التواطئ الثقافي
سعيد يقطين |
| |
ما يزال شعارنا الضمني والصريح في كثير من الأمور التي تتصل بواقعنا الثقافي هو: «كم من حاجة قضيناها بتركها». ومن الأمور المهمة الكبيرة التي قضيناها بتركها، قضية الوضوح في الاستعمال والتعامل. فنحن كثيرا ما نعمل على ترك الغموض والإبهام قائما في لغتنا وسلوكنا وعلاقاتنا، ونحاول جهد الإمكان جعل الأشياء محاطة بهالة من الالتباس، ما دام الوضوح يربكنا، أو يوقعنا في ما نرى أن عقباه لا تحمد. أسمي هذه الطريقة التي نتعامل بها مع اللغة والأشخاص والأشياء: التواطؤ الثقافي. يبرز لنا هذا التواطؤ في غياب تحديد الماهيات، من جهة، وانعدام السعي وراء الكشف عن البنيات، من جهة ثانية، وتغييب تحديد نوعية العلاقات التي تربط بين الأشياء من جهة ثالثة. ومعنى ذلك بكلمة، أننا لسنا نسقيين في تفكيرنا. إن تغييب النسقية في التفكير لا يعني سوى القبول بالالتباس وعدم الدقة في التفكير والتطبيق. وكأننا بهذا نعفي أنفسنا من السعي إلى توضيح الأمور، أو المطالبة بالتدقيق والتحقيق، معتبرين ذلك يمس بشخصيتنا وذاتيتنا. وما دمنا نتعامل بهذه الكيفية لا يمكننا أبدا التقدم في إنجاز التواصل المطلوب، أو الانتهاء إلى تشكيل تصورات مشتركة أو مختلفة في الفهم والإفهام. التواطؤ الثقافي دليل على سيادة ثقافة الالتباس. ولعل أهم ركيزة تبنى عليها هذه الثقافة، هي السعي إلى الإفحام بدل الإقناع. ويعتبر التواطؤ الثقافي جانبا من الجوانب التي تتأسس عليها هذه الثقافة لأنه يقضي بثبات الأشياء، وعدم حاجتها إلى تفسير، لأن وضوحها يؤدي إلى عكس النية المنطلق منها. نمارس هذه الثقافة تحت مسمى «الاختلاف» حينا، و»وجهة النظر» حينا آخر، لذلك أرى أنه عندما بدأت تشيع مفاهيم مثل الاختلاف في استعمالاتنا الثقافية، جعلناها مشجبا نعلق عليه التباساتنا واختلافاتنا المؤسسة على أرضية غير صلبة ولا سليمة، محاولين إعطاءها بعدا ثقافيا وفكريا، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون تهربا من الكشف عن حقيقة تخلفنا العلمي وكسلنا المعرفي. وحين يغدو هذا التهرب مشتركا بين العديد من الفاعلين الثقافيين يمسي تعبيرا عن «التواطؤ» الثقافي. من أبرز مظاهر هذا التواطؤ عدم رجوعنا إلى المراجع التاريخية والعلمية المتصلة بالمفاهيم والمصطلحات التي نوظفها في حياتنا بهدف التحقق والتدقيق، أو ترهين المعلومات والمعارف الخاصة بالقضايا الكبرى التي نتداول بشأنها، وأرى أن من أسباب ذلك عدم تعودنا على استعمال المعاجم اللغوية وغيرها واستخدامها في حياتنا الثقافية. عندما تطرح بعض القضايا المتصلة بالمفاهيم في حواراتنا ومؤتمراتنا نجد أنفسنا أمام التباسات لا حصر لها. فكل واحد يفهم المصطلح، أي مصطلح، ويوظفه بطريقته الخاصة. وعندما تتم المطالبة بالتدقيق، إذا ما تمت، من خلال السؤال عن «ما هو المصطلح؟» يعتبر هذا من قبيل الأسئلة الموجهة للطلاب. ويكون هذا الجواب إنهاء للنقاش. ومعنى ذلك أن هذا النوع من الأسئلة يجب ألا يطرح، فكل يفهمه بالطريقة التي تهمه، من دون تكليف النفس مهمة البحث والتدقيق. ولهذا يسود استعمال مصطلحاتنا الكثير من الاختلاف والالتباس، عن جهل حينا، وعن قصد حينا آخر. من بين أهم آثار هذا التواطؤ عدم تطوير علاقتنا بالمفاهيم والمصطلحات التي نوظفها في حياتنا العلمية والعملية، والسكوت عن التفكير فيها أو البحث عن خلفياتها وأصولها وسياقاتها المختلفة، وتكون لذلك نتائج وخيمة على أنماط تفكيرنا وتواصلنا، سواء في المجالات العلمية أو الثقافية أو السياسية. فكيف يمكننا أن نحقق التواصل الضروري وفهم الآخر، من دون أن تكون عندنا تصورات واضحة عن الأشياء وقادرين على توضيحها لمن لا يعرفها بالشكل الذي يجعله على بينة من أمره؟ نلاحظ هذا بجلاء في الندوات واللقاءات التلفزية حين تثار مثلا بعض القضايا الحساسة، المعبر عنها بمفاهيم معينة، كيف أن كل واحد يستعملها بطريقة مختلفة عن الآخر. وكثيرا ما تتسرب معلومات غير دقيقة عن المفهوم، وإذا لم يكن المنشط في المستوى الذي يجعله يوقف النقاش على رجليه، تمر تلك الأفكار مشبعة بالالتباس والغموض، فيتحقق التواطؤ بالصورة المثلى، بل إنه حتى في حال رجوعنا إلى البحث في القضايا التي نتعامل معها أملا في تحصيل الدقة، نجد الطريقة المتبعة تتلخص في جمع المعلومات من دون رؤية محددة، أو تصور يحكمها، فنجد أنفسنا في النهاية، نأخذ بأحد التحديدات، لأننا نراه الأبسط والأوضح، معتقدين بذلك أننا قضينا الحاجة ووفينا الأمانة. وتبدو آثار ذلك بارزة في فهمنا الناقص للأشياء، فلا نؤسس علاقاتنا على الفهم والإفهام، ولكن على استمرار الالتباس والإبهام. إن التواطؤ الثقافي، وهو يتأسس على الالتباس، لا يكمن فقط في الكسل المعرفي، أو في رغبتنا ألا نكون نسقيين، ولكنه أيضا وليد المراوغة في التعامل، والكذب في الوعود، والسعي إلى الإثارة. وكما يتحقق هذا في السياسة من خلال اتباع مختلف الأساليب مثل إظهار الشيء على عكس ما هو للإفحام، ولتحقيق مكاسب معينة، نجده أيضا في الثقافة. المطالبة بالوضوح في الاستعمال والتعامل ضرورة للتواصل المعرفي بهدف التطور،
الخميس أبريل 27, 2017 11:10 pm من طرف فؤاد