حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 هل غياب الدليل دليلٌ على الغياب؟

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حسين
فريــق العــمـل
فريــق العــمـل
حسين


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 473
معدل التفوق : 1303
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 18/12/2011

هل غياب الدليل دليلٌ على الغياب؟ Empty
24032017
مُساهمةهل غياب الدليل دليلٌ على الغياب؟

هل غياب الدليل دليلٌ على الغياب؟ Absence


يحدث إذا حاورتَ ملحدا حول الأدلّة المؤيّدة أو المعارضة لوجود الله، أن يستعرض هذا الملحد جملة بدئيّة للنقاش فيقولَ '' غياب الدليل هو دليل الغياب '' ليردّ المؤمن بشكلٍ ميكانيكيّ فيقول عن غير وعي '' لا، غياب الدليل ليس دليلا على الغياب ! ''، فيكون بهذا قد أثبت على الأقلّ صحّة الشطر الأوّل من مقولة الملحد، و هو أنّ الأدلّة على وجود الله غائبة، و هذا الاعتراف من طرف المؤمن هو اعتراف يدلّ على أنّ مكابرة المؤمن و ادّعاءه بوجود أدلّة على وجود الله ما هو إلا لِجاجٌ و مماحكاتٌ لا طائلَ من ورائها ، فلو كان يؤمن حقّا بوجود أدلّة على وجود الله، لردّ على الملحد قائلا '' و من قال لك بأنّه لا توجد أدلّة على وجود الله؟ ''، لكنّ انفعال المؤمن و دخوله في النقاش بشكل عاطفيّ قد جعل لاوعيه يطفو على السطح و يقدّم اعترافا مهمّا و ذا قيمة، و هو اعتراف يصعب أن تنتزعه من المؤمن العنيد إلّا باستعمال خطّاف الدهاء لتقنصه منه قنصا. و الحقيقة تظهر و لو كالشهاب مرّة في الشهر، أو كما قال عليّ بن أبي طالب '' مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ ''، فربّ فلتة لسان تغنيك عن ألف سؤال . غير أنّ نقاشنا في هذا المقال بالذّات ليس حول الأدلّة على وجود الله، بل حول الصحّة أو التناسق المنطقيّ للجملة التي ابتدأ بها الملحد حواره مع المؤمن، و هي '' غياب الدليل هو دليل الغياب ''، فهذه قضيّة جدليّة في الفلسفة تفتح باب التساؤل على حقول معرفيّة كثيرة مثل الفيزياء و فلسفة العلوم و المنطق و نظريّة المعرفة، ما يجعل من الاضطراب السمةَ الغالبة على أغلب الجدالات التي تناقش هذه المسألة، فهل غياب الدليل، هو حقّا دليل على الغياب؟
من المعروف أنّ الكثير من العلماء المرموقين قد اعترضوا على القول بأنّ "غياب الدليل دليل على الغياب" ، و رفعوا راية '' Absence of evidence is not evidence of the absence ''، مؤكّدين على أنّ غياب دليل على وجود كائنات فضائيّة لا يمكن اعتباره بأيّ حال من الأحوال دليلا على غياب هذه الكائنات، فالكون أوسع من أن نحيط به علما باستعمال أجهزة الرصد المتواضعة التي نملكها، و ما خفي من الكون أوسع بملايين المرّات ممّا قد اكتشفناه حتّى الآن، و ليس يصحّ القول بأنّ غياب هذه الكائنات عن إدراكنا دليل على غياب هذه الكائنات إطلاقا. هذا القول يبدو منطقيّا جدّا، و أشهر من قال به الفيزيائيّان و عالما الفضاء المرموقان كارل ساجان Karl Sagan و مارتين ريس Martin Rees . المثير في الأمر