خطئ من يظن بأن الثقافة لا تحتل ركناً أساسياً في عملية التنمية السياسية، بل إنها عصب التنمية ومبتغاها. والثقافة التي نقصدها هنا تتصل بصياغة خطاب مستقبلي يحمل توجهات الروح العربية الجديدة، ويكسوها سمة تقبض على الإشراقات الكبرى في التحوّلات الاجتماعية والسياسية، ويضعها في الأفق الكوني والإنساني.فإذا كان لكل دولة عقل سياسي واقتصادي، فإن لها أيضاً عقلاً ثقافياً؛ ونجد أن الأخير في العالم العربي غائب أو متوارٍ، ما يجعل من الضروري خوض نقاش على مستوى جمعي لرسم آليات العقل الثقافي وملامحه، ووضع استراتيجياته.
ولعل هذا الأمر أن يكون أوْلى بالبحث، وأنسبَ للسجال، وأسبقَ في المبادرة من الانهماك في قضايا جانبية لا تكتسي طابعاً مطلبياً، لأنه في ظل وجود عقل ثقافي متبلور، تتهيأ الفرصة لانبثاق وعي ثقافي لا يكتنف أدواته الغموض، كما هو الحال الآن، بل يكون إحدى تجليات العقل الثقافي وواحدة من ثمراته.
ولا يوجد قطاع في العالم العربي أكثر تبرماً من أحواله، من قطاع المشتغلين في الثقافة والفن؛ فهؤلاء كانوا على الدوام مهمّشين قابعين في عتمة النسيان، وكانت مؤسساتهم تنقاد من أشخاص لا صلة لهم بالثقافة.
إن قاطرة الحداثة المنشودة في العالم العربي والإسلامي في أزمنة الربيع، لا يمكن أن تتقدم إلا من خلال الفعل الثقافي الذي يغمر وجوه الحياة المدنية بمختلف تشكيلاتها وحقولها.
الثقافة المنفتحة على المنجز الحضاري الإنساني ترسي قواعد التسامح، وتشيع مناخات التواصل والاعتراف بالآخر، وتقبّل المخالف وتحتضنه. إنها مسرح كبير لتلاقح الذهنيات، ونبذ التطرف، وإشعال المخيلات الجمعية بما هو مبدع وخلاق، عوضاً عن الانشغال بالقضايا الفرعية التي تمزّق وتفتّت ولا تجمع.
وفي مقدمة مكونات العقل الثقافي، الخطاب النقدي الجذري لمجمل وقائع حياتنا، نقد ينهل مشروعيته من روح البناء الذي يسبقه الهدم المعرفي، نقد غير مدجّن، نقد معارض بآليات ذات مضاء لا تهادن السائد، وتقطع الصلة بكل ما يحجر على العقل، وينبذ الرقابات بسائر أشكالها، ويرفض أن يؤوّل الأدب بعين غير إبداعية أو بعيون فقهية هدفها المصادرة على المطلوب، وعدم الإصغاء الخلاق لآليات النص وبنيته الداخلية.
العقل النقدي يحتاج، كي يتبلور، إلى مراجعة راديكالية لأحوالنا، ويحتاج أيضاً إلى الإصغاء لتيارات التنوير الليبرالي، التي تجتهد لكي تنفصل وتنشقّ عن المؤسسة الرسمية بكل حمولاتها الماضوية، نشداناً لحالة بعيدة عن الاستلاب والمصادرة على المطلوب، والاستقواء بقوى الشد العكسي وبغيرها من مراكز استقطابية كلاسيكية المحتوى تنتمي إلى عهود عرفية، وإلى أزمنة تغييب العقل و إقصائه وازدرائه.
كيف نتحرّر من الارتهان للعقليات السائدة المهيمنة على مجمل الخطابات في الدولة العربية المعاصرة، وكيف نتقدم للناس في الداخل والخارج بروحية تستقي مفرداتها من الوقائع المدنية الراهنة في أقصى تجلياتها المعرفية والتقنية، وبشفافية منقطعة النظير؟
تلكم أسئلة يتعين الانخراط في الإجابة عنها، لأنها، في ظني، تشكل نسغا؛ أي عملية تنمية مستقبلية عربية، ولنتذكّر بأن الاقتصاديات الكبرى في العالم نهضت على فتوحات العقل النقدي والفكر والفلسفة، ولنحدق ملياً في التجربة الألمانية واليابانية على وجه الخصوص، ولنبحث في مرجعياتهما.
بالعقل الثقافي النقدي وحده ننهض، وبه نتسلح ونحن نلج خضم مستقبل مدجج بأدوات التفوق والنبوغ والمفاجأة.
السبت أبريل 22, 2017 6:53 pm من طرف ترنيمة الألم