انتهاء الحياة الخاصة انتهت الحياة الخاصة واختفى معها النسيج الحسي، الذي كان يجعل الترابط ممكنا. لا يتعلق شيء بآخر. وثمة أتمتة عاطفية لبرمجة الشعور بأن يكون عابرا ورخوا. وسحبت التقنيات المعاصرة حميميتنا إلى المشهد العام، كفُرجة منفلتة بلا منصة تلمها في حكاية أو صورة. والصورة التي تظهر تمحوها في عجالة صورة أخرى، لا تعكس شيئا غير الحضور العابر للأشياء في عاديتها المفرطة. حاول بودلير أن يعرّفَ الحداثة كنزعة لتثبيت الزوال، مخمنا أن التسارع المفرط لمشهد الحياة يجعله مفتقدا باستمرار. غير أن الحداثة وغيرها من التسميات، التي لا أجدها مثمرة إجرائيا، تداعت أمام الزخم الهائل لميوعة العلاقات الإنسانية في المسطح التقني الحديث. أيّ قريب وأيّ بعيد يمكننا الإشارة إليه في زمن الغياب المطلق للجسد. ليست التقنيات مجرد نظام توسطي وفقا لما يميل إليه ريجيس دوبريه. إنها بدائل أشياء تحل محل بدائل إنسانية. والتوسط الذي توهمنا أنها تمده بيننا في القرية المعولمة/ العالم، لم تحدث انفتاحا كونيا بين البشر على غرار ما فعله المفهوم القديم للمدينة / العالم الذي جسدته بابل وروما. حاول إدغار موران، في المغرب عبر محاضرته، التي تناول فيها ثقوب المعرفة المعاصرة، أن يخفف من هول الكراهية والأمراض الوبائية لعالم الإنترنت، لكنه لم يقدم حينذاك إجابة عن سؤاله: لماذا زاد سوء التفاهم بيننا مع تحسن قدرتنا على الاتصال؟ زادت وتيرة الشر وتعقدت بنيته وبات ممشهدا ومؤدلجا ومنمقا بالأيديولوجيتين الدينية والسياسية. وهو ما حاولت مدرسة فرانكفورت أن تترجمه في أعمال روادها؛ "جدل التنوير" لدوركهايم وآدورنو و"تشريح التدميرية البشرية" لإريك فروم. ثم توسعت دائرة التشكيك في قدرة الفكر على ضبط الشر في العالم وكذلك في دور الأفكار في إنتاج الشر. وبالرغم من تقدم التحليل المتعلق بتفسير عدوانية الجماهير المسحورة بزعماء قتلى، إلا أن تقنيات إنتاج الجماهير النوَّامة والتي وصفها فرويد بعودة القبيلة البدائية في هيئة حديثة، ازدادت قدرة على ترييض الجماهير وتقنين قوانين ضبطها ومراقبتها. أتحرك في جغرافية تتقاطعها دول محطمة، عبر مجتمعات يلتبس عليها مصدر انتمائها، منهكة بالكراهية والحروب التي طعنت كرامتها وسلبتها استقرارها وورثتها خنجرا للثأر، بناء على أتفه الأسباب. يمكن لطلقة طائشة أن تفتح جبهة دامية لأشهر ضمن مسافة لا تتعدى ثلاثة كيلومترات. وفقا لببير بورديو وآخرين، تكون المجتمعات الأسهل لخداعها هي المجتمعات المنهكة. واللّهاية الإلكترونية هي الوسيلة الأنجع لسلب الجماهير وجودها الكلي. بناء على ما تقدم، انسحبت أصوات ثقافية كثيرة من الحياة العامة. في الوقت ذاته، ثمة ضغط متعدد المسارب لإزاحة المعرفة عن العمل الإبداعي، وتحويل الفنون إلى نزوات صبيانية وتجريدها من قدرتها على بناء فكرة ما، وتنميط الكتابة والخطاب وفقا للقالب الذي تستسيغه الجماهير. فاختلطت العوالم الخاصة للناس ببعضها لأول مرة في تاريخ التواصل البشري، وبات الفضاء التفاعلي مقتحما. سابقا كانت الأسس الترابية/ الحارة والمنطقة والقرية..