اطلعت على المقالة الملفتة التي نشرها الأستاذ حمود حمود في الأوان بعنوان: هل كان محمد عبقريا؟ وبما أنه ورد فيها اسمي أكثر من مرة فإني أنتهز هذه الفرصة لتوضيح بعض النقاط والاستطراد على ما كتبه.
أولا: أرجو من القراء الكرام عدم الاطلاع بعد اليوم على دراستي "بين العبقرية والجنون" إلاّ من خلال الموقع التالي: www.jamaliya.com.
وقد وردت تحت هذا العنوان: "بين العبقرية والجنون : دراسة فلسفية". بالطبع
أشكر جميع المواقع الأخرى التي نشرتها عن حسن نية بدون علمي أو اتصال بي.
ولكن المشكلة هي أنها مليئة بالأخطاء المطبعية بل ومشوهة أحيانا بسبب هذه
الأخطاء الفاحشة. والذنب ليس ذنب هذا الموقع أو سواه وإنما تقع مسؤوليته
علي وحدي لأني لم أكن قد صححتها بعد وأكملتها. وينبغي التنويه هنا بأن
مقالة "جنون العباقرة"
المنشورة مؤخرا في الأوان ليست تلخيصا للمقالة السابقة كما قال الأستاذ
حمود حمود وإنما تكملة لها. وقل الأمر ذاته عن مقالة سابقة نشرت تحت
عنوان: "عباقرة على حافة الهاوية". وهناك مقالات أخرى عن نفس الموضوع سوف
تجيء لكي تشكل كتابا كاملا في نهاية المطاف.
ثانيا: عندما قلت
بأن العبقرية هي سر الأسرار لم أكن أقصد بأنه يُمنع طرح أي تساؤل حولها أو
أي محاولة فهمها. وإنما قصدت فقط انه يستحيل استنفاد فهمها كليا لأنه يبقى
فيها شيء ما يستعصي على التفسير في نهاية المطاف. لم أكن أقصد إغلاق البحث
العلمي على الإطلاق، وإنما فقط إلى تبيان عظمة العبقرية والعباقرة. أردت
القول بأن فيهم سرا أو جاذبية هائلة أو تحيط بهم هالة سحرية (كاريزما) لا
نعرف كنهها بالضبط. وليس من الضروري أن نستنفد تفسيرها لأننا إذا ما
استنفدناه تبخرت. هل يمكن تفسير الحب؟ ربما كان غلطة، ولكنه أجمل غلطة في
العالم. يقول جان كوكتو بعد أن قرأ قصائد رامبو العبقرية: لقد سرق رامبو
جواهره من مكان ما. ولكن من أين؟ لا أحد يعرف.
ثالثا: ليسمح لي الكاتب الكريم بأن أعترض اعتراضا شديدا على العنوان: هل
كان محمد عبقريا؟ اعتراضي يخص بالدرجة الأولى إشارة الاستفهام. بالطبع كان
عبقريا وإلا لما نجحت نبوته وفشلت نبوات كل الآخرين المعاصرين له أو
السابقين عليه في شبه الجزيرة العربية من أمثال مسيلمة الكذاب وسواه. محمد
يشكل إحدى العبقريات الدينية الكبرى في تاريخ البشرية بالإضافة إلى موسى
وعيسى وبوذا ولوثر وباسكال الخ..كيف يمكن لشخص شكل دينا عالميا يؤمن به
حوالي الملياري شخص ويخلع المعنى المليء على وجودهم ويفعم قلوبهم بالأمل
بالحياة بعد الموت ألا يكون عبقريا ملهما؟ لقد استطاع تأسيس دين جديد
وتوحيد العرب عقائديا قبل أن يوحدهم سياسيا ويشحن بهم التاريخ ويدفع بهم
إلى فتح العالم وتأسيس واحدة من أعظم الحضارات. أليست هذه عبقرية؟ لقد جمع
بين العبقريتين: العبقرية الدينية والعبقرية السياسية: معجزة حقيقية، ضربة
معلم!.. وبالتالي فعظمة محمد خارج النقاش. والخطاب القرآني إذا ما تموضعنا
في لحظته التاريخية وطزاجته الأولية، أي في القرن السابع الميلادي وفي شبه
الجزيرة العربية، يشكل حدثا صاعقا بكل ما للكلمة من معنى. إنه يشكل
"إشعاعا ذريا" أضاء سماء الحجاز والجزيرة العربية بإشراقة واحدة، وهز
العرب هزا. لهذا السبب صدم معاصريه آو بهرهم بهرا. الآن نحن نراه عاديا
بعد أن مرت عليه القرون المتطاولة وبعد أن دجنته الأرثوذكسية وطمست
عبقريته أو حولته إلى قانون قسري قمعي مفرغ من كل روح، أو انفتاح على
المطلق أو حرية. لقد انقلب إلى عكسه. انظر كيف يختزلون القرآن إلى مجرد