أنّهما معا ملحدان، و هما متّفقان تماما على عدم وجود أيّ دليل على وجود الله، و على انعدام الحاجة للإيمان بهذا الكيان الخرافيّ. لكنّهما في الوقت نفسِه يتّفقان على أنّ القول بأنّ غياب الدليل هو عين الدليل على الغياب قولٌ خاطئ و غير متناسق منطقيّا. شخصٌ آخر، و هو عالم أحياء و مدافع عن التطوّر هو برايان كي هال Brian K Hall، يقول في كتابه '' التطوّر '': إنّ غياب الدليل على وجود أحافير انتقاليّة ليس دليلا على عدم وجودها. و هذا كلام صحيح طبعا، فمعرفة بسيطة بظروف تأحفر بعض الكائنات ستجعلنا نفهم بأنّه ليس من المستغرب أبدا ألّا نجد أحافير كلّما طلبناها. يبدو واضحا أنّ القول بأنّ غياب الدليل هو دليل على الغياب، سيجلب نتائج غير مرغوب فيها من طرف الملحدين و المؤمنين على حدّ سواء، لكن هل هذا يعني، بأنّ غياب الدليل على وجود وحش طائر في جزر الموز، ليس دليلا على عدم وجود هذا الوحش، و بأنّ إمكانيّة ما، تظلّ قائمة بأن يوجد هذا الوحش الطائر؟ من الواضح أنّ الإجابة على هذا السؤال هي '' لا ''، ما يدفعنا للعودة إلى هذه المقولة مجددّا لدراسة سلامة بنيتها المنطقيّة.
في إحدى مقالاته، يؤكّد عالم الفيزياء الشهير فيكتور ستينجر Victor Stenger، و الذي لا يقلّ قيمة و لا إلحادا عن كارل ساجان ، بأنّ غياب الدليل هو دليل على الغياب، و هذه الجملة هي نفسها عنوان المقالة التي يقولها فيها '' أستطيع التفكير في حالات كثيرة يكون فيها غياب الدليل دليلا دامغا على الغياب. إنّ الفيلة مثلا لمْ يسبق لها أن عاشت في متنزّه ييلوستون الوطنيّ، و لو كانت قد عاشت هناك، لما كان بالإمكان عدم ملاحظتها، مهما كان عيشها سرّيّا و كتوما، فإنّ وجود حيوانات ضخمة مثل هذه في المتنزّه الوطنيّ كان ليترك آثارًا مادّيّة واضحة مثل الروث، و الأعشاب المدهوسة، و كذا عظام الفيلة الميّتة، لذلك نستطيع أن نستنتج بكلّ ثقة في النفس، بأنّ هذه الحيوانات لم يسبق لها أن عاشت في هذه المنطقة''.
مجدّدا يتّضح بأنّ كلام فيكتور ستينجر صحيح و متناسق منطقيّا، تماما مثل كلام نقيضه كارل ساجان و مارتين ريس و برايان كي هال ، فكيف يصحّ النقيضان معا؟ أو بالأحرى، كيف نرفع التناقض القائم بين وجهتي نظرٍ صحيحتين معا؟
يقول إليوت سوبر Eliott Sober أستاذ الفلسفة في جامعة ويسكنسن ماديسون '' دعونا نتّفق على أنّ غياب الدليل لا يلزم منطقيّا أن يكون دليلا على الغياب، و دعونا نتّفق كذلك على أنّ هناك حالات يكون فيها غياب الدليلِ دليلا على الغياب '' و من هذه المنطلق يتّضح أساس الإشكال، إذ إنّ عدم التمييز بين الحالة التي لا يصحّ فيها اعتبار غياب الدليل دليلا على الغياب و بين الحالة التي يصحّ فيها ذلك ناتجٌ عن الخلط بين الحالتين اللتين أشار إليهما إليوت، فالذين يدافعون عن وجود الإله باستعمال هذه المحاججة، يكتفون بالاستشهاد بكلام عالم مثل كارل ساجان أو مارتين ريس، في حين أنّ كلام هذين العالمين ينطبق على حالة مخالفة تماما لحالتهم، و لا يصحّ أبدا مطابقة الحالتين و إلّا وقعنا في تناقضات منطقيّة يصعب الخروج منها.