إلخ، إلى جانب الأسس الحِرَفيّة، تؤسس فضاءات متجانسة لتفاعل الناس فيما بينها. يفهم الحرفي لغة الحرفي في مجال لعبتهما اللغوية الخاصة، وتترجم العبارات إلى معانيها المنشودة ضمن نظام العلامة الخاص بكل مجال، بينما فضّت البؤر التواصلية المعاصرة الغشاء الرقيق الذي يمايز بين لغة ذهنية وأخرى. كل المواضيع تناقش من قبل كل الناس عبر العبارات والمسارات ذاتها. الجهل إذن بات لامرئيا، مسحوقا في الأشياء كأنما هو طبيعتها. شخوص لامرئية: تيرنس ماليك استلهم المخرج السينمائي، تيرنس ماليك، معضلة الشر الأبيقورية في تحفته السينمائية "خط أحمر رفيع"، 1997. إنه الفيلم الوحيد في تاريخ السينما الذي جسَّدَ ماهية الحرب واستفهم حول أصلها، مقارنة مع معظم الأفلام السينمائية التي تناولت الحرب ووثقتها بصريا أيما توثيق، حتى باتت بمثابة تأريخ بصري مُعاش بأحاسيس كاملة، كفيلم "عازف البيانو" لبولانسكي وفيلم "قائمة شندلر" لسبيلبرغ وفيلم "رسائل أيوجيما" لكلينت إيستوود وأفلام أخرى غيرها. إلا أنّ ما قدَّمه ماليك في هذا الفيلم من شخصيات وسلوكيات متناقضة لبناء مفهومه عن الحرب وربطها بمعضلة الشر، حَوّل الفيلم إلى جدار كهفي حامل للرسومات البدائية التي توثق جذرية الشر. فاستخدم الأصوات الداخلية للشخصيات لجعلها صوتا خارج المشهد ولأجله في آن، منسقا ذلك مع موسيقى هانز زيمر، الذي يختار الأصوات وفقا لديناميتها المشهدية الخاصة. واعتمد التدرج اللوني في مَنتَجة الكتلة السينمائية لتخفيف سرعة التقطيع البصري في المشهد. فجاءت الاستفهامات التي قدمها حول الشر كأنها استخلصت من سياق المشهد الفيلمي. كيف فقدنا نورنا الداخلي؟ هذا الشر الرهيب ما مصدره؟ هي أسئلة ماليك الذي يستدعي وصية أبيقور في البقاء مجهولا. برباطة جأش عارمة جعلت ماليك غائبا عن الاستعراض التسويقي ومنكفئا على تنمية ذاته التي يبثها فيلميا في العالم. انسحب ماليك من الحياة العامة ليتأملها ويتحرر من فسادها. فقدم خلاصة تأمله في فيلميه "شجرة الحياة"، 2011 و"فارس الكؤوس"، 2014. لم يخضع لمعيارية هوليوود التسويقية. ظل يتأمل مصدر الخيوط التي تمتد لتنسج فكرة الحياة والشر. ماركس نعلم أن أطروحة الدكتوراه التي قدمها ماركس كانت حول أفكار أبيقور المادية. ونعلم أن بعض العبارات من البيان الشيوعي (1848) ظهرت متسقة مع الوصايا الأبيقورية التي تحرر الإنسان من التماهي بالمكان في انتمائه. العالم هو مكان الإنسان الحُر في الأبيقورية، وهي العبارة التي تظهر في البيان الشيوعي بـ "العمال لا وطن لهم". يفترق البيان الشيوعي في متنه عن الأبيقورية كثيرا، إلا أن ماركس ظلَ إلى أواخر أيام حياته شخصا لامرئيا، مأخوذا حتى نفسه الأخير بقراءة التاريخ والاقتصاد الذي لمَّه من قراءات كثيرة مشابهة. يخبرنا آيزايا برلين في قراءته لماركس، أنّ المنظر الاقتصادي الأكثر تأثيرا في التاريخ ظلَّ مغمورا في لندن إلى أن تبنته الاشتراكية العالمية بدءا بباريس وصولا إلى موسكو، التي سمحت رقابتها بترجمة أعماله ظنا منها أنها كتب غير مفهومة، وأن إغواء الشهرة العالمية لم يثنه عن متابعة حياته بإخلاص كبير داخل عالمه الخاص كزوج وأب ملتزم وصديق وَفي لصديقه إنجلز. ولم يساوم فكريا على مستوى أطروحاته الفكرية. كان