تقطيع الأوصال وتطبيق الحدود وفرض الجزية وكل أنواع المنع والقمع والزجر
والجلد والرجم غير الوارد فيه أصلا..انظر رجم الطالبان في أفغانستان مؤخرا
لرجل وامرأة حتى الموت بتهمة الزنا. وانظر أيضا ما قد يحصل لامرأة أخرى في
إيران.. هنا يصبح "نقد الوحي المحمدي" كما يقول حمود حمود ضروريا وإلزاميا
أو قل نقد فهمه الخاطئ واللاتاريخي. فالرجم ليس قرآنيا ولا ينبغي أن يمارس
بهذا الشكل الوحشي الذي ينفر البشرية المتمدنة كلها من الإسلام والمسلمين
ويشوه سمعة هذا الدين الحنيف في شتى أنحاء العالم.
أما في وقته فقد كان القرآن يعتبر تفجيرا لكل الدين العربي أو المقدس
العربي السابق عليه والراسخ كل الرسوخ في العقلية الجماعية. والدليل على
ذلك معارضة القرشيين الشديدة له في البداية. من هنا الطابع الانقلابي
والثوري لشخصية محمد التاريخي أي الحقيقي. من هنا ضخامة المهمة التي تصدى
لها. من هنا أيضا جرأته الهائلة التي لا تكاد تصدق عندما قرر تفكيك المقدس
السابق وإحلال مقدس آخر محله أو على أنقاضه. وهنا تكمن إحدى صفات العباقرة
الأساسية: النزعة الانقلابية التي تكاد تزحزح الجبال.. ثم الجرأة على
الاقتحام في اللحظة المناسبة. ولكن البعض يعتبرها منحة إلهية أو هبة
ربانية. لم لا؟ يضاف إلى ذلك أن القرآن يحتوي على قيم أخلاقية وتنزيهية
عالية إذا ما عرفنا كيف نقرؤه ونفرز العرضي فيه عن الأبدي الخالد. لكن
يبقى منظور حمود حمود التاريخي في مقاربة الوحي صحيحا ولا غبار عليه. وان
كان يتسرع أحيانا باستخدامه لعبارات فجة صادمة لحساسية "المؤمنين" أكثر من
اللزوم.
إنّا فتحنا لك فتحا مبينا: عندما تلفظ محمد بهذه الكلمات كان يعرف أن
أزمته الداخلية المستعصية قد انحلت وأنه أصبح قادرا على فتح العالم أو
الجزيرة العربية على الأقل. كم هو حجم الآفاق الوردية التي انفتحت أمامه
عندما نزلت عليه هذه الآية؟ كم شعر بالتحرر والانعتاق: انعتاق الروح من
أسرها؟ والأزمة النفسية إما أن تنفجر فيك من الداخل وتدمرك لأنها لم تجد
لها منفذا أو مخرجا طبيعيا، وإما أن تلقى لها قناة للتصريف في الخارج
وعندئذ تتحول من نقمة إلى نعمة، أو من شر مستطير إلى خير عميم. وهذه هي
حالة محمد وكل العباقرة الكبار فهم مفعمون بحب الخير وتحقيق انجاز عظيم
على هذه الأرض يخلدهم، أو يبرر عبورهم، ويكون مفيدا للبشرية. فيما بعد قد
يتحول هذا الإنجاز إلى جمود أو أرثوذكسية خانقة بل وحتى إرهابية. وهذه هي
حالة الإسلام اليوم. انظر الشيخ البوطي أو سواه..انظر كيف يهاجم المخرج
المحترم نجدت أنزور ويذكرنا بمحاكم التفتيش القروسطية السيئة الذكر. ولكن
عندئذ ينبغي أن نفعل ما فعله كل المصلحين والفلاسفة الكبار في وقتهم: أي
تفكيك الانغلاقات التي تراكمت على مدار التاريخ وأصبحت تسد الأفق بعد أن
أدخلتنا في عتمة خانقة أو ظلام كثيف. انظر الانسداد الهائل الذي يعاني منه
المسلمون اليوم على كافة الأصعدة والمستويات. وهو انسداد روحي أو أخلاقي
أو ديني بالدرجة الأولى. فالعلة دينية قبل أن تكون سياسية أو اقتصادية أو
اجتماعية. وبالتالي فالإصلاح الديني أو التنوير الديني له الأولوية القصوى
بالنسبة للعالم الإسلامي. الروح العربية الإسلامية مقيدة بالأغلال
والأصفاد، وتئن تحت ضغط القشور والتراكمات التي تعتبرها مقدسة. المقدس
نفسه علاه الصدأ!.. ولكن كما فكك النبي محمد الدين العربي السابق عليه نحن
مدعوون الآن لتفكيك الانغلاقات التراثية التي خلفها لنا الفقهاء القدامى
بعد أن تحولت إلى تراكمات استلابية أوعقبة كأداء في وجه التطور والتقدم.