من أجل التفريق بين الحالة التي يحقّ لنا فيها أن نعتبر غياب الدليل دليلا على الغياب و بين الحالة التي لا يحقّ لنا فيها ذلك، يجب علينا أن نقوم بتمييز أساسيّ يتعلّق بعناصر الادّعاء نفسه، ففي كلّ ادّعاء، لدينا عنصران أساسيّان هما: الشيءُ المدّعى وجودُه و سنسمّيه '' ذات المُدَّعى''، مثل ''الإله '' في ادّعاء المؤمنين و ''الحلقات الانتقاليّة '' في ادّعاء التطوّريّ ، هو مثال للمُدَّعى. فكلّ فكرة يُزعم وجودها عن طريق ادّعاء ما، علميّا كان هذا الادّعاء أم خرافيّا، سنسمّيه '' ذات المُدَّعى''. و هذا هو العنصر الأوّل في أيّ ادّعاء، أمّا العنصر الثاني فهو '' نطاق البحث''، و هذا العنصر يعني: المجال الذي يتمّ فيه البحث عن ذات المُدَّعى، فحينما يدّعي التطوّريّ بأنّ الحلقات الانتقاليّة موجودة، فنطاق البحث معروف و هو '' اليابسة على كوكب الأرض ''، و ليس من المعقول أن نذهب إلى الفضاء من أجل البحث عن عن هذه الحلقات، لذلك فنحن نبحث في '' نطاق بحث '' معروف Recognized و محدود Limited و هو ''اليابسة الأرضيّة''. كذلك فحينما يزعم أحد علماء الفلك بأنّ '' كائنات فضائيّة '' من الممكن أن تتواجد، فإنّ نطاق البحث عن هذا المُدَّعى هو ''الفضاء''، و هو نطاق بحث معلوم Recognized لكن غير محدود Unlimited، و إذا أردنا البدء في البحث عن هذه الكائنات الفضائيّة لن نذهب إلى القارّة الإفريقيّة من أجل البحث و التنقيب عن هذه الكائنات التي من المفترض أن تكون فضائيّة. لذلك ففي كلّ ادّعاء لدينا عنصران أساسيّا: الأوّل هو ذات المدَّعى و الثاني هو نطاق البحث عن ذات المدّعى. قد يبدو هذا التقسيم نافلا، أو غير ضروريّ للقارئ، لكنّ أهمّيّته ستتّضح للقارئ لاحقا، إذ من خلال هذا التمييز وحده، سنكون قادرين على رفع التناقض القائم بين وجهتي النظر السالفتين، لنعرف الحالات التي يكون فيها غياب الدليل دليلا على الغياب و الحالات التي لا يكون فيها ذلك.
في كلّ من ادّعاء فيكتور ستينجر بوجود فيلة في متنزّه ييلوستوون الوطنيّ، و في ادّعاء علماء التطوّر بوجود حلقات انتقاليّة بين الأنواع، و في ادّعاء كارل ساجان و مارتين ريس بوجود كائنات فضائيّة، نتملك شرطين أحدهما يتعلّق بِ'' ذات المُدَّعى'' و الآخر يتعلّق بِ''نطاق البحث''، هذان الشرطان لا يتوفّران في ادّعاء المؤمن بوجود الإله، ممّا يجعل ادّعاء المؤمن بوجود إله مختلفا تماما عن الادّعاءَات السابقة. فإنْ كانت الادّعاءَات الثلاثة السابقة ينطبق عليها '' غياب الدليل ليس دليل الغياب '' فهذا لا يعني بأنّه ينطبق على الادّعاء بوجود الله أيضا. و حينما نشرح لكم كلّ شرط من الشرطين المتعلّقين بذات المُدَّعى و نطاق البحث، سنعرف لماذا لا يصحّ القول بأنّ غياب الدليل على وجود الله ليس دليلا على غيابه.
1-الشرط الأوّل: أن يكون نطاقُ البحث معروفا Recognized و محدودا Limitedd ، ففي مثال فيلة فيكتور، لدينا نطاق  بحث معروف و محدود، و هو متنزّه يلوستوون الوطنيّ، فهو مكان معروفٌ أين يوجد ( بين ولاية آيداهو، مونتانا و وايومنغ في الولايات المتحدة الأمريكيّة)، و هو محدود المسافة كذلك (تقريبا تسعة آلاف كيلومتر مربّع). لذلك فعمليّة البحث عن ذات المُدَّعى ممكنة عقلاً، لأنّ نطاق البحث معروف و محدود (نسبيّ) و هذا ما يتناسب مع قدراتنا التقنيّة. دعونا نأخذ مثالا آخر أكثر تبسيطا، فلنفترض أنّ لدينا علبة مغلقة لا نعرف ما بداخلها، و لنفترض أنّ شخصا ما يدّعي وجود قطعة معدنيّة داخل هذه العلبة، مع الاعتراف بأنّ هذا الادّعاء معقول و ممكن، و نطاق البحث لدينا معروف و محدود (العلبة)، فلنفترض أنّنا قمنا بفتح العلبة و لم نجد في داخلها شيئا. هنا يحقّ لنا أن نقول '' ليس هناك دليل على وجود القطعة المعدنيّة داخل هذه العلبة، إذن فهذه القطعة المعدنيّة غير موجودة ''، و هذا استنتاج منطقيّ يتوافق مع المشاهدة، و صحيح على المستوى الصوريّ كذلك، و لا نستطيع أن نقول في هذه الحالة إنّ غياب الدليل ليس دليلا على الغياب، بل إنّ غياب الدليل في هذه الحالة هو عين الدليل على الغياب، و هذا ما يُسمّى في المنطق بالدليل السالب Negative Evidence ، و الدليل السالب هو نفسُه غياب الدليل، لكن فقط في الحالة التي يتوفّر فيها هذا الشرطان، فأمّا الأوّل فقد علمته، و أمّا الثاني فإليه ننتقل. 
2-الشرط الثاني: أن تكون ذاتُ المدَّعى معرّفة و قابلة للتحقّق Verifiablee، و هذا الشرط يعتبرُ أساسيّا في الفلسفة التي  أسّس لها لودفيغ فيتغنشتاين، أعني الفلسفة التحليليّة، و التي ستتحوّل لاحقا إلى المدرسة الوضعيّة المنطقيّة التي جعلت من شرط القابليّة للتحقّق عمادًا و ركنًا أساسيّا في هذه الفلسفة، و قد ألّف فلاسفة حلقتي برلين و فيينا مؤلّفات كثيرة حول هذا المبدأ، خصوصا مورتيز شليك الذي أكّد على ضرورة أن يكون كلّ مفهوم أو افتراض قابلا للتحقّق من أجل أخذه بعين الاعتبار. و على الرغم من النقد اللاذع الذي تعرّض له هذا النقد و هذه المدرسة الفلسفيّة لاحقا من طرف مختلف الفلاسفة، و حتّى من طرف الفلاسفة التحليليّين أنفسهم مثل ويلارد كواين Willard Quine في كتابه Two Dogmas Of Empericism ، إلّا أنّ هذا الشرط لازال يعتبر لَبنة أساسيّة في المنهج العلميّ الحديث، و هو ما يعبّر عنه الآن بمبدأ القابليّة للتخطيئ Falsifiability ، بعد إعادة صياغة المفهوم من طرف كارل بوبر. خلاصة هذا الشرط أيّ ادّعاء يجب أن يكون قابلا للدحض Falsifiable أو الإثبات Verifiable عن طريق القياس التجريبيّ و إلّا اعتبر هذا الادّعاء ميتافيزيقيّا أو مجرّد هراء Non-sense . إنّ أهمّيّة هذ الشرط تكمن في في قدرته على تمييز الادّعاء العلميّ من الهراء التوتولوجيّ غير القابل للدحض Unfalsifiable، إذ إنّ انتفاء هذا الشرط