فاتحة
إذاً - بناء على ما أسلفت في المقالة السابقة من هذه الأطروحة - ثمة تهويم فيما يتعلق بموضوعة الإلحاد في الأردن، نظراً للخلط الحاصل من قبل المُتدينين، بين الإلحاد بصفته موقفاً عدمّياً من الإله على الإطلاق، وبين نقد الخطاب الديني الإسلامي. فالوسم بالإلحاد يتم إلصاقه بالناقدين للخطاب الديني، وليس للملحدين، بما يضع هكذا خلط في محارجات إبيستمولوجية. ففي الأساس ليس ثمة إلحاد بمعنى إلحاد في الأردن، كما يروّج أتباع الخطاب الديني. لكن السؤال المحوري هَهُنا:
كيف يتم استحضار كلمة ذات حمولة سلبية في الذهن الجمعي الأردني (= إلحاد)، إلى دائرة السِجال الدفاعي عن الخطاب الديني الإسلامي، وإلصاقها من ثمَّ، بأناس غير مُلحدين أصلاً؟.
الجزء الثاني؛ أو في التهويل حول الإلحاد
اقتضاء لواقع التهويم الذي يحيط بموضوعة الإلحاد في الأردن، واعتبار الناقد للخطاب الديني السائد، مُلحداً؛ فإن المقاربة الأفضل والأكثر جدوى في مجتمع مُتديِّن كالمجتمع الأردني، هي المقاربة التهويلية لكلّ من ينقد الخطاب الديني الإسلامي. ولكي تؤتي هذه المقاربة تأثيرها (في/ على) المجتمع، لا بُدَّ من اللجوء إلى مفردة (إلحاد)، لما تتمّتع به من سمعةٍ سيئةٍ لدى الأردنيين - لربما كانت كلمة سيئة في عموم البلاد العربية والإسلامية -، فهي الكلمة التي يمكن للجماهير المُتدينة أن تنفعل تجاهها انفعالاً سيكولوجياً فورياً، نظراً لموقعها السلبي في العقل الجمعي، فهي الكلمة التي ستُفقد المجتمع ليس قيمته الروحية فحسب، بل وتهدّد استقراره الاجتماعي والنفسي والثقافي والاقتصادي...إلخ. لذا يتأتّى استخدامها في مجتمع يعتمد اعتماداً شبه كُلّي على ردّات الفعل في موقفه الديني (المُتعاطف مع حاملي لواء الدفاع عن هذا العتاد الروحي الكبير، والرافض رفضاً قاطعاً لمنتقدي خطابه الديني)، استخداماً عبقرياً على المستوى السيكولوجي، حتى وإن أتى استخدامها ضمن سياق السِجال الإبستمولوجي، استخداماً اعتباطياً لا معنى له على المستوى المعرفي. فالحامل ليس من جنس المحمول، لكن تقديرات الموقف من الناحية السيكولوجية تجعل من استخدام هذه الكلمة تحديداً، استخداماً ذكياً في مجتمع انفعالي، ولا حظّ فيه - إلى حدّ كبير - لسياقات الفعل المعرفي.
إنّ كلمة مثل كلمة إلحاد، هي بمثابة الصاعق الكهربائي في مجتمع مُتديّن كالمجتمع الأردني. لذا يُلجأ إلى هذه الكلمة تحديداً، لإحداث تفجير هائل، في البِنى المتعدّدة، التي يخضع الملحد لمنظومتها، لكي يكون عبرةً لغيره من المُلحدين!:
1- سيكولوجية؛ وذلك بإشاعة الخوف بين جنبي من يُعتبر ملحداً، وتضخيم جُرمه الذي يستلزم عقاباً كبيراً.
2- اجتماعية والتهديد بالنبذ الاجتماعي، لا سيما من أقرب الناس إليه.
3- اقتصادية؛ وذلك بتهديد مصدر رزقه، والضغط باتجاه فقدانه لوظيفته إذا ما استمر على ما هو عليه من فسق وفجور.
4- قانونية؛ وذلك باللجوء إلى المحاكم وإصدار أحكام قانونية ضدّه في حالة تمّ تجريمه.
5- جسدية، قد تصل إلى حدّ القتل، لكن لم يشهد المجتمع الأردني - عكس بعض المجتمعات العربية أو الإسلامية الأخرى - حالات تصفية جسدية حتى الآن، بناء على موقف سلبي من (الدين/ التديِّن) الإسلامي.