وهذا التفكيك سوف يشمل الجانب السلطوي من القرآن نفسه. فالقرآن قرآنان:
واحد منفتح (مكي عموما) والثاني منغلق عنيف ضد الآخرين(مدني عموما). نحن
أيضا مطالبون ببناء مقدس جديد ولكن علماني هذه المرة: انه مقدس الحداثة
الإنسانية الفلسفية التي تتجاوز كل الأديان التقليدية وتتسع أحضانها
للجميع بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم،تدينهم أو عدم تدينهم.
وكما أن النبي محمد أدخل العرب في حداثة زمنه، أي دين التوحيد،عن طريق
صياغة عربية عبقرية هي القرآن ووحد العرب المشتتين، فإننا مطالبون اليوم
بإيجاد صياغة عربية مناسبة لدخول الحداثة واستيعابها في أفضل ما أعطته
وأنجزته طارحين شططها وانحرافاتها وقشورها. فالحداثة الكونية هي دين
العالم الجديد. وهي تتجاوز الأديان التقليدية التي لا تعترف إلا بأتباعها
أو المؤمنين بها نابذة الآخرين كل الآخرين أو مكفّرة لهم أو حارمة إياهم
من نعمة الله. الحداثة الكونية التنويرية لا يهمها فيما إذا كان الإنسان
مسلما أو مسيحيا أو بوذيا أو شيعيا أو سنيا الخ.. وإنما يهمها كونه إنسانا
وحسب: أي إنسانا صالحا يؤدي واجباته تجاه المجتمع على أفضل وجه ويحاكم على
أفعاله لا على تدينه أو عدم تدينه. فالإنسان قيمة بحد ذاته بغض النظر عن
مشروطياته العرقية أو الطائفية. وهذه فكرة جديدة كانت تشكل اللامفكر فيه
أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة للاهوت الديني القديم الذي لا يزال سائدا
ومسيطرا على العالم الإسلامي والمسيحي الشرقي. ولم تتحرر منه حتى الآن إلا
المسيحية الغربية المستنيرة. انظر هانز كونغ وقارن بينه وبين البوطي مثلا:
لاهوت الحداثة آو ما بعد الحداثة في مواجهة لاهوت القرون الوسطى!..لذلك
قلت أكثر من مرة بأننا متخلفون دينيا آو لاهوتيا وليس فقط تكنولوجيا أو
علميا.
أما فيما يخص الحالة النفسية للنبي فاننا لا نخترعها اختراعا وإنما هي
منعكسة في القرآن الكريم نفسه. فهو مضطر في أكثر من آية إلى رد التهمة عن
النبي والقول بأنه ليس شاعرا ولا مجنونا ولا ساحرا ولا كاهنا. فلو لم تصدر
اتهامات ضده بهذا الخصوص من قبل القرشيين لما اضطر إلى دفع التهمة بمثل
هذا الإلحاح والاستنكار.
وما صاحبكم بمجنون(التكوير.22)
ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون(الدخان.14)
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون(الطور.29)
وقالوا مجنون وازدجر(القمر.9)
قالوا ساحر أو مجنون(الذاريات.52)
ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير(سبأ.46)
الخ..
