الثورات العربية ومشروعية التساؤل مشروعية التساؤل
الداء هو الدواء
المعطى الأكبر
الخاتمة
تتفق
كثير من الآراء على أن ما نشهده من حراك سياسي وثورات شعبية على مستوى
العالم العربي لا مثيل له في التاريخ. إننا نعيش بالفعل أوقاتا مثيرة
ولحظات تاريخية تتبدل فيها الأدوار بين الإنسان الفرد والمجتمع، وبين
الشارع والحكومات، وتتغير فيها موازين القوى بين هرم السلطة وقاعدته،
ويحاسب المحكومون الحكام.
فنحن لا نشهد
شعبا يزيح من ضعفت سلطته لمصلحة من قويت شوكته، وإنما نقرأ تحولا في
منظورات الفكر السياسي الكبرى، التي حاولت أن تقدم تفسيرات تقيمية للثورات.
إننا أمام وجه جديد للحقيقة التاريخية؛ وجه، ربما اعتبره البعض أعظم إنجاز
سياسي في أكثر سنوات العالم العربي إحباطا.
لقد
قامت هذه الثورات كخطوة لاستعادة التوازن الإستراتيجي إلى الخيارات
الوطنية والقومية بعيدا عما تدفع إليه الحقائق القديمة من ذرائعية ومبررات،
ورغبة شعبية جياشة في إقصاء حالة العجز، التي كانت تعزز المخاوف من اقتحام
المجهول لدى الشارع العربي.
وليس ثمة ما
هو أصعب من محاولة القفز إلى المستقبل دون تبين للأبعاد المراد القفز
فوقها، أو المسافة المطلوب قطعها، وقبل ذلك وبعده، صِحَّة الإعداد الأمثل
للتقدم إلى الأمام. لأن قراءة، أو توقع، شكل النظام القادم في الدول
العربية الملتهبة بالثورات، بل تصور سؤال المستقبل فيها، أمر شديد الصعوبة
والخطر.
مشروعية التساؤل
إن
التساؤل يستبطن غالبا الإجابة من حيث تحديد أفقها، واحتمالاتها، ومن حيث
موضوعها. لأنه يضبط مسبقا فضاء الإجابة، بل إنه يخلق الإجابة من حيث إمكان
مقاربتها وتوفير إطار لنشأتها وتطورها.
إذ
أن التفكير في التساؤل هو تفكير محدِّد ومهئّ لاحتمالات الجواب وفضائه،
وأهميته من حيث مشروعيته المنطقية والواقعية، ومن حيث مساهمته في صياغة
قياسات مفاهيمية معيّنة، وتحديد الملامح العقلية وتوجهاتها. إذ يعبّر
الجواب، بهذا المعنى، عن الانخراط والارتهان المسبقين لفضاء تشكلت ملامحه
من خلال هذا التساؤل المطروح، بمعزل عن الفروض والاستنتاجات.
وإذا
استطعنا أن نترجم التساؤلات البديهية عن الثورات العربية إلى تساؤلات
سياسية، فيمكن أن نقول: هل كل ما بشرت به هذه الثورات كفيل بإيقاف عجلة
الظلم والفساد وضمان صنع مستقبل أفضل للشعوب العربية؟
ولا
شك أن الإجابة التي ستبرز تجاه هذا التساؤل، وأخرى غيرها، ستساعد على
بلورة المبادئ والنظريات المناسبة لتطوير وتحسين هدف هذه الثورات, لأن
السؤال الأساسي يعود إلى وضع اليد على الضابطة، التي من خلالها نستطيع
معرفة المسائل المطلوب معالجتها، وتمييزها عن مجرد المطالبة العشوائية
بإسقاط النظام.
والسؤال المطروح في الوقت
الحالي هو: إلى أين يحملنا المشهد الثوري العربي؟ وللإجابة عن هذا السؤال
لا نريد إثبات صحة الأطروحة القائلة إن الثورات العربية هي نتاج فعل الشباب
فقط لا غير، لأن هذا الزعم، الذي يقترب من الحقيقة ولا يستقصيها جميعا،
سيدخلنا في إشكاليات يصعب التعامل معها حول طبيعة الدولة والحكومة التي
يريدونها.
فقد شهدنا بأن مجتمعات الشباب
الافتراضية في الدول العربية أنجزت الكثير لإنجاح هذه الثورات، إلا أن هذه
المجتمعات مبعثرة في فضاء هلامي معقد تتداخل فيه الكثير من المعادلات
والتنوعات، والفئات العمرية، والقوى الاجتماعية والسياسية. وسيفضي بنا
الركون إلى هذا الافتراض وحده إلى تجاهل قوى المجتمع الحية الأخرى، خاصة
القوى الحزبية والنخب السياسية ذات الخبرة والدربة.
