروس التي تلاقها Denys" ( ص: 94)، لأن شخصا في مثل نباهته و شجاعته، لن يستسيغ لنفسه أن يسطو على ملك غيره، وهذا ما يفسر بوضوح شدة سخط أفلاطون على تلميذه و عدم رضاه على منهجه : " و في كتابته لهذا النص [ الكلام هنا لفوكـــو] يتجلى بسحب أفلاطون دليل عجزه عن ملاقاة الحقيقة الفلسفية" ( ص: 94)، ما هي دوافع الكتابة عند Denys؟ حقيقة لا نتوفر على أدلة مكتوبة تفيدنا بشكل صريح، في صبر أغوار هذا التساؤل إلا ما يمكن أن نستشفه من ثنايا هذا النص: - كون Denys أراد أن يثبت بالملموس خطأ معلمه من جهة، وسداد رأيه من جهة أخرى خصوصا و أن النص الذي أنتجه بعد زيارته له: " لكي يثبت أنه ذو جدارة في مجال الفلسفة و بين أن المخطئ إنما هو أفلاطون" (ص: 94). - أراد Denys أن يثبت ذاته و مدى قدرته على الإنتاج، حتى في غياب رابطة الإشراف التي يضفيها المعلم على تلميذه، خصوصا و نحن نعلم عدم رغبته في اتباع طريق معلمه، و اجتيازه بمفرده الطريق الخاص به، و هذا ما سيمنحه استقلاليته الذاتية، و اعتزازه بنفسه و إقدامه على التعلم الذاتي و استخلاص الدروس و العبر من الحياة. - الرغبة في تدوين و جمع ما يفكر فيه و ينتجه حتى لا يكون عرضة للضياع، و في الحقيقة لولا فعل الكتابة الذي رفضته الميتافيزيقيا و اعتبرته يلطخ نقاء و طهارة الفكر، لما وصل إلينا هذا التراث الفلسفي الزاخر، و من تراث أفلاطون و سقراط ! لقد كان عمل Denys هذا عملا شجاعا بالفعل لكونه قاوم بسدة منهج معلمه و رفضه، و رسم بذلك طريقا جديدا تمكن بفضله من لم شتات تراث فلسفي زاخر. و نبرز الآن نتائج فعل الكتابة على عدة مستويات: المستوى الأول: الكتابة تخرج النص من " السرية l’ésotérisme" (ص: 95) وتفشي المعرفة الفلسفية لمن يطلبها، سواء للدرس أو البحث لإستخلاص النتائج و العبر. المستوى الثاني: الكتابة تعرض النص للعموم و تخرجه من احتكار النخبة العالمة له" عبر وسائط تسهل تمرير الفكر الفلسفي عبر قوالب ثقافية سهلة في التلقي، فتفتح المجال للتعلم لكل من أراد ذلك ممن لا يؤهلهم مستواهم العلمي، من تلقي المعرفة التي يفرضها المستوى الأول، و هذا ما يمكن تسميته ب " مقرطة المعرفة و الفكر" و فتحها أمام العموم. المستوى الثالث: الكتابة تفضح النص و ترفع عنه حجاب التعالي، فتعرضه للنقد و المساءلة و الفحص، فالنص المدون يمنح إمكانية المتابعة، أكثر من الشفاهة التي لا تثير دائما فضول الناقد و الباحث. ملحوظة : الفقرات المقتطفة من النص الذي بنيت عليه هذه الدراسة يشار لها بالصفحة داخل متن هذا النص. *-العيش بصحبة الفلسفة "درس لميشال فوكو، ترجمة حسن أوزال في كتابه حكمة الحداثين . الطبعة الأولى 2004- دار وليلي للطباعة و النشر / المرجع الأصلي أنطولوجيا الحاضر Magazine littéraire n° : 435, octobre 2004 بمعنى أن يبتعد عن الجمود و التقليد 1-على حرب. مجلة الفكر العربي، العدد 48، السنة الثامنة، أكتوبر 1978. 2- Michel Faucoult, la quinzaine littéraire ; 1er – 15 mars 1968 الترجمة العربية مأخوذة من : التفكير الفلسفي ، إعداد و ترجمة محمد سبيلا و ع السلام بنعبد العالي، سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر . الطبعة الثانية 2004. - الزيادة الموجودة ما بين معقوفتين [...] من عندي.