قد يبدو عنوان هذه المقالة غريباً على "العلمانيين" والتيولوجيين معاً، ومستهجناً من قبلهم جميعاً، مع أنه لا علمانية بلا دين. الإلحاد موضوع آخر مختلف كل الاختلاف، ولا يمت إلى العلمانية بصلة. الإلحاد، بخلاف العلمانية، موقف مضاد للدين، لا للإسلام أو المسيحية، وهو موقف عدمي، على طول الخط، كعدمية الظلم والجور والميل عن الحق أو العدول عنه والشك فيه، والشك هنا تنكُّر وإنكار، وليس منهجاً ينشد التبيُّن واليقين أو طريقاً إلى الحقيقة. الظلم والجور والميل عن الحق والعدول عنه والشك فيه وكذلك الإنكار والتنكر كلها داخلة في الإلحاد[1]، لا في العلمانية، التي يحيل معناها على العالم، عالم الإنسان، أو العالم المعيش، أي المجتمع والدولة وشؤونهما وشجونهما.
من يعرِّفون العلمانية بالإلحاد، ويصفون العلمانيين بالملحدين يظلمون العلمانية والعلمانيين. ربما بعض العلمانيين ملحدون، بالمعاني المشار إليها أعلاه، وكذلك بعض التيولوجيين، لكن العلمانية لا تعني الإلحاد، لا في دلالاتها اللغوية ولا في دلالاتها المفهومية، ولا في حقول المعرفة المختلفة، ولا في أشكال تحققها في المجتمعات المدنية والدول الحديثة، بل يمكن أن يكون أحدنا مسلما وملحداً في الوقت نفسه أو مسيحياً وملحداً، بالمعاني المشار إليها للإلحاد.
ليس هنالك فوق هذا الكوكب الصغير مجتمع ملحد أو دولة ملحدة، بل هنا وهناك سلطات ملحدة: جائرة وظالمة ومائلة عن الحق وناكرة ومتنكرة لحقوق الإنسان والمواطن/ـة .. نسميها سلطات مستبدة أو متسلطة أو شمولية أو ما شئتم. ولكن هنالك مجتمعات علمانية ودول علمانية، يدخل الدين في نسيجها الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والسياسي أيضاً.
ولكي يكون الكلام واضحاً، نتكلم هنا على الدين بألف ولام التعريف، بصفته ظاهرة إنسانية عامة، لا على المذاهب الدينية. ونشير إلى أمر نظنه خافياً، لكي لا نقول مجهولاً: الدين، بصفاته الإنسانية العامة، أو بالروح الإنساني، الذي يسري فيه، أو باعتباره "مكارم الأخلاق"، هو الذي يدخل في النسيج الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والسياسي أيضاً، حسب مستوى التمدن الذي بلغه المجتمع المعني، وهو ملازم للمجتمع المدني، في جميع أطواره، ولا سيما طور التأسيس، الذي لا غنى عن العودة إليه بين الحين والحين، أو كلما اضطربت الحياة الاجتماعية وتجاوزت السلطات العامة حدودها.
الدين الذي يدخل في نسيج الحياة الإنسانية إلى جانب الأساطير والآداب والفنون والعلوم والفلسفة، وإلى جانب السحر أو البيان أيضاً، هو المبادئ والقيم الإنسانية المشتركة بين جميع المذاهب الدينية، على اختلافها وتخالفها. الدين واحد؛ الواحد المفهومي متعدد ومتكثِّر، مثل مفهوم الله والمجتمع والشعب والأمة والدولة، مثل مفهوم الحق أو الخير أو الجمال، مفهوم كلي، عام، لا وجود له إلا في أفراده ومخلوقاته أو تجلياته، سواء في الفكر أو في الواقع، وجوده مشروط، ولكنه غير محدود، إلا بالحياة الإنسانية، التي هي حدُّ ذاتها وغاية ذاتها. الواحد غير المتعدد وغير المتكثر وثن، أو شخص، في أحسن الفروض. التعدد والتكثر اختلاف، (= حرية) ثمة قرابة ما بين الوثنية والمذهبية الواحدية، وثمة قرابة بين المذهبية والاستبداد والتسلط والظلم والجور، تقابلهما قرابة بين الدين والحرية، وقرابة بين الدين والمحبة التي تسمو على العدالة.