لهذا،
فإن الإجابة التي تغفل هذه الحقيقة ستظهر مواقف متعارضة، تتميز بتناقضات
ذاتية وقصدية، وتوجهها جملة من الدوافع الكابحة لإيجابية التغيير وتمامه،
الذي يجب أن يستهدي، بجانب حماسة الشباب، بخبرات النخب السياسية وتنظيمات
قوى المجتمع الحزبية والمدنية.
إذ أن
الظاهرة الافتراضية، التي نشأت في الفضاء الرقمي العام، لا يمكن أن تكون
البديل لهذا الواقع المُتَشَكِّل في المجتمعات العربية، لأنها ببساطة ذات
طابع معنوي فضفاض؛ ومن الصعب قياسها وضبط التعبير عنها، في حين أن التغيير،
باتجاه إدارة أجهزة الدولة، يتطلب عمل المؤسسات.
الداء هو الدواء
على
الرغم من أن المتتبعين لحركة الثورات العربية يعترفون بأن أزمة الحكم،
وأزمة الأحزاب والقوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والنخب،
والمثقفين، والمؤسسية، في مجملها، هي أعراض لمرض حقيقي، قبل هذه الثورات
وبعدها، لأنها هي مقدمات الضعف، وبوادر التصدع في البنى الأساسية للدولة
ونُظمها.
ولكن هذا لا ينفي مطلقا ضرورة
استصحاب هذه الفعاليات والآليات في إدارة الشأن العام في المرحلة المقبلة.
كما لا ينفي السؤال الذي يقفز إلى الذهن، ويكون ملحاً على الإجابة، وهو:
متى كان الإحساس بالأزمة؟ وأين يقع مصدرها؟ وما هي النتائج التي ترتبت
عليها؟ ولماذا تأخر التحرك الشعبي كل هذا الوقت؟ ولماذا الشباب قبل الشيوخ؟
وهل قدمت الثورات العربية الحل؟ وما هي الجدوى المستقبلية للتغيير؟ وما
إذا كان مجرد الانعتاق من ربقة عهود الحكم الجاثمة على صدر الشعوب سيكون
خيرا كله، بغض النظر عن تصرفات القوى الحية في المجتمعات العربية؟
وقد
لا يهم كثيرا، في هذه الفاصلة التاريخية، إذا اختلفت الأجوبة، وتباينت
الإيضاحات، وتعارضت التفسيرات، لأن هذه وأمثالها أسئلة منطقية لابد أن
يواجهها الجميع، لأنها تتعلق بالجميع؛ إنها قضية مستقبل الإنسان العربي،
ولا بد لكل فرد أن يبحثها على نحو ما، لأنه، وفي كل عملية مهمة من أعمال
الحياة، لا بد أن يقفز الأفراد فوق مشكلاتها المعقدة، بتقدير أن التفرج على
عجز الفرد، وقصور المشاركة، أمارة سلبية لا أثر للإيجاب فيها.
لهذا،
لا ندعي هنا الإنابة عن أي إنسان في الإجابة عن هذه الأسئلة، لأن أنظمة
الحكم متعددة وغير متشابهة، والمجتمعات العربية طالها انقسام الحالة
القُطرية، فباعد بين أحكامها ومعايير قياساتها للأشياء والأحداث، التي قد
تسهل، نسبيا، محاولة هذه الإجابة إذا حاكم بها هذا الإنسان واقعا يعيشه،
وهو جزء من تركيبته، وبعض من تاريخه، ويمارس الشهود على حاضره وحركة مده
وجزره. ولكن عندما يكون البحث عن إجابة هذه الأسئلة في تضاعيف واقع آخر،
وتفسير كنه الأزمة في دولة أخرى، فإن الموضوعية تقتضي، أولا، التخلي الطوعي
عن الكثير من التصورات والأحكام السابقة، التي لونت النظرة العامة للآخر
القريب والبعيد. والتنازل، ثانيا، عن كل تراكمات الماضي في مستوى الفكر،
ومؤثرات الصور النمطية، والتي عززتها قيود الحدود القطرية بين الشعوب
العربية.
ولهذا، فإن إمكانية الإجابة عن أي
نحو معقول، وفك رموز مسألة على هذا المقدار من السعة والتنوع، تحتاج إلى
منهج خاص في التناول، وطريقة مبتكرة في المعالجة. لأن مسبباتها لم تجابه،
على ما يبدو، بطريقة نقدية مستقلة من قبل.