من ذات المُدّعى يُبطل الادّعاء بشكل أوتوماتيكيّ، و حتّى أبسّط فكرة هذا الشرط أكثر، دعوني أضرب لكم مثالا، فلنعد إلى العلبة السابقة التي لم نجد بداخلها قطعة معدنيّة، و لنفترض أنّ الشخص الذي يدّعي وجود هذه القطعة المعدنيّة لازال مصرّا على أنّ هذه القطعة المعدنيّة موجودة داخل هذه العلبة حتّى بعد أن فتحانا و تأكّدنا باستعمال حواسّنا ( المشاهدة) بأنّها غير موجودة، فيبدأ صاحب الادّعاء بالدفاع عن ادّعائه قائلا، باستعمال طريقة المؤمنين نفسِها،'' و هل عدم رؤيتك لهذه القطعة يعني عدم وجودها؟ فهل أنت رأيت عقلك؟'' قائلا إنّ عدم قدرة عينيك على التقاط هذه القطعة المعدنيّة لا يعني انعدام وجودها، فتقترح عليه أن تقوما بمسح شامل باستعمال الأشعّة تحت الحمراء من أجل التقاط حرارة القطعة المعدنيّة، فيردّ صاحب الادّعاء إنّ هذه القطعة عديمة الحرارة و لا تستطيع أن تلتقطها باستعمال الأشعّة تحت الحمّراء، ثمّ تقترح عليه أن تقوم بوضع قطعة مغناطيسيّة و تمريرها في كافّة جوانب العلبة من أجل أن تجذب هذه القطعة المعدنيّة إليها، فيردّ صاحب الادّعاء بأنّ هذه القطعة المعدنيّة لا تتأثّر بالمغناطيس و لا تتفاعل مع بيئتها المجاورة. فيستمرّ صاحب الادّعاء بنفي الصفات عن ذات المدّعى ( القطعة المعدنيّة ) واحدة تلو الأخرى كلّما عرضت عليه اختبارا تجريبيّا يلتقط آثار هذه الصفة، حتّى ينزع عن هذه القطعة كلّ الصفات التي من شأنها أن تجعل من ذات المُدّعى شيئا موجودا، فيخرج به من دائرة الوجود إطلاقا، غير أنّه يصرّ على أنّك لن تستطيع أن تثبت بأنّ هذه القطعة غير موجودة، و مادام غياب الدليل ليس دليلا على الغياب، فإنّ هذه القطعة تظلّ عصيّة على الدحض، و هذا في نظره مظهر من مظاهر وجودها. كان هذا مثالا بسيطا لادّعاء غير قابل للدحض، و هذا النوع من الادّعاءَت يشمل الكثير من الأمثلة الأخرى، بعضها غير معقول مثل تنّين كارل ساجان، و فكرة الإله، إذ إنّ كلّا من تنّين كارل و هذه القطعة المعدنيّة إلى جانب الادّعاء بوجود الإله، هي ادّعاءَات متشابهة في كونها غير قابلة للدحض، و بالتالي ادّعاءَات جوفاء Non-sense.

بعد أن قمنا بشرح هذين الشرطين، اللذيْن يتعلّق أوّلهما بنطاق البحث و ثانيهما بذات المدّعى، صرنا قادرين على تمييز الادّعاء العلميّ من الهراء الأجوف الذي يناضل ليصل إلى مستوى ادّعاء علميّ. دعونا الآن نعقد مقارنة بين ادّعاء فيلة ييلوستوون و بين الادّعاء بوجود الإله، لنعرف مدى الفرق بين الحالتين اللتيْن أشار إليهما إليوت سوبر في البداية. دعونا لا ننسى أوّلا ذاك التقسيم الأساسيّ للعنصرين الأساسيّين في كلّ ادعاء، حتّى نستطيع عقد هذه المقارنة، بالنّسبة لادّعاء فيكتور بوجود فيلة في متنزّه ييلوستوون الوطنيّ، تلاحظون بأنّ نطاق البحث معروف و محدود، في حين أنّ نطاق البحث في الادّعاء بوجود إله هو نطاق بحث مجهول Unkonwn فنحن لا نعرف أين ستجري عمليّة البحث عن ذات المُدّعى، و