قلنا: ليس هنالك مجتمع ملحد أو دولة ملحدة، ولكن الدولة الدينية لم تتحقق بعد. الدولة غير ملحدة، ولكنها لا تزال ناقصة، وغير متسقة مع مضمونها، ليست دولة دينية بعد. وفق هذا التأويل، قد تكون البشرية العاقلة والأخلاقية متجهة نحو "الدولة الدينية"، بما هي "الحياة الأخلاقية للشعب"، بتعبير ماركس، لا نحو الدولة الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الكونفوشية أو الزردشتية .. إلخ. استطراداً، وخلافاً لما ذهب إليه سيد قطب، الدولة الإسلامية ليست دولة دينية، وليست "دولة مدنية" أيضاً، بل "دولة" مذهبية، سنية هنا وشيعية هناك وفاطمية هنالك .. إلخ. (وضعنا كلمة دولة بين حاصرتين تحرزاً من إسقاط مفهوم الدولة الحديثة، الذي بزغ في عصر النهضة الأوروبية، على أنظمة حكم عائلية أو عشائرية أو قبلية وسلطات شخصية)
المسألة الدينية مسألة مزدوجة بالضرورة: هي مسألة الدين بوجه عام ومسألة الدين الخاص، كالمسيحية أو الإسلام. ولكن ليس في ميدان الفكر المجرد، بل في واقع البشر الاجتماعي الاقتصادي الثقافي والسياسي، وفي تاريخهم، في عالم البشر المتجه إلى أن يصير إنسانياً على طريق آلام طويلة، على الرغم من الانتكاسات هنا وهناك، وذلك بقدر ما يتجه دين خاص إلى استعادة مبدئه العام، وبقدر ما تتجه الفئات الاجتماعية والجماعات القومية والثقافية إلى استعادة ماهيتها النوعية، العامة، وبقدر ما يتجه الفرد إلى استعادة جوهره وماهيته والاعتراف بنفسه كائناً إنسانياً عاماً وكلياً، واعتراف المجتمع به من ثم كائناً إنسانياً عاماً وكلياً، في واقعه الفعلي لا في تمثلاته الثقافية فقط، وبقدر ما يكف الناس عن المناداة بحقوق الإنسان؛ لأنها تكون قد غدت واقعاً محققاً.
وإذا كان التاريخ لا ينحل في الدين، بل الدين هو الذي ينحل في التاريخ، فإن المسألة الدينية ذاتها، بطابعها المزدوج، تغدو مسألة المجتمع والدولة، مسألة المجتمع المدني العلماني والدولة السياسية، بما هي شكل وجوده. ولا بد من الإشارة إلى أن مقولتي المجتمع المدني والدولة السياسية، الوطنية / القومية تقعان في الحقل الدلالي الذي مركزه العلمانية. فالقومية أو الأمَّوية (من الأمة) مشروع علماني عندنا، وإنجاز علماني، لم يكتمل، عند الأمم والشعوب المتقدمة. ولا يجوز اختزاله إلى "فصل الدين عن الدولة"، قبل النظر إلى الطابع التناقضي للدولة السياسية التي لا تزال علمانية غير منجزة، ناقصة ومثلومة، لأنها ليست كلية بعدُ إلا في صيغتها النظرية. أي إنها ليست سوى شكل مناقض لمضمونه، أو لأن مضمونها الفعلي لا يزال جزئياً (فئوياً أو طبقياً، فما بالك إذا كان مذهبياً أو عشائرياً أو حزيباً؟). إذن، إن التعارض بين الدين والدين الخاص يقع في مجال التعارض بين الدولة السياسية التي لم تغد بعد تعبيراً فعلياً عن الكلية الاجتماعية، وبين المجتمع المدني بوصفه قوام الكلية وتعيُّنها الواقعي أولاً، وبوصفه فضاء الحرية ثانياً. في ضوء هذا التعارض الواقعي والتاريخي، يمكن القول: إن الدولة المسيحية أو الإسلامية ليست الدولة الدينية؛ لأن كلاًّ من المسيحية الأولى والإسلام الأول دين خاص، بل مذهب خاص وحصري، قبل أن يتفرعا إلى مذاهب أكثر حصرية، وليس أي منهما الدين، العام، في أي مجتمع، بدليل تعدد الأديان والمذاهب والطوائف في المجتمع الواحد، مهما تكن نسبها، بل هي بالأحرى دولة لا دينية، مثلها مثل أية دولة علمانية، والواقع الفعلي يؤيد ذلك، مع فارق أن مثل هذه "الدولة" نسق مغلق لإنتاج التمييز وعدم المساواة والعنف وتفتيت المجتمع وهدر الإنسان، بخلاف الدولة العلمانية.
