نبيل الحميري ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 57 معدل التفوق : 111 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 26/01/2012
| | مفهوم القطيعة في فكر محمد أركون | |
مفهوم القطيعة في فكر محمد أركون بقلم: ضرار بني ياسين
شهد الفكر العربي المعاصر تحولات عديدة فرضتها بعض التيارات الفكرية والفلسفية الغربية، وأثرّت في تكوينه وتحديد اتجاهاته، فضلاً عن التحديات التي بات لزاماً عليه أن يتعامل معها.
ومن الممكن ردّ هذه التحديات إلى عوامل داخلية تتصل بالتخلف التفافي والفكري والعلمي، وبالفشل الذي مُنيت به الدولة الوطنية على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وإلى عوامل خارجية أبرزها الحداثة ومشتقاتها، كالديمقراطية، والعلمانية، والتحديث والتقدم العلمي، وحقوق الإنسان. ولم تغب بطبيعة الحال عن هذه العناصر المجالات النظرية المحمومة غالباً، تلك الإشكاليةُ التي أصبحت شكلاً من أشكال العصاب الجماعي، وهي إشكالية التراث والحداثة ومُتعلقاتهما، كالأصالة والمعاصرة، والتجديد، والنهضة، والتقدم، وما إلى ذلك من متعلقات تثير المشكلات النظرية وغير النظرية.
وفي هذا الخصوص برز العديد من المفكرين العرب المعاصرين الذي قدّموا إسهامات في مجال السجال حول التراث والحداثة، من أبرزهم، حسن حنفي، محمد أركون، محمد عابد الجابري، طيب تينريني، فهمي جدعان وعبد الله العروي.. وجاء خطاب هؤلاء كنوع من المساءلة النقدية والفلسفية للتراث العربي الإسلامي من زاوية علاقته مع الحداثة ومتطلباتها الحياتية الراهنة. كما أنّه يأتي مُتاثراً بالأسئلة العديدة المتصلة بقضايا النهضة والتجديد والتقدم. إذ إن الفكر العربي المنفتح على الفكر العالمي والحداثة وجد نفسه أمام تحديات تحتم عليه مُواجهتها ومحاولة الإجابة عن الأسئلة الخاصة بحاضر الإنسان العربي ومستقبله عموماً.
ويكاد الإجماع يكون متحققاً من وجهة نظر هؤلاء المفكرين وغيرهم، بأن الحداثة بما هي مطلب نهضوي للعالم العربي، تطرح مسألة مناقشتها للتو دون إبطاء قضية التراث. إذ إنه من الصعوبة بمكان البحث في الحداثة من غير أخذ مسألة التراث في الحسبان كمسألة مركزية. وهذا الحقيقة ألقت بثقلها على المفكرين والمثقفين العرب الذين انخرطوا في قراءات عميقة ومتبانية للتراث العربي الإسلامي الكلاسيكي، هي أشبه ما تكون بحفريات أو تفكيكات أو تأويلات أو استنطاقات للتراث. بعضها يزعم أنّه ينطلق من الهم المعرفي – العلمي الإبستمولوجي، وبعضها يخص حضور الهاجس الإيديولوجي، وبعضها الأخير تاريخاني أو تاريخي، وهي وإن كانت جميعها تثمّن التراث بدرجات مُتفاوتة، تختلف كثيراً أو قليلاً في ما بعد، حول مدى العلاقة التي ينبغي أن نقيمها مع التراث، وحول المسافة التي نكون عليها من هذا التراث. وأخيراً حول القيمة المعرفية الراهنة التي شكلها التراث.
أقسى القراءات الخاصة بالثرات تلك التي تذهب بعيداً وتدعو إلى إنجاز قطيعة ما معه وتجاوزه كشرط للوصول إلى إنجاز لحطة التقدم والحداثة. على أننا ينبغي أن نفهم فكرة القطيعة بأكثر من معنى. إذ هناك القطعية المعرفية التامّة، وهناك القطعية التي تعني القطية مع نوع معين من التراث أو حقبة معينة من حقباته، أوحتى مع نظام عقلي وفكري في التراث الأصيل والمبدع، ليُصار في ما بعد إلى تهيئته للدخول في علاقة مُنتجة مع الحداثة.
