لاحظ
كارل بوبر أننا لا نربط العقلانية بالإجماع إلا لأننا نقرن العقل
بالحقيقة. و هو يدعونا إلى أن نقيم العقلانية على أبيستمولوجيا الخطأ.
فيورد أمثلة تاريخية مشهورة تشهد أن غزو العقل للامعقول لا يعني بالضرورة
سيادة الإجماع و تحقيق الوفاق ورفع الخلاف. لعل هذا ما يفسر كون أغزر
الفترات التاريخية إنتاجا علميا، هي أكثرها جدالا، وأشدها غليانا، و
أقربها إلى الأزمات. نلحظ ذلك بقوة عند المنعرجات الكبرى لتواريخ العلوم،
بما فيها أكثر العلوم دقة و ضبطا شأن الرياضيات. فمن منا لا يذكر "الحيرة"
التي انتابت الرياضيين و فلاسفة العلوم عند الثلاثينيات من القرن التاسع
عشر، وتلك التي اعترتهم عند نهايته.
هذا الارتباط بين انتصار العقلانية و بين ازدياد التوتر و التردد و
التشكك، يدل أكبر دليل على أن ذلك" الانتصار" لا ينبغي أن يقاس بمقدار دنو
العقل من الحقيقة، و إنما بمدى انفصاله و ابتعاده عن الأخطاء. إن
النقطة-المرجع هنا ليست هي الحقيقة و إنما هي الأخطاء. إنها ليست هي
الوئام و الاتفاق، و إنما هي الخصام و الاختلاف.
فكأن الاختلاف هو غذاء العقلانية. إذ لا عقلانية إلا إذا سلمنا أن جميع
الأسئلة و القضايا يمكن أن تكون موضع جدال مفتوح و متناقض. هذا التناقض و
ذلك الانفتاح يجعلان العقلانية، رغم تراجعها، بعيدة عن كل انغلاق، كما
يجعلان سوء التفاهم شرطا لكل تفاهم، و الأخطاء أرضا لكل "حقيقة".
فالعقل لا يقترب من، بل يبتعد عن. و هو لا يقارب فيما بين، و إنما
يباعد. و أول ما ومن يباعد هو الذات. انه يُبعد الذات عن نفسها، و يجعلها
تتراجع كي تُراجع، و تنتصر عندما تَهزم،و تُقبل عندما تُدبر.