لو كان محمد ذا تصرفات طبيعية مثل بقية البشر لما ركزوا كل هذا التركيز
على طبيعته النفسية. ولكن هل يمكن لنبي أن يكون طبيعيا؟ هل يمكن أن تكون
تركيبته النفسية كعموم البشر؟ مستحيل. وإلا لما أصبح نبيا. وأصلا من
"الجنون" أن تواجه المجتمع كله وتسخر من دين آبائه وأجداده كما فعل محمد
وكما فعل سقراط ويسوع من قبله أو لوثر وروسو من بعده. إذا لم تكن عندك
جرعة "جنون" كافية فانك لن تتجرأ على مثل هذا الاقتحام والتحدي. ولكن أقول
وأكرر القول بأن الإنسان يصبح نبيا أو عبقريا بمجرد أن ينتصر على أزمته
النفسية الضارية التي تفتك به من الداخل. وإلا فانه يصبح مجنونا بالفعل.
وبالتالي فعلى شعرة بسيطة يمكن أن يقلب في هذه الجهة أو تلك. انظر مقولة
ألتوسير عن ميشيل فوكو وعنه هو بالذات: "كنا نمشي على خيط رفيع جدا جدا،
هو نجا في آخر لحظة وأنا هويت".. وبالفعل فوكو استطاع الانتصار على جنونه
الداخلي عن طريق ضربة إبداعية خارقة. ولكن ألتوسير فشل فغطس كليا في ليل
الجنون.. العبقري إذن يروض جنونه الداخلي أو يدجنه وينتصر عليه بمجرد أن
يبدع كونا جديدا وآفاقا لم تكن في الحسبان. عندما يتوصل إلى انجاز عظيم في
مجال الدين أو الفلسفة أو الشعر أو الموسيقى أو خدمة المجتمع الخ فان
الجنون يصبح مُحيّدا أو مُقلم الأظافر على الأقل.
رابعا: في كتابي المقبل عن "مارتن لوثر والإصلاح الديني في أوروبا" سوف
ألح كثيرا على أهمية المسألة النفسية في تشكيل العباقرة. فمن خلال قراءاتي
اكتشفت أنّ هناك تشابها حقيقيا بين شخصية لوثر، نبي الألمان، وشخصية محمد
نبي العرب.التشابه لا يعني التطابق بالطبع. ولكن كلاهما عانى معاناة هائلة
أوصلته إلى حافة الجنون قبل أن تنفجر أعماقه بالوحي وتنحل الأزمة. ولولا
أن العناية الإلهية حمتهما في آخر لحظة أو رأفت بهما لحصل ما لم تحمد
عقباه. وكلاهما شكل مفهوما جديدا عن المقدس أو الدين، هذا بالإضافة إلى
تشكيل أمة ولغة بأسرها.
خامسا: العباقرة من نوعية محمد أو لوثر أو روسو الخ يتميزون بخصيصة أخرى:
هي أنهم أفصح الخلق وأكثرهم بلاغة من حيث الأسلوب لأنهم ينفجرون بالكلام
انفجارا ومن أعماق الأعماق وضد الظلم والطغيان والفساد. من هنا جاذبيتهم
التي لا تقاوم. لهذا السبب كانت معجزة محمد الوحيدة هي القرآن. وكانت
معجزة لوثر هي كتاباته الملتهبة التي أشعلت ألمانيا وكل أوربا كالحريق.
إنها كالحمم الصاعدة من أعماق الأرض بانفجار البراكين. يمكن أن نقول الشيء
ذاته عن علاقة كتابات روسو بإشعال الثورة الفرنسية بشكل مباشر أو غير
مباشر. بالطبع كتابات لوثر بالنسبة للمسيحي الأوروبي الحالي المتعلمن
الحديث تعتبر عادية جدا. ولكن يبنغي أن نتموضع في وقتها لكي ندرك مدى حجم
الشحنة التفجيرية الهائلة التي كانت تنطوي عليها.