قدّم المفكّر محمد أركون، صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي، مجهوداً كبيراً على طريق بلورة مفهوم القطعية وتأطيره. ويأتي هذا الجهد في سياق العنوان الكبير: التراث. وقد وجد أركون أن الفكر الإسلامي المعاصر في حاجة ماسّة إلى أن يُدرك معنى القطعية المعرفية ليتمكن من الانتقال من مرحلة الإنتاج الأسطوري والاستهلاك المخيالي للمعاني إلى مرحلة الربط بين المعنى والتاريخية في كل ما يطرحه من مشاكل دينية أو فلسفية أو ثقافية. ولكن ما يعيبه على هذا الفكر هو عدم إقراره بهذه القطيعة، انطلاقاً من رفضه أيّ علاقة مع الفكر العربي وإصراراه على خصوصية إسلامية وأصالة عقلية وعلمية مطلقة، بحيث أنه يعتقد اليوم بأنه في غنى تام عمّا أبدعه التفكير الغربي والبحث العلمي الحاصل خارج دائرة المعارف الإسلامية.
وبطبيعة الحال فإن مفهوم القطيعة المعرفية عند أركون يختلف عنه عند الجابري والعروي وغيرهما من المفكرين العرب المعاصرين الذين استخدموا هذا المفهوم عند قراءتهم للتراث. فمقارنة أركون النقدية والتفكيكية تنطلق من قراءاة خاصة لها إشكالياتها وأدواتها وطرائقها المميزة، والتي حددت طريقة فهمه للتراث ولأنظمة الفكر المنتجة له، وكذا الأُطر الاجتماعية للمعرفة، والمسؤول عن الكيفيات التي حكمت مسيرة التراث، وأبّدت الحقيقة في صورتها أو نموذجها الأرثوذكسي. كل هذا من أجل أن يسهل على الدراس فهم الإشكالية العامّة التي يطرحها علينا هذا التراث في حياتنا المعاصرة، لأننا بناء على هذا الفهم نحدد طرائق تعاملنا معها ونرسم أطر استيعابنا له، فضلاً عن استيعابنا المشكلات النظرية التي يدفع بها ذلك النمط من الخطاب الإسلامي المعاصر.
نظر أركون إلى التراث نظرة نقدية ولكن ليس بالمعنى السلبي للنقد، وهو حينما يقدّم للقارئ مقاربته الخاصة لمفهوم القطعية، فإنه لا يقصد بها الانفصال أو التخلّي النهائي عن التراث أو الدعوة إلى نبذ ما أنتجه القدماء من أفكار ومعارف ونظريات وعلوم، بل رأى أن القطيعة تبدو نتيجة حتمية أو منطقية للتطور التاريخي العام في مجتمع ما أو بيئة معينة، إمّا لأن البنيات الاجتماعية وأطر إنتاج السلطة والمعرفة قد انحلّت وتفككت، وإمّا لأنها تضخمت وازدهرت وقفزت قفزات أبعد وأكتسبت وسائل علمية جديدة أصلح وأغزر.
وفق هذا التوصيف، فإنه بالإمكان التعرف على نوع من القطعية السوسيولوجية تتطلب بدورها قطيعة معرفية. وثمة قطعية معرفية تحدث عندما تتغير نظرة العقل نفسه إلى المعرفة وطرق إدراكة للواقع وتعبيره عن تأويلاته لهذا الواقع. هذه الحالة لا نجد لها حضوراً عندما يستمر التراث الحي بكامل طاقته في التأثير والفعل، ويحول بين العقل ونظرته إلى المعرفة. والمعلوم أن التراث الحي الذي يشكل ديمومة من المشغولية الفعّالة لدى الناس يتمتع بثلاث خصائص تجعل منه تراثاً حياً، هي: وجود استمرارية في النظرة إلى الواقع ومعايير تأويله وتفسيره، ثبات معايير الفهم أو ديمومتها، وأخيراً التكرار الوجودي أو استمرار دورية القيم الأساسية المكثفة داخل التراث الحي. وبحسب أركون فإن ما فعلته الحداثة هو أنها قطعت مع الأوضاع أو قلبتها رأساً على عقب.