ثمة كلمة أخفّ وطأة من مفردة إلحاد، ألا وهي كلمة (علمانية)، تستخدم في السجالات السيكولوجية الدينية؛ فالعلماني مثل عشبة ضارة في حديقة المجتمع المتدين. وعادة ما يتم اللجوء إلى هذه الكلمة في حال أريد التشهير بالناقدين للخطاب الديني. لكن تبقى الأَثَرَة والغلَبَة في هكذا سجالات هي لكلمة (إلحاد)؛ فهي ليست مجرد عشبة ضارة، بل هي دناسة عقلية بالدرجة الأولى؛ فالمجتمع الذي تربّى على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ها هو يُستهدف من قبل أناس لا دين لهم فقط، بل إنهم يسعون إلى هدم أركان المعمار (المادي/ الروحي) الذي يعيش فيه المسلم الأردني، عيشة الاطمئنان الأبدي.
إذاً، نحنُ أمام معادلة يمكن اختصار شفرتها على النحو التالي:
1- خلط بين مصطلح الإلحاد ومفاهيميته، أو ما اصطلحتُ عليه آنفاً بـ "التهويم حول الإلحاد في الأردن".
2- مجتمع انفعالي فيما يتعلق بموضوعة (الدين/ التديّن)، فهو يعتمد على الكُلّيات، لا على تفكيك الجزئيات، لذا تؤخذ كلمة ملحد كـ (كُلّ) سيكولوجي، دونما تفكيك لبنيتها معرفياً.
3- خطاب ديني سيكولوجي، يعرف كيف يشتغل على تفجير المنطقة الواصلة بين مجتمع مُعبَّأ دينياً، وكلمة (= إلحاد) ذات شجون سلبية لدى هذا المجتمع.
ووفقاً لاعتبارات هذه الشفرة، فنحنُ أمام خطاب (تهويمي/ تهويلي) يسعى إلى النيل من المُخالفين نيلاً سيكولوجياً، نظراً لإخفاقاته في بناء معمار معرفي، يُطيح - إن استطاع إلى ذلك سبيلاً - بالخطاب النقدي لمنظومتي (1- الدين 2- التديّن) الإسلاميتين، ويُقيم عليه الحُجّة المعرفية، ويُبيّن للمجتمع تهافته وانعدام قيمته ليس على المستوى العقلي فحسب، بل والمستوى الواقعي أيضاً. وهو إذ يُخفق، فإنه يلجأ إلى الطريق الأقصر والأسرع، للإطاحة بهكذا خطاب نقدي، وذلك بالانتقال من النقد المعرفي إلى (التهويم/ التهويل) السيكولوجي، نظراً للنتائج الطيبة والسريعة المُترتبة على هكذا (تهويم/ تهويل). وبالفعل، فقد أثبت هكذا خطاب نتائجه على أرض الواقع، بما قاد إلى:
بعيداً عن مسألة الانتقامات السيكولوجية ممن يعتبر مُلحداً (ما هو بملحد كما أشرتُ آنفاً، لكن قسراً تُلحق هذه الصفة السلبية بكل ناقد للدين/ التديّن الإسلاميين)، والرضا النفسي الذي يمكن أن يستشعره المُتديّن أو الذي يعتبر نفسه مُنافحاً عن الخطاب الديني كما هو رائج؛ فإن أخطر ما يمكن أن تصل إليه مسألة خلق حالة تهويمية/ تهويلية حول كل من يتصدّى بالنقد للخطاب الديني الإسلامي، هو:
1- حالة الإفلاس الأخلاقي التي يمكن أن تتأسّس في المجتمع الأردني، وتذهب عُرفاً بين الناس. فوفقاً لمقتضيات لعبة الانتقام السيكولوجي من النِدّ، تصبح قيمة الحقّ في الاختلاف، وقدرة الإنسان على مراعاة هذه القيمة الكبيرة، دون غضب أو عصبية لا معنى لها، قيمةً كبرى، تؤكد مسلكية الإنسان الأخلاقية في هذا العالَم، فكما من حقّه أن يختلف مع الآخرين دون أن يُجبر على شيء مخالف، فكذلك من حق الآخر الاختلاف معه، دونما إكراهات أو استلابات، تنال من مكنة عقله القادرة على التمييز، واتخاذ موقف من العالَم، استناداً على هذا التمييز. بما يُفعّل فكرة الثراء التعدّدي والتنوّعي في بنية المجتمع الواحد، بما يبقيه على قيد الحياة. فانتقام العقل الجمعي من عقل فردي، يناقش مسلّماته ويمنحها أفقاً جديداً، هو نوع من الإفلاس الأخلاقي بالدرجة الأولى؛ فالكتلة الكبيرة إذ تهجم هجوماً ضارياً على كتلة صغيرة، دونما تبيان وتفكيك منهجي لما هي عليه هذه الكتلة، هو انحدار ناحية غرائزية انتقامية، تفقد المجتمع إنسانيته، وتجعله يتهاوى في مدارك الإفلاس الأخلاقي، بدلاً من عروجه إلى مقامات التسامي الإنساني. وأن يذهب مجتمع مُتديّن كالمجتمع الأردني، إلى حالة من الانتقام من كل من يناقش مُسلّماته الدينية، ويعيد النظر فيها جملةً أو تفصيلاً، أن يذهب بعيداً في هذا الخيار، مؤشر خطير على ما يمكن أن نصل إليه من فقدنا لقيمتنا الإنسانية، ونزوحنا الطوعي ناحية أنماط غرائزية، سنكابد طويلاً فيها، لكي نستعيد إنسانيتنا -ليس على المستوى الديني فحسب، بل في مختلف تجلياتنا الحياتية - ونعود إلى جادة الصواب الأخلاقي مرة أخرى.
2- نضوبنا المعرفي، وافتقادنا إلى جِرابٍ حاوٍ لثقافة من شأنها تقديم نموذج ماكن، يُردّ به على الخصم، رداً لائقاً ومُحكَمَاً. واللجوء - من ثمَّ - إلى الحِراك السيكولوجي، الذي يُلعب فيه على مشاعر الناس الجيّاشة تجاه الدين، لغاية الإطاحة بالخصم إطاحة انتقامية، بعد أن نكون قد خسرنا حربنا معه على أرض المعركة الحقيقية؟. ما معنى أن استحضر كلمة ذات حمولة سلبية في أذهان الناس، لأصف بها أناساً لا تنطبق عليهم هذه الكلمة، ولا يحملون على ظهورهم حمولتها الكبيرة على المستوى المعرفي؟ لماذا نلجأ إلى حالة الخلط بين كلمة إلحاد، ونقد الخطاب الديني؟. هل ثمة تبرير معرفي لاستخدام مصطلح لا تنطبق عليه المفاهيمية المتداولة من الخطاب المضاد؟.
هَهُنا، أودُّ أن أشير إلى أننا قد نذهب - كما أشرت قبل قليل بشأن موضوعة الإفلاس الأخلاقي - بعيداً، في حال بقينا على ما نحن عليه من (تهويم/ تهويل) حول موضوعة الإلحاد في الأردن، إلى حالة من الجفاف المعرفي، بعد أن نكون قد قضينا على كل منابع الحِراك الفكري. فالثبات على موقف معيّن -حتى لو تعلّق الأمر بيقينياتنا أو ما نعتقد أنه اليقين، بالأحرى - انتحار معرفي، وإيذان بخراب كبير، سنكتشف نتائجه الكارثية، بعد فوات الأوان. لكنها فرصة - أيما فرصة - أن نفتح المجال أمام أنفسنا، لكي: 1- نتأكّد أخلاقياً، عبر تفعيل أدوارنا في العالَم دونما إكراهات أو استلابات من شأنها حرماننا من إنسانيتنا بالدرجة الأولى. 2- نتفاعل معرفياً، حيث لا نكتشف لاحقاً أن العالَم قد قطع أشواطاً طويلة في حِراكه الثقافي، ونحنُ لا زلنا نسعى إلى الانتقام من بعضنا البعض تحت شعار الحفاظ على إرثنا الروحي وموروثنا المادي.
لنكن جديرين بأنفسنا كذواتٍ أخلاقية من جهة ومعرفية من جهة ثانية، ونتقدّم خطوة ناحية الأمام، بعيداً عن ثقافة التدليس والتزييف، ونسعى - بالتالي - إلى بناء مجتمع تعدّدي، تنوّعي، يتحوّل بالتقادم إلى واحة غنّاء.