سادسا: الشخصيات الكبرى في التاريخ هي عموما شخصيات إشكالية: أي معقدة
نفسيا أكثر من سواها، أو قل إنها مركبة بطريقة نفسية خاصة. فمثلا اكتشفت
أن الشخصيات الاستثنائية من نوعية محمد أو لوثر أو سواهما لا تخاف عندما
تحتدم الأمور وتصبح في مرمى الهدف أو في الدائرة الحمراء للخطر. فقط تخشى
من أن تُقتل قبل أن تكمل رسالتها أو مهمتها. وهي مستعدة لان تُقتل فقط من
اجل حقيقتها. إنها مسكونة بحقيقتها إلى حد الهوس. إنها أغلى عليها من
روحها. هذا الكلام ينطبق أيضا على القادة العسكريين أو السياسيين الكبار
من أمثال نابليون أو شارل ديغول..
سابعا: لم يكن جان جاك روسو يعاني فقط من عقدة الاضطهاد وإنما كان مضطهدا
بالفعل! وهذا ما حصل لمحمد أيضا قبل أن يقوى وينتصر.فقد كادوا أن يقتلوه
أكثر من مرة. وحصل نفس الشيء لكل الأنبياء والمفكرين الكبار. لا ينبغي أن
ننسى أن المسيح مات على الصليب، وان سقراط أجبر على تجرع السم، الخ. وهنا
تكمن صفة أخرى من صفات العباقرة: وهي أنهم يصبحون مهددين بالخطر في لحظة
ما من لحظات حياتهم وعندما تتفتح عليه الأعين وتعرف من هم. لذلك كان
ديكارت يقول بما معناه: الفيلسوف يتقدم على مسرح التاريخ مقنعا.لماذا؟
لكيلا ينكشف أمره مسبقا آو قبل الأوان فيقتلوه قبل أن يكون قد أدى مهمته.
وبالتالي فالعبقرية ليست كلها نعمة على صاحبها وإنما هي أيضا نقمة بل
ومصيبة آو قل هم كبير. فما أن يشعر الآخرون بعبقرية شخص ما حتى تبتدئ
متاعبه وتلوح المخاطر في الأفق.
أخيرا: سوف أقول كلمة عن "نقد الوحي المحمدي" بحسب تعبير حمود حمود.
بالطبع سوف يتعرض النص القرآني في السنوات القادمة إلى غربلة شاملة للكشف
عن تاريخيته وفرز الأبدي الخالد عن العرضي العابر فيه. القرآن عبارة عن
شبه سيرة ذاتية للنبي محمد لمن يعرف كيف يقرأ ويفهم فيما وراء السطور.ثم
بشكل أخص لمن يعرف كيف يتحرر من الصورة اللاهوتية القروسطية التي تهيمن
علينا أبا عن جد منذ مئات السنين. كل صراعاته ونضالاته وهمومه تنعكس فيه
بشكل مباشر آو غير مباشر. ولكن إذا كانت عملية الأرخنة هذه قد أجلت حتى
الآن في اللغات الإسلامية الأساسية وبخاصة في اللغة العربية فذلك لكيلا
يتزعزع الوعي الإسلامي في الصميم. فهو ليس مهيئا لها حتى الآن. انظر ردود
الفعل الغاضبة على بحث حمود حمود في "الأوان" ذاتها. نقول ذلك ونحن نعلم
كم أثار نقد الوحي الموسوي آو المسيحي في الغرب من معارك هائجة بين
العلمانيين واللاهوتيين على مدار ثلاثة قرون متواصلة. وبالتالي فالمعركة
عندنا أيضا ستكون هائجة ولن يسمح لنا الشيخ البوطي ولا غير البوطي أن
نقترب من هذه المنطقة المقدسة: قدس الأقداس.انظر كيف منعوا في بيروت ترجمة
جورج تامر لكتاب نولدكه الشهير: تاريخ القرآن. وهو أول محاولة جادة لربط
القرآن بالبيئة التي ظهر فيها والتاريخ والظروف.. المقاومة ستكون عنيفة
وشرسة مثلما حصل عندما طبق علماء أوروبا وفلاسفتها المنهجية
التاريخية─النقدية على نصي العهد القديم والعهد الجديد: أي التوراة
والإنجيل. أن تطبيق هذه المنهجية التاريخية واللغوية النقدية على المصحف
سوف يثير نفس الزوابع والعواصف أن لم يكن أكثر. وهذه هي أكبر وأخطر معركة
فكرية تنتظرنا في السنوات القادمة. وسوف تسقط فيها الضحايا بالآلاف ويسيل
الدم مدرارا. إني لألمح خلف الغيم طوفانا…