نظر أركون إلى التراث نظرة كلّية شاملة، ولم يُهمل منه سواء ما يُعدّ مركزياً أو ما يُعدّ مُهمشّاً، أو ما يقع في دائرة اللامفكَّر فيه أو المستحيل التفكير منه من هذا التراث. وزاد على ذلك بأن أخضع نمطَي التراث، التراث الشفهي والتراث المدوّن، أو الثقافة العالمة أو المكتوبة، لاستراتيجيته النقدية. وهذا هو الخط المنهجي الذي يميز مشروعه النقدي عن مشروع الجابري، الذي توقف في نقد العقل العربي عند حدود الثقافة العالمة حصراً. بينما ذهب أركون إلى ما هو أبعد من ذلك في خياره المعرفي، أي إلى العقل الإسلامي والوعي الإسلامي، بشقيه العالم والشفاهي. لأن التراث يشكل وعي العربي مثلماً يشكل وعي المسلم، ولأن المخيال العربي – الإسلامي يتحرك داخل منظومة تراثية واحدة.
وقد جعل أركون النقد استراتيجية مُستمرة في قراءة التراث، وربط هذا النقد ربطاً محكماً مع مفهوم القطعية، لتتحدد تالياً معالم المنهج الذي يطبقه ويكون جديراً بتحقيق أهداف النقد والتفكيك الذي يذهب إلى أبعد مدى يمكن الوصول إليه. الأمر الذي يُنتج في الخلاصة نوعاً من القراءة العلمية الإبستمولوجية للتراث، من شأنها أن تكشف عن المعنى والحقيقة فيه، وتكشف عن الكثير من السياجات المغلقة التي تحاصر الحقيقة، كما أنها تُظهر مدى الحاجة والعوز في الفكر الإسلامي المعاصر إلى سكّ علم كلام جديد وخطاب ديني جديد يتجاوز وظائف علم الكلام التقليدي القديم ومشغولياته.
تبدو المسألة واضحة الآن بخصوص فكرة القطعية، فالقطعية مزدوجة عند أركون، أو لِنَقُل ثنائية الأبعاد. ثمة قطعية أولى مع المنهج الذي يُستعمل من جانب الباحث لقراءة التراث وتفكيكه وتأويله، وُيقصد به هنا المنهج الاستشراق الوصفي أو الفيللوجي وأيضاً المنهج الكلاسيكي الإسلامي، الذي يكتفي بالسرد والوصف الخطي للفكر والتاريخ الإسلاميين، من دون التدخل، والتعرية، والنقد، واستبدال استراتيجية منهجية تعتمد على التكاملية أو التعددية في المناهج الإسلامية المعاصرة به، وهي التي أوحت لأركون بفكرة منهجية دعاها “الإسلاميات التطبيقية”.
ثم هناك قطيعة ثانية ضرورية تكون مع نوع من الخطاب الإسلامي الذي يتبنى حقيقة ثابتة وراسخة تستمد مشروعيتها من القاعدة الاجتماعية، وتترسخ تاريخياً بما يدعوه أركون بـ”الأرثوذكسية”، أو الصراطية، التي هي حالة من الدوغما والتمامية في الاعتقاد والفكر، تكون نتيجتها استبدال نوع آخر من الحقيقة بهذه الحقيقة ، هذا النوع هو الحقيقة العلمية التي يكشف عنها المنهج والتفكيك والنقد، ويقدمها كما هي في صيرورتها وتاريختها ونسبيتها.