غير محدود Unlimited ، و حتّى لو افترضنا بأنّ نطاق البحث معروف، كالسماء أو الفضاء مثلا، فإنّه نطاقالبحث غير محدود، و لا نستطيع باستعمال قدراتنا العقليّة و التقنيّة الحاليّة أن نقوم بمسح شامل للفضاء من أجل البحث عن ذات المدّعى (ربّما ينتظر الله أن نصل إلى حدّ معيّن من التقدّم التقنيّ من أجل أن يسمح لنا باكتشافه )، هذا هو الفرق بين نطاقي البحث في كلّ من الادّعائين، أمّا ذات المدّعى ( العنصر الثاني في الادّعاء)، فهو بدوره يختلف جوهريّا في مثال فيكتور عن ادّعاء المؤمن، إذ إنّ ذات المدّعى في المثال الأوّل معروفة (حيوان الفيل)، و هو معروفٌ، معرّفٌ و قابل للتحقّق و الدحض، كما أنّ فيكتور ستينجر قد وضع شروطا يكون فيها ادّعاؤه صحيحا في حالة توفّر هذه الشروط و خاطئا في حالة انعدامها، و هذه الشروط هي ( العشب المدهووس، عظام الفيلة، روث الفيلة...)، و هي وحدها الدليل الذي سيجعل من ادّعاء ( أو فرضيّة ) فيكتور صحيحة، و لمّا كانت هذه الشروط غير متوفّرة في متنزّه يلوستون، فقد اعترف فيكتور ستنجر، بكلّ ثقة في النفس، بأنّ هذا الادّعاء أو هذا الفرض خاطئ.
إنّ النتيجة التي نخلص إليها بعد إقامتنا لهذا التمييز، هي أنّ قول العلماء بأنّ '' غياب الدليل ليس دليلا على الغياب '' هو قولٌ صحيح لكن فقط في الحالة التي يكون فيها البحث عن الأدلّة عمليّة ممكنا Possible، أمّا في الحالة التي تصبح فيها عمليّة البحث متعذّرة Impossible ، فإنّه لا معنى للقول بأنّ غياب الدليل ليس دليلا على الغياب، فمثل هذه الادّعاءَات لا قيمة لها أصلا، إذ من المفترض أنّ نلزم الصمت إزاءَ شيءٍ غير قبل للقياس و لا يتفاعل مع عالم المادّة، إلّا إذا كان صاحب الادّعاء ينتمي إلى ذلك العالم الذي يوجد فيه ذات المدّعى بدوره، فإذا كانت كلّ القياسات المادّيّة التقنيّة المتطوّرة، و كلّ الكشوف بمختلف أنواع الأشعّة، و البحث بأقوى التيليسكوبات و المجاهر لم تنجح في الكشف عن هذا الكيان المزعوم، باعتباره غير قابل للتفاعل، أو للرصد من طرف العالم المادّيّ، فليت شعري كيف استطاع صاحب الادّعاء نفسُه أن يعرف بوجود هذا الكيان، الذي حسب كلامه لا تستطيع أعتنى أجهزة القياس المادّيّة أن ترصد أثرا من آثاره، لكنّه في الوقت نفسه يزعم بأنّه هو، الكائن المادّي المعتمد على الحواسّ و العقل، قد استطاع رصد هذا الكائن أو معرفته، و المعرفة نوع من أنواع الرصد. فهذا تناقض صوريّ قائم في صميم بنية أيّ ادّعاء غير قابل للدحض، لأنّ صاحب الادّعاء يزعم بأنّ ذات المّدعى تنتمي لعالم لا يمكن رصده، و في الوقت نفسه يعطي لنفسه تصريحا بالحديث عن هذا المُدَّعى و كأنّه قد استطاع رصده، إنّني أتذكّر هنا مقولة للودفيغ فيتغنشتاين، و هي عماد أساسيّ في فلسفته التحيليّة، و بها يقوم بافتتاح رسالة المنطقيّة الفلسفيّة، يقول: كلّ ما يمكنُ أن يقالَ إطلاقا، يجب أن يقال بوضوح، و أن عجزت عن أن تقول بوضوح، فالزم الصمت. 