الدولة المسيحية أو الإسلامية ليست الدولة الدينية التي مبدؤها وأساسها الروح الإنساني العام والكلي؛ فلا بد أن تكون دولة استبدادية تنبع صفتها الاستبدادية من إعلان طابعها الخاص والجزئي شيئاً عاماً وكلياً، مثلها في ذلك مثل دولة الحزب الواحد التي حكم عليها التاريخ بقسوة في أكثر من مكان من عالمنا المعاصر. فهي دولة شمولية تحتكر الحقيقة، علاوة على السلطة والثروة ومصادر القوة، وتعارض حرية البشر في توجيه حياتهم الخاصة، وتخفض العام والكلي حتى يتطابق مع خصوصيتها وجزئيتها، بل إنها تخفض المطلق، الله، حتى يغدو إلهاً خاصاً كإله إسرائيل أو آلهة القبائل البدائية الأخرى، وتحول كلمة "الله" إلى وثن، وتغدو مهمتها حمايته والدفاع عنه والتعصب له. إن دولة كهذه ليست ولا يمكن أن تكون دولة سياسية، وبالقدر نفسه لا يمكن أن تكون دولة دينية، بالمعنى الذي أوردناه[2].
الدولة المسيحية أو الإسلامية لا تستطيع أن تكون دولة دينية ما لم تحذف صفتها الحصرية، المسيحية أو الإسلامية؛ أي ما لم تحذف طابعها الخاص والجزئي؛ ذلك لأنها لا تستطيع سوى وقعنة صفتها الخاصة المسيحية أو الإسلامية. أما في الدولة الدينية، فإن الروح الإنساني الكلي يصير واقعاً فعلياً. العلمانيون حقاً ينشدون مثل هذه الدولة الدينية التي يصير فيها الروح الإنساني الحر واقعاً فعلياً، بل إنهم يرون في الدولة الدينية الناجزة دولة علمانية ناجزة يستعيد فيها وبها الفرد، المواطن، ماهيته الإنسانية، ويستعيد المواطن مواطنيته الفعلية التي قوامها المساواة والحرية والعدالة، ويغدو خلاص الإنسان الآخروي خلاصاً دنيوياً. الدولة الدينية التي ينشدها العلمانيون هي دولة علمانية ناجزة، والدولة العلمانية الناجزة هي الدولة الديمقراطية الناجزة.
يقول إلياس مرقص: "ليس فصل الدين والدنيا هدفاً أعلى أو ذروة مذهب حق، لكن الامتناع عن الفصل ومحاربة الفصل رفض من العتبة للمفاهيم والعمل بالمفاهيم، تسخير الدين لخدمة أسوأ دنيا بمساعدة منظومة إيديولوجية قوامها المحايلات. إن فصل الدين والدنيا شرط لجدل وتاريخ، مبدأ لجعل الدنيا تاريخاً، .. شرط لـِ وجزء من وحدة الدين والدنيا، ثمة فرق وثمة تعارض بين الوحدة والخلط، الوحدة غاية، الخلط دون البداية"[3].
مبدأ العالم مندرج فيه، فليس في عالم الإنسان شيء ليس موجوداً في الإنسان بالقوة أو بالفعل، وهذا العالم هو الذي ينبغي أن يكون "مملكة الله" أو ملكوت الله، ملكوت الحرية والمساواة والعدالة والحق والخير والجمال، والدين، لا المذهب، هو ضمانة هذا الوجوب. لذلك نعتقد أن وظيفة الدين والفكر الديني في المجتمع هي وظيفة نقدية ومستقبلية، إذا جاز التعبير، وظيفتهما نقد الواقع دوماً، ونقد السلطات الظالمة والقوى الغاشمة، لا التصالح معها والتماهي بها والاندماج في مفاسدها، هذا النقد مرتبط منطقياً بالمسلك الأخلاقي، فلا يجوز للدين أن يسوغ العنف أو يدعو إليه، وحين يفعل ذلك يفقد مضمونه الإنساني ووظيفته الأخلاقية، لأنه يكون قد فقد مبدأه وعلَّة وجوده.