في حواره مع بيان رابطة العقلانيين العرب، يقدم الكاتب محمد يوسف قراءة، عميقة ومختصرة، لواقع المجتمعات العربية، وسلطاتها، من خلال نقده لبيان الرابطة، والذي أتى بمجمله نقدا صائبا وعميقا بالآن معا، ولكن ما فات هذا النقد في الحقيقة، أمر على غاية من الأهمية، وهو أمر غاب بشكل ما عن بيان الرابطة، هذا الأمر الذي يتعلق أساسا بمفهوم العقلانية المستخدم، والمتداول، بلا تواصلية واضحة في مجتمعاتنا العربية، هل العقلانية مفهوم سرمدي لا يحول ولا يزول في كل زمان ومكان، وهل العقلانية في النهاية مفهوم تاريخي، أم أنه مفهوم متعال على التاريخ، ومطابق لعقل كلي، سواء كان دينيا أم وضعيا؟ ولماذا إذن نقول العقل الغربي؟ كما صنفه فلاسفة ما بعد الحداثة من أجل نقده ونقد مركزيته الإنوارية على العالم وفيه؟ أم أنه توصيف إجرائي، لتمييز النسق الغربي في التعاطي مع نفسه ومع الآخر؟ بخلاف الدين- الذي له ربه المنتج- أليست الليبرالية والماركسية منتجات عقلية؟
هل العقلانية في نظرية المعرفة، تمنع المشتغل فيها أن يكون متدينا، أو لديه أسبقيات دينية، تلغي جانبا من السببية التي تعتبر محايثا للعقلانية؟ إننا أمام أسئلة من طابع فلسفي يخرج عن اختصاصنا من جهة، ويدخلنا في متاهة الأسئلة التي ربما لا زال البحث الفلسفي لم يحسم أمره تجاهها. في هذا التعقيب السريع على ما كتبه الأخ الكريم محمد يوسف، وفتح هذا الملف الذي كنا نتمنى من الرابطة أن تفتتحه للحوار قبل انعقاد مؤتمرها قبل شهرين من الآن. هل مطلوب منا أن ننتج تعريفا موحدا للعقلانية؟ وأية عقلانية عربية هذه التي توحي بها التسمية- رابطة العقلانيين العرب؟ هل هو استبدال العلمانية بالعقلانية دون أن نوضح دلالات هذه التسمية الجديدة أم فعلا لدينا مسافة دلالية بين المفهومين، يجب توضيحها، وهل يمكن للاعلماني أن يكون عقلانيا، وهل كل علماني هو عقلاني مثلا؟ مع العلم أن العقلانية أبدا لم ولن تكون مذهبا، كحال بقية الأيديولوجيات ذات الذيل السياسي، من ليبرالية وماركسية و إسلاموية! أم من المفترض أن العقلانية هي عابرة لكل الأيديولوجيات، حتى لو تحولت إلى أيديولوجيا وهي كذلك في نسختها المطروحة الآن؟
قبل المضي إلى الأمام في هذه النافذة لا بد لنا من اعتبار محاولة الرابطة محاولة تستحق التوقف عندها إيجابيا وشكر كل الذين ساهموا من أجل أن ترى النور. وبعد ذلك نحن نعتبر أو هذا ما يبدو لنا، أن العقلانية هنا وبالذات تبدأ بفك الارتباط بين المثقف العربي، والسلطة، أية سلطة كانت، رغم معرفتنا الأكيدة أن هذا أمر نسبي، ونتحدث هنا عن فك ارتباط ثقافي أولا وأخيرا، وكي لا يبقى لهذه السلطة هيمنة ما بشكل أو بآخر على الفكر العربي! هذه محاولة يجب على الجميع المساهمة بها، وللنقد في تقديري لباقة العقل والقول، والذي يرفع الحصانة عن القيم، التي لم يعد لها وجود في عصرنا دون أن تكون محمولة على سلطة، وأية سلطة؟