تبرز إذن الإسلاميات التطبيقية كخيار أو ثورة منهجية غير مسبوقة بنظر أركون، لأنها تتقاطع مع القراءات السابقة للفكر الإسلامي وتناهض الأيديولوجيا التراثية، بل تعمل على إقصائها كونها تزيف حالة الوعي بالحقيقة وتحجب المعنى. وهو قد قصد بهذه الممارسة النقدية وضع العقل الإسلامي في مواجهة نقدية مع نفسه، بغرض تحريره من سياجاته الدوغمائية، ومن أنظمة الفكر الرسمية الشغّالة منذ قرون، والمسؤولة عن إنتاج نوع معين من التيولوجيا التقليدية التي يتبناها كل تيار تراثي دفاعاً عن معتقده، وعن الحقيقة الخاصة به، والتي كانت ضارّة جداً بالتراث الذي تعاملت معه بطريقة تجزيئية انتقائية على مدى قرون، وما تزال تفرض نفسها على المجتمعات الإسلامية حتى اليوم.
لا بُدّ لنا أن ندرك حقيقة التصميم الخاص بأركون في هذه المنهجية الجديدة المسّماة “الإسلامية التطبيقية”، وهو الوصول بالتراث إلى التموضع بقوة في قلب الفكر المعاصر، وإلحاقه بمجمل الإنجازات التي حققتها الأنثروبولوجيا الدينية. وتُعدّ هذه محاولة جريئة لإخضاع التراث والفكر الإسلامي إلى نوع من التأويلية المعاصرة، وإلى المقُاربة أو المُمارسة العلمية متعددة الاختصاصات والمناهج.
التراث عند أركون ليس تراثاً واحداً، بل هو في حقيقة الأمر تراثات، ومهمة الإسلاميات التطبيقية تكمن في الدرجة الأولى في تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة التراث الواحد الذي دأب على إعادة إنتاج نفسه. وهكذا تتمكن الإسلاميات التطبيقية الخروج من مأزق القطيعة التاريخية التي تكرّست في الإسلاميات الكلاسيكسية. أي انقطاع الفكر الإسلامي المعاصر عن مرحلة امتدت من القرن الثاني حتى القرن الخامس الهجري، والموسومة دائماً بمرحلة الإنجاز والإبداع على أكثر من صعيد.
ولأن القطعية تستدعي الوصل مع التراث من زاوية التأسيس المنهجي الخاص بأركون، فقد شعر أن المهمة التي تقع على عاتقة تتمثل بوصل الفكر الإسلامي المعاصر بلحظة الإبداع الكلاسيكي الذي شهده الفكر الإسلامي، قبل أن يتراجع لصالح اللحظة (السكولاستيكية) أو المدرسية الموسومة عنده دائماً بالجمود والتكرار، والتي فرضت نفسها طيلة قرون وطمست مرحلة الإبداع والانفتاح، وحجبت الفكر الأصيل. ومهمة أركون هنا بالضبط هي القطيعة أو الفصل/ والوصل والربط. أي تأسيس قطيعة مع هذه الفترة الأخيرة وإعادة الوصل بلحظة الإبداع الكلاسيكي، كنوع من القطيعة بين تراثين مختلفين.
نحن إذن أمام استراتيجياً محكمة تتداولها الانشغالات المعرفية والمنهجية، وتتكئ على ثابتين اثنتين، هما التفكيك والتأويل، تتخللهما قراءة خاصة بهذين الثابتين، وكلاهما يحيل إلى المنهج الذي اعتمده أركون ويقطع مع المناهج الأخرى التي تشاطره قراءة التراث وربطه باشكالية الحداثة. ولا يمكن فهم القطعية إلاّ عبر هذه الانشغالات المعرفية التي حددها أركون، وغايتها حصول ثورة فكرية تقوم في العقل الإسلامي، تكون بمثابة تحرير ثانٍ للمجتمعات الإسلامية بعد أن تم التحرير السياسي.
| |
|