الإسلام، الحداثة والمستقبل
ألقى المفكر محمد أركون
محاضرة بالمعهد الثقافي بمراكش يوم 21 مارس 2006 تحت عنوان "الفكر النقدي
المغاربي". وذلك في إطار الجامعة المواطنة، استجابة لدعوة خاصة من المدرسة
العليا للتسيير، وقد شهدت حضورا مكثفا من قبل الجمهور المهتم والفعاليات
الثقافية والفكرية بالمدينة الحمراء.
افتتح محمد أركون حديثه
بالسؤال التالي: هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن فكر نقدي مغاربي؟
لقد أكد أركون في معرض
إجابته عن السؤال على أهمية المقاربة النقدية لماضي (المغرب بالجمع). من
أجل رصد الدينامية التاريخية لمسار المغرب ضمن التاريخ الشامل، في محاولة
لتحديد الشروط الممكنة لإدخال المغرب ضمن الدينامية التاريخية، ومن أجل
المضي نحو إنتاج طرق أخرى لإبداع التاريخ. مركزا على التحولات الثقافية
والتكنولوجية والعلمية التي يشهدها التاريخ الكوني والتي تظل البلدان
المغاربية، رغم ذلك، عاجزة عن التفاعل معها رغم الوضعية الجيو تاريخية
للفضاء المغاربي، مبينا أن شروط الاستقلال لم تمكن هذه البلدان من فتح آفاق
جديدة من أجل تجاوز الوضعية التاريخية واللسانية والثقافية التي توجد
عليها.
إن إمكانية التفكير في
مستقبل جديد تـظل مرتبطة بسؤال الانتماء المغاربي للفضاء المتوسطي
والإفريقي والعربي الإسلامي. وذلك في أفق استعادة التضامن التاريخي مع دول
إفريقيا جنوب الصحراء ومع الدول المتوسطية ولاحظ أن هذه الرؤية لم تؤخذ
بعين الاعتبار. ومن ثم يلزمنا اليوم أخذ المسؤولية من أجل الخروج من
الوضعية التي توجد عليها البلدان المغاربية بكل تناقضاتها، وفي سبيل
المقارنة والتحليل بين مرحلة النضال من أجل الاستقلال المغاربي وبين ما
شهدته أوروبا من حروب خاصة بعد 1945"
لاحظ المفكر محمد أركون أن
بلدان المغرب لم تؤسس لخطاب تأسيسي، بقدر ما أسست لخطاب وطني مهووس
بالإيديولوجيا، في حين فإن أوروبا التي خرجت من حروبها بوعي مجروح. لكنها
أسهمت في التنوير وأسست لمجتمع الحداثة، كما عملت على إعادة بناء علاقة
الإنسان بالإنسان، فعبر التنوير أحدثت القطيعة من المراحل السالفة، وأعادت
النظر في التأسيس لهذه العلاقة وفقا لمبادئ العقل محدثة القطعية مع
المرجعية الدينية. ومعنى هذا أن المغرب (بالجمع) تأخر في الدخول إلى
الحداثة، ومن هنا ضرورة إعادة كتابة التاريخ المغاربي بكل أحداثه والأمة
وإحباطاته، وبدون الخوض في المعارك الاجتماعية لن تحصل أية انطلاقة باتجاه
المستقبل والحداثة.
إن قراءة نقدية في نظر أركون
لاستعادة الفكر النقدي المغاربي تتطلب فهم وضعنا ضمن هذا الفضاء الدولي
الذي يخوض صراعا ضد الإرهاب، وبما أن الإرهاب ظاهرة يمكن أن تشهدها كل
المجتمعات بما فيها الحداثية، إلا أن المساءلة الثقافية للتحرر من منظور
ارتكاسي يسهم في تغذية الشعور بالعداء هذا الإطار يقترح أركون التخلص من
المنظور الفقهي التيولوجي المؤسس لمفهوم المدينة، ومن ثم وجبت قراءة ثانية
"لسورة التوبة" بما هي أساس المنظور التيولوجي الذي اعتمده الفقهاء
والمتمثل في قتال المشتركين الذين هم أمام خيارين، إما اعتناق الإسلام أو
القتل، كما يتوجب إعادة قراءة السورة 29 التي تحدد وضعية أهل الكتاب الذين
يجب أن يؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون... فهناك المؤمنون/ المسلمون، وأهل
الكتاب، كما أن هناك فئة الأعراب الذين تم وسمهم بالنفاق والكفر.
إن الفقهاء بنوا تصوراتهم
استنادا للنص القرآني من أجل وضع تشريع تيولوجي، كما استندوا إلى وثيقة
ثانية هي صحيفة المدينة.
إن الالتباس الحاصل اليوم
نتيجة لعدم قيام فكر نقدي يستعيد قراءة الخطاب الديني، بناء على المعطيات
التأويلية الهرمينوطيقية، وهي قراءة تستند إلى فهم تاريخية النص القرآني،
وهو ما قامت به المسيحية سالفا لتتخلص من الدوغمائية.