يكتب ببطء ويكرر عرض أفكاره بحثا عن الدقة اللازمة لتحويل الفكر إلى قانون. لم يجعل نظريته شعبوية ولم يتحول إلى خطيب جماهيري. وظلّ متعلقا بوسط اجتماعي مألوف، ومتعلقا بشكل كبير بأولاده وزوجته وصديقه، ومنعزلا عن الثوريين ومعاديا لوسائلهم. انسحب ماركس إلى عمق العلاقات الاجتماعية دون أن يفسد بفسادها. حدد معالم حربه وهوية أعدائه، واثقا من طبيعة الصراع الذي يؤسس التاريخ الإنساني ويهيكل تراتبيته، مطمئنا إلى قدرة القوانين التي وضعها لدراسة العلاقات الاجتماعية كاطمئنان آينشتاين الذي نام هادئا في الليلة التي عمل فيها الفلكي البريطاني آرثر أيدنجتون مع بعثة علمية في الصحراء الأفريقية، للتحقق فيزيائيا من صحة حسابات آينشتاين الرياضية حول انحراف الضوء. لم يتحول ماركس إلى كاتب شعبوي، وإنما إلى الأشهر بين جماهير لم تقرأه إلا على نحو خاطئ، هذا إن قرأته بالفعل. سليم بركات ما هو التكوين وما هي البنية؟ لماذا يُكتب الشيء ذاته مرارا وبالرتابة ذاتها؟ أسئلة يمكن استخلاصها من قراءة أمبرتو إيكو لجيمس جويس. في "الأثر المفتوح" لإيكو استعادة ملموسة لأدب سليم بركات عبر تحليل شعرية البنية الجمالية لأعمال جويس، وتقاطعات في نمو وتأسيس شخصية جويس وبركات، وفي مقدمتها نَفيُ الذات عن الأسلبة المتداولة في التأليف وفي البحث عن علاقة تبادلية بين منتجها وجمهورها. حظي جويس بجهد نقدي معادل لجهده الإبداعي. ولذلك يعتمد إيكو على أعمال جويس لبناء مفهومه عن الأثر المفتوح. بينما اختُزِلَ سليم إلى حالة بلاغة لغوية. وجهود قليلة أعادت إلى أدب سليم استفهامه الدقيق، بنية بناء الجملة والعمل، وإحياء العلاقات الميتة بين الأشياء والمنجم السردي الذي لا ينضب، نظام الحواس الذي فجره وتطويره لكيفيات حسية يمكنها أن تعمِّق علاقتنا بعالمنا المحيط، ويقظة ذهنية لالتقاط الذرات الخفيفة في الكلام وفي السلوك. يُشبّه سليم في جانب منه ببيكاسو، كلاهما كان عدوا للرتابة الأسلوبية. بيكاسو باختلاساته الذكية، وسليم بعزلته العميقة. رفض سليم مثلما فعل جويس الانجرار إلى متطلبات سذاجة الجماهير، لكنه على غرار ماركس كتب في الجماهير دون أن يفسد بفسادها. فجاءت مقالات سليم استشرافية بامتياز. استشرف قبل سنوات ولادة شمولية مجنونة في كردستان سورية، مثلما استشرف قبلها بسنوات الخراب الذي تنتجه نكبة العقل العربي. تصدم مواقفه الجماهير المسحورة بالقتل، مثلما يصدم أدبه النقد المأخوذ بالتداول الزائل للفهم. سليم منفي ليس عن المكان وحسب بل وأيضا عن الهواء الخاص بمكانته الرفيعة في الأدب العالمي. ضياع للوجه الصريح يزدهر العنف في اللغة اليومية بأشكال متنوعة. مصادر العنف أيضا متنوعة ومقتحمة للحميمية التي اختفت. لم نعد نفهم الأسس التي يبني عليها الفرد علاقته بفرد آخر. لا قناع يحجب هذا الانتهاك لحق الناس في البقاء ضمن مجالات مألوفة لهم ومشحونة بالألفة الحسية العاطفية. ثمة ضياع كارثي للوجه في صريح معالمه. لن يكون بوسع فن البورتريه أن يقدم شيئا عن الوجه المعاصر. إن الوجه المعاصر هو نسخة عن اللوحة التي يقدمها بلزاك في قصته "التحفة المجهولة"، التي يرسمها رسام وفقا لصورتها في