وإذا
جرت مجابهتها، فإما أن الجهل والغرض والتحيز كان يرافق وسائل معالجتها في
الماضي، أو أن الإمساك بالقضية من طرف واحد، أو من باب المقارنة المبتسرة
بين الحالات العربية، كان يتم بطريقة مخلة وناقصة، وفي أحيان كثيرة، غير
موضوعية.
وأياً كانت المعايير، أو زاوية
النظر، التي نقيم بها حصيلة الثورات العربية، فبالنسبة للكثيرين يبدو أن
التفاؤل أمر في تمام الوضوح. من هنا، فإن أي تساؤلات، في هذا الوقت المبكر،
عن مستقبل هذه الثورات، نخشى أن يؤخذ، أو يبدو ليس فقط رجما بالغيب، وإنما
رجما لهذه الثورات من حيث لا نحتسب، ولا نرغب. وذلك تحسبا لخوف البعض من
أن ينتج عن هذه التساؤلات، حالة تشويش، ربما تقود في نظر البعض للتشويه،
وتحفز على الطعن في النوايا، وتبرر لرافعي ألوية المعارك الوهمية خوض غمار
حرب كلامية ضد المخالفين.
رغم أن التساؤل
أمر مشروع، وجوابه على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أنهما لا يمكن أن
يختزلا، في هذه اللحظة التاريخية، في مجرد استفسار ورد، أو صيغة تركيبة
لغوية فقط، وإنما لهما وظائف ودلالات تتجاوز الاختزال اللّغوي إلى الإطار
المفاهيمي، وتؤثران على الأنماط السلوكية للفرد والمجتمع، والمؤيدين
والمعارضين لهذه الثورات.
والشاهد على ما
نقول، ارتباك الأقلام واصطكاك أسنانها، كلما حاولت العبور من حالة الابتهاج
بالثورات إلى مرحة التوفر على إجابات للأسئلة الكثيرة، التي تكتنف مسيرتها
وتقرر وجهتها، خاصة فيما يتعلق بالثورات غير السلمية، التي تزهق فيها
الأرواح في ليبيا وسوريا واليمن.
وللخروج
من هذه الوهدة، وعبور الحرج في هذا المنعطف، فلا بد من النظر في موضوع
الأزمة من خلال رصد بعض المعالجات الفطنة، التي ينبغي أن يتكفل بها النخب
والمثقفون والمفكرون ومراكز البحث والجامعات المعروفة، الذين عليهم جميعا
شحذ العزم والهمة، والمبادرة للغوص في عمق القضايا. والمناداة على القوى
الحية في المجتمعات العربية للجهر بصوتها حول الأزمة، والعمل على تمييز
أصوات مفكري كل بلد عربي يئن تحت وطأتها، من الذين تناولوا قضية وضع بلادهم
الخاص بالجرح والتعديل. ومن ثم، التبادل الذي يثري الفكرة ويُسَرِّع
المعالجات لمصلحة الجميع.
المعطى الأكبر
لقد
أيدنا الثورات الشبابية من أجل التغيير الإيجابي في الدول العربية، بعد أن
أدركنا جميعا أن غياب العدل خلف انحرافات سياسية وأخلاقية وإنسانية كبيرة,
كان أبرزها، إلى جانب تعثر مشروع الوحدة، غياب مفهوم الدولة والحكومة
والوطن والمجتمع والأمة والنظام, وتجذر ظاهرات الحكومات القُطرية العاجزة،
وعموم الفوضى والاضطراب في النظام السياسي والاجتماعي, الذي قدم الذرائع
وفتح الأبواب أمام كل المؤامرات والمخططات المشبوهة، التي استهدفت تفكيك
روابط الوطن العربي, ومنع تماسكه، وقطع الطريق أمام وحدته وقوته.
وقد أبنا في مقال نشر يوم الأربعاء 6/4/2011 بموقع "مركز الجزيرة للدراسات"، بعنوان: "الثورات العربية ومخاض الوحدة الطويل "، أن
هذه الثورات هي حراك جمعي خلاق للشارع العربي، ومواجهة شاملة مع الماضي
المُقْعِد. وهي قبل كل شيء، لحظة تاريخية فارقة؛ سياسيا وثقافيا، وَلَّدَتْ
في العالم العربي فكرة الوحدة العربية من جديد، وبقيادة الشعوب العربية
نفسها هذه المرة، بعد أن خذلتها النخب، وأجهضها القادة.