بعد قراءتي لبيان الرابطة أكثر من مرة، وجدت أن هنالك انزياحا مرتبكا، ويتمثل في تجيير العقل نحو هدف واحد : العلمانية، وكأن اللا علمانية هي منتوج شعبي، بينما هي في الحقيقة منتوج سلطوي بامتياز! وللمراقب أن يبدي رأيه مثلا في التمييز بين منتوج السلطة التونسية في عهد الحبيب بورقيبة، وبين منتوجها في عهد أباطرة الفكر القومي الاشتراكي في بلدان أخرى كالعراق وسورية وليبيا. وما يجمع في الواقع بين النماذج العربية، أمر واحد وأساسي، وهو: تغول السلطة على حساب الدولة والمجتمع معا، فهي عندما تريد تصبح علمانية بامتياز، أو تصبح شعبوية بمسوحات إسلاموية. فهي كلية القدرة في مجتمعاتها، وكلية القدرة هذه هي تمنع عنها العقلانية، حيث أن العقلانية، لا تفرض استخدام البطش والزنازن لتشير إلى أننا أمام عقلانية السلطة- الثروة كما يشير إلى ذلك الأخ محمد يوسف، استخدام القمع هو المظهر الأكثر حساسية للاعقلانية السلطوية. هذا من جهة ومن جهة أخرى علينا أن نميز في اللاشعور المتداول حقيقة بين كل نص عربي وآخر، فأنا لا يمكنني أن أقارب معرفة أو أيديولوجيا دون هم سوري واضح(1)؟ تماما كحال أي مثقف سعودي. إنه حضور للسلطة- القطرية كما تطيب للتيار الوحدوي تسميتها- حضورها في خلفية المشهد، سواء لتسويقها أو لنقدها..الخ لهذا هل العلمانية هي معركة تونسية كما هي معركة سورية أو سودانية بنفس الهم ونفس الشدة مثلا؟ هذا التمايز النسبي يقع في حيز التمايز الذي فرض في كل بلد على حدة، نتيجة لتراكم الاستبداد.
مساحتنا على ما أعتقد واضحة المعالم والرمو ز: إعادة السيادة للدولة وعصرنتها، وإعادة السياسة للمجتمع ديمقراطيا، وتكريس الحريات العامة والفردية وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، عندها يمكن للمجتمع الانخراط في معاركه الجزئية سلميا، ومنها درجة علمانية هذا المجتمع أو ذاك. لا أعتقد أن العلمانية تبدأ معركتها قبل الديمقراطية، وإن لم تكن مترافقة معها ومحايثة لها، فهي تبدأ بأول خطوة حرية لهذه المجتمعات من هذه السلطة الأحادية الحربائية المتلونة تبعا لمزدوجة( الثروة- السلطة) في اشتراطها اللاعقلاني في العالم العربي. لأنني أعتقد أن المعركة مع الإسلام السلفي الذي يريد الدين والدنيا معا، تبدأ مع الحرية، ولكن ليس الإسلام السلفي هو السلطة في مجتمعاتنا، وإن كان هنالك تبادل منافع وكراهية بينه وبين السلطة القائمة الآن. لهذا أجد خلاصة أنه علينا من خلال الحوار وكي لا تضيع الجهود السابقة واللاحقة، أن نعيد هيكلة مزدوجة( العقلانية- اللاعقلانية) في واقع تاريخي معطى، ووفق نموذج عمل تاريخي معطى أيضا، وهو الدولة العصرية القائمة الآن- بكل مدلولاتها- في غالبية دول العالم ماعدا منطقتنا العربية والحمد الله!
1-يجب علينا أيضا أن نميز بين وضع سلطوي وبالتالي مجتمعي بين دولة عربية وأخرى، فما يشكل موضع نضال بالنسبة لقوى ديمقراطية في بلد ما، يشكل طموحا مرحليا لقوى ديمقراطية في بلد آخر، بالعربي الفصيح، إن الوضع الديمقراطي النسبي بالمغرب مثلا يشكل طموحا مرحليا تتمنى القوى الديمقراطية في سورية أن تصل سورية إليه!