وفي هذا السياق دعا إلى بناء
نوع من التحليل النقدي يكون مبرمجا في المناهج التعليمية. وهي عملية ضرورية
لبناء تحليل للخطاب بجميع أنواعه، تحليل يضع مسافة نقدية بين الذات وبين
الخطاب، ذلك لأن الخطاب هو في حد ذاته فخ، إنه لا يقول ما يظهره، إنه يخفي
أكثر مما يظهر
سياق هذا التصور، في نظر
أركون، ناتج عن الضعف الشديد والواضح للفكر النقدي المغاربي. وهذا الضعف
يتجلى في عدم الجرأة على إعادة تحليل علاقة المغاربة بين الإسلام. فالإسلام
تحول بطريقة راديكالية إلى طقوس جماعية في المساجد، في الحج، في التعلق
بمظهرية الحجاب.
إن الإسلام لم يوضع بعد ضمن
ورش القراءة بقصد التساؤل عن الكيفية التي يجب أن نعيد من خلالها تأسيس
الإسلام داخل التوحيدية في الفضاء المتوسطي.
إنه شرط أساسي للانتماء
المشترك والإيجابي. لقد تخلف المغاربيون عن مجرى الحداثة منذ القرن 16 إلى
اليوم، ورفضوا الأخذ بالوسائل التحليلية لمناقشة الحداثة. عبر صراعهم ضد
العلوم الدخيلة والعلوم الفلسفية، وانحيازهم الدوغمائي للعلوم الدينية
والنقلية. وهو ما يعني فقدان الحد الأدنى للوعي التاريخي.
إذن كيف يمكن إبداع فكر نقدي
من أجل الدخول إلى السيرورة التاريخية الدينامية وما هي رهانات إعادة
البناء.
إن الرهان يتمثل في تجاوز
خطاب الدولة الوطنية واستعادة التعددية الثقافية والفكرية، والتخلص من
النزعة الواحدية المسؤولية عن اجتثات الفكر العقلاني (الرشدي نموذجا) من
اللغة العربية، والتي أسهمت في أسطرة المجتمع من خلال تحويلها للدين إلى
عامل للأسطرة وليس للعقلنة.
ويرى أركون أنه بدون الرؤية
النقدية فسنظل مغمورين بالواقع الأسطوري لتاريخنا. فاللغة العربية تظل في
وظيفتها (المتصورة أسطوريا) تعمل وفق وبالتوازي مع الخطاب الايديولوجي.
ووفق هذه الشروط تم ما يسمى بالتعريب الذي يؤدي المغاربيون ثمنه اليوم. إن
هذه الرؤية لا تعمل إلا على تغذية اليوتوبيا بوصفها فقدان المكان، الإحساس
بالموضع، فقدان يسهم في غياب فضاء الحوار والنقد، إن اليوتوبيا مجبرة على
الإخصاب والتطور في اللامكان، فهي تقدم ذاتها على أنها لا تقبل التفسير،
هذا الاستلهام لوظيفة الأسطورة يتجلى في ما تمارسه الرقابة الدينية اليوم
التي أضحت بمثابة حجر على العقول، وتحولت إلى الدفع بإدماج الدين في معترك
السياسة بهدف دحض النقد والحفاظ على مشروعيتها، أي الإبقاء على حالة
الوصاية.
وفي إجابته عن سؤال حول ما
يمكن للصوفية أن تلعبه كوسيلة تنويرية للدخول للفضاء المتوسطي، أجاب أركون،
بأن الصوفية هي تجربة باطنية بالعلاقة مع الألوهي، وما يمكن أن يعد تجربة
باطنية لا يمكن أن يقوم الظاهرة الدينية. إن التحليل النفسي للواقعة.
النفسية يعلمنا أن تحليل الخطابات اللسانية يستند إلى المرجعيات الكبرى
التالية:
الوظيفة الرمزية ـ المخيال ـ
الواقع الموضوعي. إن الوظيفة الرمزية والمخيال تنظران إلى الواقع من أجل
بناء مثال3/ واقع رمزي. ومن هنا يتم الكلام عن الواقع بإنتاج تخيلات، ومن
أجل التأثير على المخيال وبناء نماذج. فالصوفية لا يمكن أن تحل المشكل
المفكر فيه الذي يحيل إلى اللامفكر فيه، والذي لم يسمح بتناوله سواء في
المدرسة أو في المجتمع. وهذا نموذج جيد للالتباس الذي يوجد عليه المواطنون
المغاربيون.
في ختام أجوبته دعا محمد
أركون ـ الذي كانت تحليلاته مثار صمت شديد وصفه أركون بالصمت الرائع الذي
يمكن من التواصل ـ دعا إلى مزيد من الانفتاح على العلوم الانسانية
والاجتماعية، والمشاركة على الأقل في الحد الأدني للثقافة بالمعنى
الاجتماعي الذي يهم مسألة الإنسان. عوض التقوقع داخل خطابات تسجن الفكر من
أجل دعم الفكر النقدي بشرط عدم انتظار الدولة والسياسيين والتيولوجيين.
وهناك إمكانية لتجاوز حالة
الانتظارية. إنها إمكانية لفتح آفاق المستقبل.