بيد
أن الذي نطلبه من هذه الثورات هو التغيير، الذي يختلف عن مفهوم الفتنة
والصراع، أو كما في ثورتي تونس ومصر، رغم أنهما أزاحتا الرئيسين وغيرتا
الحكومتين، ولكنهما لم تتسلّما السلطة في الحالتيْن، ولم تقتلعا النظامين
في البلدين. وربما كان لهما في ذلك بعض الحق، أو كثيره، لأن الثورة
الحقيقية تنبع من الهم العام، الذي يكره الظلم والفساد، لا الخصومة مع
ممسكات الدولة، ولا الرغبة في فض عرى مؤسسات المجتمع ونقض نسيجه.
وقد
تساءلنا كثيرا عن حدود ومغزي شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وعما إذا
كان الناس يريدون إسقاط الحكومة أم تفكيك النظام، الذي سيؤدي حتما لانهيار
الدولة، وانفراط عقد المجتمع. لأنه مهما كان مدى التماهي بين الرئيس
ونظامه، فقد وجب بعد ذهابه التفريق بينه ومختلف مؤسسات الدولة وأجهزتها.
كما
وجب التفريق بين الثورة والأزمة والانقلاب والفتنة، لأن الأزمة والفتنة،
اللتين تعيش مظاهرهما ليبيا وسوريا واليمن، هما حالتان تصفان فترة حرجة غير
مستقرة، قد تترتب عليها نتائج خطيرة، وتنطويان على تهديد جدي للأهداف،
التي تقوم من أجلها الثورات، وقد لا تكافئ النتيجة الثمن، الذي يدفع الآن
من أجلها.
وربما يحمد لثورتي تونس ومصر
أنهما أجابتا بضمير العاقل لا عجلة المنفعل برغبة المفاصلة الكاملة مع
الماضي، مع إصرارهما على إكمال مسيرة الإصلاح. إذ أنه إذا انهار النظام
بضربة لازب، فلن نكون أمام أزمة فحسب، بل أمام فتنة، تنقلب فيها الرغبة في
التغيير إلى تمرد يمتهن التدمير.
لذا، فإن
اعتماد منابر الحوار، لا استمرار التظاهر، هو مطلوب اللحظة في تونس ومصر
لمعالجة أي قصور يقف عقبة أمام هذا التغيير، خاصة بعد أن صارت المنابر حرة
ومتاحة.
الخاتمة
إن
تشخيص أزمة الحكم العربية لم يكن بسهولة وصفها، ولم يكن أبدا بالمهمة
اليسيرة، ولا بالنزهة العقلية المريحة. ذلك، لأنه لم يكن هناك اعتراف من
قبل الحكومات بهذه الأزمة، ولم تكن هناك حرية للتعبير عنها بطريقة تمكن من
قياسها بالمعايير المادية، ومن ثم تشخيصها، وحساب نتائجها، ومعالجتها، وفقا
لذلك.
وموضوع الاتفاق الآخر هو أن للأزمة
أشكالا تختلف باختلاف البلدان العربية، وإن تشابهت في سماتها العامة. وجلها
كان يتبدى في شكل احتقان يتطلب وقفات للمراجعة، التي هي في غاية الأهمية
بالنسبة لقيمة المعرفة، والتي مثلت تمظهراتها حذر الإنسان مما ينتظره عقله،
حينما تبدو الوقائع صريحة وصارمة. ويتضح عجز الفكر، ومناهج المعرفة
الحاضرة، عن إنقاذ الواقع المأزوم.
وقد تكون
بعض الحكومات العربية، بضغط من الثورات، وفي سياق رغبتها في الاستمرار، قد
قامت بإجراء إصلاحات لحسم بعض القضايا والاستجابة لبعض المطالب، ولكن أزمة
مشروعيتها، بما أنها أدق وأعمق، وبما أنها، من حيث طبيعتها وتجلياتها،
تتلبس الظواهر الأكثر تعقيدا، والأشد خداعا، لأن إجراءاتها ترتبط بمجموعة
القيم والمفاهيم والقوانين الناظمة لسلوك الحكم، ولأن تجريدياتها تحدث في
مملكة الإخفاء ذاتها، داخل عقل السلطة.
لهذا،
فإن هذه الأزمة تمنعت، وتعصت عن إظهار المرحلة التي بلغتها في المجتمع،
وفكر الدولة العربية المعاصرة، واستدعت كل هذه الثورات والانتفاضات؛
السلمية والمسلحة.