إنّ الإله بهذا المعنى غير موجود، و مجرّد الادّعاء بوجوده هو تناقض صوريّ قبل أن يكون تناقضا إبّيستيمياّ ( مع الواقع )، يقول فيكتور ستينجر في المقالة نفسها '' حتّى أكثر المؤمنين تشدّدا يجب عليهم أن يعترفوا بأنّه ما من دليل علميّ على وجود إله أو أيّ شيء خارق للطبيعة، و لو كانت هذه الأدلّة موجودة، فإنّنا يجب أن نكون قد درسناها في المقرّرات الدراسيّة إلى جانب الأدلّة على وجود الطاقة الكهربائيّة، الجاذبيّة، النيوترينوهات، و كذا الحمض النوويّ ''. كل الكلام الذي قيل حتّى الآن يبدو كلاما منطقيّا و صحيحا، إلّا أنّ المؤمن يظلّ مؤمنا للأسف الشديد، فاعتقاده الراسخ بأنّ إلهه يَرْصدُ و لا يُرصدْ، يقيسُ و لا يقاس، يعرِفُ و لا يُعرف، كلّ هذا يجعل من المؤمن شخصا يشكّ كثيرا في مدى قدرة العقل على نفي وجود هذا الكيان. غير أنّنا سنطرح عليهم سؤالا بسيطا يكشف مدى تخبّط و تضارب هذا الإيمان، و السؤال عبارة عن إعادة صياغة للفكرة السابقة، لكن بتعبير أكثر مباشَرة حتّى يعلق السؤال في ذهن القارئ المؤمن إنّكم تزعمون أنّ إلهكم يحيطُ و لا يحاطُ، موجود بغير مكان، فاعل بغير زمان، و مؤثِّر بغير امتداد، فكيف يا ترى علمت أيّها المؤمن التقيّ بوجود هذا الكيان، إذا كنت أنتَ نفسُك، جزءَا من العالم المادّيّ، و ذا إدراك حسّيّ تجريبيّ للموجودات؟ اسأل نفسك هذا السؤال و تدبّره مليّا! 

إنّ المتأمّل في أسئلتي، يكتشف الخدعة التي يمارسها المؤمن عن وعي أو عن غير وعي، فحينما يحدّثك المؤمن عن وجود الإله، يكون هذا الإله أظهر من الظاهر، و دلائل وجوده متناثرة في كلّ حدب و صوب، و كلّ كائن أو جسم أو كوكب يعدّ آية من آيات وجوده، بل إنّ الله يصبح حقيقة أظهر من حقيقة وجودنا نحن البشر، لكنّك بمجرّد أن تسأل المؤمن عن مكان وجود هذا الإله، أو عن الأدلّة المادّيّة على وجوده، حتّى يبدأ هذا الإله بالتقلّص و الانكماش و الاختباء شيئا فشيئا، ثمّ يفقد صفاته الواحدة تلو الأخرى، حتّى يقتصر وجوده على الثقوب المعرفيّة فقط ( أماكن لا تصل إليها تلسكوباتنا و أجهزتنا، مستويات و أبعاد لا تدركها عقولنا...)، و ما إن تقترح تعريض هذا الإله لاختبارات القياس التجريبيّة حتّى يبدأ بالانسحاب من منطقة الوجود المعروف إلى منطقة الميتاوجود أو الميتافيزيقا ، و هي المنطقة التي يوجد فيها طائر الفينيق و القنطور و السيكلوب و بابانويل و زيوس و أولادُه و يهوه العبريّ و الله الإسلاميّ إلى جانب كلّ المفاهيم التي أبدعها المخيال البشريّ في قمّة قوّته بينما كان العقل ضعيفا و عاجزا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

هل غياب الدليل دليلٌ على الغياب؟ :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

هل غياب الدليل دليلٌ على الغياب؟

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» فلسفة الدين:عبء الدليل
»  الدليل الكوزمولوجي لا يقول شيئا عن الإله
» "الدليل الصاعق في تطور الجيل اللاحق "
» لقاء 'اصدقاء سورية' في ظل غياب الناتو رأي القدس
» غياب الفلسفة كمهاد للفكر الوسطي، فالسلفي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: الحــــــــــــــــــداثـــة-
انتقل الى: