هل أركون فيلسوف؟
وبأي معنى؟
أولا ينبغي الاعتراف بأن أركون نادرا ما ان يصف نفسه بالفيلسوف.بل وكان يبدي بعض الامتعاض عندما يطلق عليه أحدهم هذا النعت. كان يفضل دائما ان يقول بأنه باحث- مفكر، او باحث-مفكر- مدرس. وكنت أستغرب هذا التواضع من قبله. فقد بلغ من العلم ذروة تؤهله لأن يوصف بالفيلسوف. ولكن ربما كانت كلمة فيلسوف سلبية في نظره كما في نظر صديقه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. وقد تعرضت هذه الكلمة للانتقاد في البيئات الفرنسية الطليعية باعتبارها دالة على المفكر التجريدي الذي يهوم في متاهات الفراغ ويثرثر الى ما لانهاية عن أشياء ميتافيزيقية وهمية بدون أي مرتكزات محسوسة أوملموسة على أرض الواقع.بمعنى انها كلام عويص غامض لا معنى له في نهاية المطاف. ومعلوم ان بول ريكور، صديق اركون وأستاذه، كان يحث الفلاسفة على الاهتمام بالعلوم الانسانية التجريبية او الميدانية وممارستها والاطلاع عليها قبل ان يتفلسفوا وينظّروا ويستخلصوا القوانين العامة. والا فان تنظيراتهم تجيء مجانية ولا قيمة لها لانها غير مرتكزة على وقائع محسوسة وتحليلات دقيقة مستقاة من معاينة الواقع الاجتماعي والتاريخي.بهذا المعنى الأخير وبه وحده يمكن وصف اركون بالفيلسوف.فالرجل كان مفكرا واقعيا وايجابيا يريد ان يصل الى نتيجة مفيدة للبشر وبخاصة للمسلمين الذين يتوجه اليهم بالحديث. كان يريد اخراج المسلمين من ورطتهم بأي شكل. كان يريد تحريرهم من التصورات الخيالية الموروثة المتراكمة والعقائد الدوغمائية المتحجرة والسجون الفكرية والأقفاص..كان يريد تحريرهم من اليقينيات الاطلاقية التي تتخذ صفة القداسة والمعصومية وهي في الواقع بشرية بل و"بشرية زيادة عن اللزوم"أي مغرقة في بشريتها كما يقول نيتشه في تعبير شهير.ولكن الناس قدسوها بمرور الزمن وتعاقب القرون بعد ان طُمست كليا لحظة نشوئها وتأسيسها.فأصبحوا يتوهمون بأنها متعالية على التاريخ البشري في حين انها تاريخية وبشرية بالكامل. وهنا تكمن أهمية المفكرين الكبار الذين يعرفون كيف ينبشون على جذور العقائد الغائصة في أعماق الزمن السحيق.انظر المنهجية الجنيالوجية لنيتشه او الاركيولوجية لفوكو او حتى الجيولوجية التي تصل الى أعمق طبقات الارض التحتية.الى هذا الجنس من المفكرين الكبار كان ينتمي محمد أركون.وأزعم بأنه الوحيد الذي كان يمتلك هذه المقدرة من بين كل مثقفي العرب والاسلام.
على أي حال فسواء أأطلقنا عليه لفظة الفيلسوف او مصطلح الباحث-المفكر فان النتيجة واحدة.ولكن اذا كان هناك خلاف على التسمية فلا أحد يشك بأنه كان مفكر النزعة الانسانية في الاسلام.فقد أمضى حياته في دراستها:بها ابتدأ حياته العلمية وبها اختتمها.لنتذكر كتابه الكبير الاول الصادر عام 1970 بعنوان:النزعة الانسانية العربية في القرن الرابع الهجري(1).ولنتذكر كتابه الكبير الثاني الصادر عام 2006 بعنوان:النزعة الانسانية والاسلام.معارك فكرية ومقترحات للمستقبل(2).وبينهما تفصل مسافة اربعين سنة تقريبا.طيلة اربعين سنة بل وخمسين سنة بل وحتى طيلة حياته العلمية كلها ما انفك اركون يحوم حول مسألة النزعة الانسانية ويدور.وقد دار عليها من كلتا الجهتين:العربية الاسلامية،والاوروبية المسيحية والعلمانية.يخطيء من يظن ان اركون كان ينتقد فقط الجهة الاسلامية او العربية بسبب اهمالها للنزعة الانسانية بعد أفول العصر الذهبي والدخول في عصر الانحطاط.على العكس.فقد كان ينتقد بشدة ايضا خيانة الغرب للنزعة الانسانية حتى بعد انتصار التنوير والحداثة فيه.بل وكان يعتب على الغرب اكثر لانه تنور وتحضر وبالتالي فلا عذر له اذا ما داس على النزعة الانسانية بقدميه او ضرب بها عرض الحائط كما يفعل الاصوليون الجهلة عندنا.فالظاهرة الاستعمارية مثلا حصلت بعد ان استنارت اوروبا وتطورت وخرجت من المرحلة الاصولية المسيحية وليس قبلها.والاستعمار في رأيه يمثل ظاهرة مضادة كليا للنزعة الانسانية(3).
كيف قضت الارثوذكسية على النزعة الانسانية؟
أفول العصر الذهبي للعرب:
لكن لنعد الى المصطلح ذاته. ينبغي العلم بأن التحدث عن وجود نزعة انسانية في الاسلام يثير غضب الغربيين ودهشتهم وعدم تصديقهم نظرا لانحطاط العالم الاسلامي على مدار عدة قرون.ثم نظرا لأعمال العنف والتفجيرات الارهابية التي تصيب المدنيين العزل والتي تحصل للأسف الشديد باسم الاسلام حاليا. فقد ارتبط اسم هذا الدين الحنيف بالعنف شئنا ام أبينا بعد ضربة 11 سبتمبر وتفجيرات مدريد ولندن وبالي وشرم الشيخ وعمان والرياض والدار البيضاء والجزائر الخ..هذا دون ان ننسى ما حصل مؤخرا في كنيسة النجاة ببغداد،او كنيسة القديسين بالاسكندرية. ولذا فلم يعد أحد يعتقد بوجود ذرة من النزعة الانسانية عندنا او في تراثنا. والواقع انه عندما نسمع التصريحات الحامية للاصوليين العتاة التي تكفر ثلاثة أرباع المعمورة وتهددهم بالذبح والقتل فاننا نكاد نشك في كل شيئ.. ومع ذلك فان اركون يصر على القول بان الاسلام شهد المرحلة الانسانية والتنويرية من تاريخه قبل اوروبا بزمن طويل.فهو يرى ان التيار الانساني انوجد بالفعل بين القرنين الثامن والثالث عشر للميلاد: أي منذ لحظة المأمون والمعتزلة والترجمات الكبرى وحتى لحظة ابن رشد. ولكنه بلغ أوجه في عهد البويهيين ابان القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري. وهو العصر الذي عاش فيه مسكويه والتوحيدي وابو الحسن العامري وأبو سليمان المنطقي والمتنبي وكل ذلك الجيل. فقد استلم البويهيون السلطة عام 945 وأتاحوا للنخب الكوسموبوليتية المتعددة الطوائف والأعراق ان تتفاعل فيما بينها وتبدع أدبا وعلما وفلسفة في ظل الحضارة العربية الاسلامية. وقد وحدهم على الرغم من اختلاف مشاربهم وأصولهم العرقية والدينية انتسابهم الى نفس المثال الأعلى الفلسفي الادبي المؤمن بوجود حكمة خالدة في مختلف التراثات البشرية. وهي حكمة ينبغي على المفكر المسلم ان يبحث عنها ويهتدي بضوئها. ويرى اركون ان الشروط التي أمنت تفتح الموقف الانساني وازدهاره في تلك الفترة كانت سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولكن انطلاقا من القرن الحادي عشر وسيطرة السلاجقة الاتراك على الحكم زالت هذه الظروف المحبذة للفكر العقلاني وابتدأ السقوط والانحدار في المشرق على الأقل. وعندئذ انتصرت النزعة الفقهية الدوغمائية الضيقة التي يدعوها اركون بالارثوذكسية الصارمة التي لا تسمح بالتعددية والانفتاح على الثقافات الأخرى من يونانية وفارسية وهندية الخ..والارثوذكسية الحنبلية تزعم بأنها تمتلك الحقيقة الالهية المطلقة وكل ما عداها ضلال وانحراف.وقد قضت هذه النزعة الدوغمائية المتحجرة على كل التيارات التي كانت موجودة في الساحة من معتزلية وفلسفية وأدبية وجغرافية وتاريخية مبدعة. كما وحاربت كل المذاهب الاسلامية الاخرى من شيعية واباضية وحتى سنية منفتحة تأخذ بالرأي والعقل كالحنفية مثلا.ومعلوم ان هذه التيارات كانت تتعايش مع بعضها البعض في نوع من التنافس الصراعي المحموم وأحيانا الأخوي. نعم كانت هناك تعددية في الاسلام الكلاسيكي او قل في العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الاسلامية.
وكان السني والشيعي والمعتزلي بل وحتى المسيحي واليهودي يتعايشون مع بعضهم البعض ويتناقشون ويتصارعون فكريا دون ان يلغي أحدهم الآخر.كانت هناك تعددية او حرية نسبية بقدر ما يسمح به سقف العصور الوسطى بالطبع. أما بعد ذلك فقد انقطع الاسلام الشيعي عن الاسلام السني وأصبحا وكأنه يفصل بينهما سور الصين العظيم! أصبحا وكأنهما عدوان لدودان لا علاقة تربط بينهما.. نقول ذلك على الرغم من انهما ينتميان الى نفس الدين ونفس النبي ونفس الكتاب.هذا ناهيك عن اللغة العربية والأدب والشعر والنثر.. كل هذا يجمع بينهما.ومع ذلك فان المرء يعتقد أحيانا بأنهما ينتميان الى دينين مختلفين ولا علاقة بينهما على الاطلاق!كل هذه الافكار الجامدة والجدران الفاصلة بين المذاهب والفرق الاسلامية ترسخت ابان عصور الظلام الطويلة:أي عصور الانحطاط.ونحن ورثتها بشكل مباشر.من هنا حجم الصراع الطائفي الرهيب الذي نعيشه اليوم.والطائفية عدو لدود للنزعة الانسانية تماما كالعنصرية.فكل من لا ينتمي الى طائفتي او مذهبي يصبح أقل من انسان او حتى أقل من حشرة! بل ويباح دمه شرعا.انظر الاغتيالات او الذبح على الهوية في أوروبا القرون الوسطى او في العالم الاسلامي اليوم او في لبنان ابان الحرب الأهلية. وبالتالي فنحن لسنا ورثة التراث الاسلامي الكبير المستنير. وبعد القضاء على التعددية الدينية والفلسفية في المشرق بقرن او اكثر قضي عليها في المغرب والاندلس ايضا وهكذا انطفأت أنوار العالم الإسلامي. ومن أعظم الشخصيات التي جسدت هذا الموقف الانساني المنفتح يذكر اركون أسماء الجاحظ والكندي والفارابي وابن سينا ومسكويه وأبي سليمان المنطقي والتوحيدي وابي الحسن العامري وعشرات غيرهم..
ويرى اركون ان القرآن الكريم سمح بتعددية المعنى والاتجاهات الفكرية المختلفة نظرا للغة المجازية العالية التي يستخدمها في أحيان كثيرة. وهي لغة تنفتح على احتمالات وآفاق معنوية واسعة. وبالتالي فالحق ليس عليه في ضمور النزعة الانسانية او ذبولها وزوالها وانما على الفقهاء وتركيباتهم اللاهوتية الصارمة التي تحدد تخوم الاسلام الارثوذكسي التي لا ينبغي تعديها بأي شكل.هناك فرق أساسي بين لغة القرآن ولغة الفقهاء. لقد حصر هؤلاء القرآن في تفسير ضيق جامد متعصب كاره للفلسفة والعقل والعلم. واستمر الأمر على هذا النحو حتى يومنا هذا. انظر حالة مشائخنا المعاصرين الذين لم يقرأوا كتابا واحدا في الفلسفة هذا في حين ان علماء المسيحية في اوروبا من أمثال هانز كونغ والبابا الحالي وسواهما يعرفون تماما تاريخ الفلسفة القديمة والمعاصرة وعلاقتها بعلم الدين او اللاهوت.
زحزحة التصورات التراثية وتجاوزها:
من اللاهوت الى الفلسفة والعلوم الانسانية:
ولكي نعيد للموقف الانساني اعتباره في العالم العربي والاسلامي كله ينبغي ان نطبق على كل تراث الاسلام ثلاث عمليات فكرية راديكالية: الانتهاك، الزحزحة، التخطي او التجاوز. ماذا يعني ذلك؟ انه يعني ضرورة انتهاك التابوات او المحرمات التراثية المتراكمة على مدار الأجيال والقرون.ينبغي انتهاك كل المقولات والفتاوى الدوغمائية التي شكلها الفقهاء الاوائل لانها تقود الى التعصب والتطرف.اذن لابد لنا من الخروج من سياج الدوغمائية اللاهوتية القروسطية التي لا تزال مسيطرة علينا حتى اليوم. ثم زحزحتها في اتجاه فضاء المعقولية الذي دشنته الحداثة العلمية والفلسفية في الغرب منذ عصر النهضة وحتى اليوم.ماذا يقصد بالزحزحة هنا؟انها تعني القيام بتحويل المفاهيم الاسلامية القديمة من الحقل اللاهوتي الى حقل الألسنيات الحديثة وكذلك حقل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ الخ.لماذا؟لأن العلوم الانسانية الحديثة تشكل حقولا معرفية محسوسة على عكس مجردات علم اللاهوت ومفاهيمه القديمة.وعندما نقوم بعملية التحويل هذه فاننا سنكتشف أشياء ما كان بالامكان اكتشافها لو ظللنا مسجونين داخل اطار النظرة اللاهوتية القديمة.فنحن اليوم لا نمتلك الا النص القرآني الذي بني عليه كل شيء.وهو نص لغوي مثل كل النصوص.وبالتالي فلا بد من استقرائه وتطبيق المنهجية الألسنية واللغوية عليه لكي نفهمه على حقيقته. كما وينبغي تطبيق المنهجية التاريخية والاجتماعية والتحليل النفسي. و بعدئذ يتبين لنا الفرق واضحا جليا بين التفسيرات التراثية والتفسيرات الحديثة. وعندئذ نستطيع ان نحدث القطيعة مع كل النزعة التراثية الماضوية والمفاهيم التقليدية التي تقسم الناس الى مؤمن/ وكافر،الى فرقة ناجية/ وفرق ضالة، الى طاهر/ ونجس،الى حلال/وحرام الخ.انظر انتهاك المحرمات الغذائية او الشرابية او الجنسية من قبل الحداثة. وهذه العمليات الثلاث تنطبق على جميع الأديان وليس فقط على الاسلام. بعد ان نقوم بكل ذلك يمكن ان نتجاوز الرواسب التراثية باعتبار انها تنتمي الى فضاء عقلي قروسطي، أي الى عصر مضى وانقضى. هذه هي احدى المنهجيات التي يتبعها اركون في العمل وتجديد التراث.فلا يمكن الكشف عن تاريخية هذه المقولات اللاهوتية التي تتخذ طابع التقديس الا بعد تطبيق المناهج الحديثة على التراث الاسلامي تماما كما فعل فلاسفة أوروبا مع التراث المسيحي.
الفرق بين الفضاء العقلي القروسطي
والفضاء العقلي الحديث:
واذن فلا تكفي العودة الى هذا التراث الانساني والعقلاني الكبير لكي تنحل المشكلة العويصة التي نواجهها حاليا والمتمثلة بسيطرة الاصولية الظلامية المتطرفة على الشارع العربي بل والاسلامي من موريتانيا والمغرب الأقصى وحتى الباكستان. فهذه الانجازات الفكرية على الرغم من أهميتها تظل تنتمي الى النظام المعرفي الخاص بالقرون الوسطى:أي أنها تستظل بسقف العصور الوسطى بما فيها فلسفة الفارابي او ابن رشد الاكثر عقلانية. وبالتالي فهي تعود الى عصر ما قبل الحداثة التي نعيشها حاليا. صحيح انها كانت تشكل حداثة عقلانية في وقتها ولكن الزمن تجاوزها الآن لأنه تفصل بيننا وبينها عشرة قرون.وابن رشد ليس كانط ولا هيغل! ربما كان الفارابي هو الأقرب من بين جميع مفكرينا الى الفضاء العقلي للحداثة. هذا ماقاله أركون أمامنا في سهرة عشاء في أحد المطاعم الباريسية. وأذكر أيضا انه كشف لنا في مناسبة أخرى عن عظمة ابن رشد ومحدوديته في ذات الوقت.كان ذلك أثناء أحد دروسه الهامة في السوربون.فابن رشد على الرغم من عبقريته ما كان يستطيع ان يذهب الى أبعد مما ذهب اليه في عصره. ولكن من المهم جدا ان يتعرف طلبة المدارس والجامعات العرب على نظريات فلاسفتنا القدامى وأطروحاتهم الفلسفية والدينية والاخلاقية. من المهم ان يتعرفوا على وجود تيار آخر في التراث غير التيار السلفي المتزمت الذي يهيمن علينا اليوم.لا يكفي ان يتعرفوا على الغزالي او ابن تيمية او سواهم من زعماء التيار السلفي المعادي للفلسفة. وانما ينبغي ان يطلعوا ايضا على الفارابي وابن سينا.. وبعد التعرف على هذه الاطروحات الفكرية الجريئة والتي كانت تمثل ذروة الحداثة في وقتها يمكن ان نضيف اليها التعرف على انجازات الحداثة التي حصلت في اوروبا بعد القرن السادس عشر: أي بعد ان توقفنا نحن عن العطاء الحضاري.
مصطلح الأنسنة ام النزعة الانسانية؟
لكن لنعد الى الوراء قليلا. في عام 1961 عين محمد اركون معيدا في جامعة السوربون. وراح عندئذ يحضر أطروحته لدكتوراه الدولة التي استغرقت منه عشر سنوات تقريبا. وعندما أنهاها عينوه استاذا ذا كرسي. واستمربعد ذلك لسنوات طويلة يوسعها ويرسخ نتائجها ويضيف اليها أبحاثا جديدة ونتج عن ذلك كتاب كامل بعنوان: مقالات في الفكر الإسلامي(4). أما الأطروحة فكان عنوانها الكامل اذا ما ترجمناه حرفيا عن الفرنسية هو التالي: النزعة الانسانية العربية في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. مسكويه فيلسوفا ومؤرخا. وقد اختلفت معه كثيرا حول ترجمة هذا المصطلح الاوروبي: هيومانيزم. وعلى الرغم من اصراري على مصطلح النزعة الانسانية كمقابل له الا انه أصر على كلمة الأنسنة وفرضها في نهاية المطاف بل واشتق كلمة جديدة في اللغة العربية من خلالها. مهما يكن من أمر فان اركون أثبت وجود نزعة انسانية حقيقية في العالم العربي الإسلامي وفي القرن العاشر الميلادي بل وحتى قبل ذلك. لقد برهن على ذلك من خلال تحليله لأعمال مسكويه والتوحيدي وسواهما من مفكري ذلك الجيل. وقال بان النزعة الانسانية والعقلانية العربية سبقت النزعة الانسانية الاوروبية في عصر النهضة بخمسة او ستة قرون على الأقل. ولكن المستشرقين لا يعترفون بذلك ويصرون على القول بان العرب لم يعرفوا النزعة الانسانية في تاريخهم وان هذه النزعة محصورة بالقرن السادس عشر وعصر النهضة في ايطاليا ثم كافة أنحاء اوروبا. وبالتالي فهي حكر على الغرب وثقافته فقط.
وقد جرت معركة حامية الوطيس أثناء مناقشة الاطروحة بعد ان أصر اركون على موقفه وقال بان كبار مفكري العرب والاسلام عرفوا هذه النزعة الانسانية العقلانية عندما مزجوا بين التراث الإسلامي والفلسفة الاغريقية لا رسطوطاليس وافلاطون على وجه الخصوص. فقد كانوا عقلانيين ومتسامحين في فهمهم للدين الإسلامي الى درجة تدهشنا حتى اليوم. ويكفي ان نقرأ كتب الجاحظ والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والرازي ومسكويه والتوحيدي وابي الحسن العامري وعشرات غيرهم لكي نتأكد من ذلك.
صعود النزعة الانسانية العربية الاسلامية وسقوطها:
ولكن هذه النزعة الانسانية ضمرت وماتت بعد وصول السلاجقة الاتراك الى الحكم والدخول في عصر الانحطاط كما ذكرنا سابقا.فقد أدينت الفلسفة بل وكفرت من قبل الغزالي كما هو معلوم.وترسخ تكفيرها في العقلية الجماعية الاسلامية بعد ان أدانها ايضا كبار الفقهاء الذين تلوه منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. وأصبحنا بعدئذ عاجزين عن مناقشة الشؤون الدينية بنفس الحرية الفكرية والعقلانية النقدية التي كانت سائدة ابان العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الاسلامية. من يستطيع الآن في عصر الاصوليات الهائجة لبن لادن والظواهري والزرقاوي ان يتحدث عن وجود نزعة انسانية في الاسلام؟ مستحيل.من يستطيع ان يناقش المسائل الدينية كما كان يناقشها المعتزلة والفلاسفة والأدباء والشعراء الكبار؟ اين هم أمثال الفارابي وابن سينا وابي نواس وابن رشد والمعري وعشرات الآخرين؟ عندما سألت اركون عن المعري قبل سنوات عديدة قال لي: لا أستطيع ان أحكم عليه لاني لم أدرسه بالشكل الكافي حتى الآن.درست التوحيدي بالدرجة الأولى. ولكن المعري يظل منارة ساطعة واستثناء لا مثيل له في كل التاريخ العربي الإسلامي. انه ذو قامة عالية لا تضاهيها أي قامة أخرى. ولم يمجد أحد العقل مثلما مجده ولم يعطف على الانسان بل وحتى على الحيوان شخص آخر مثلما فعل هو. وبالتالي فنزعته الانسانية كانت بلا حدود. من يستطيع ان يستشهد بالمعري الآن في كليات الشريعة والمعاهد الدينية التقليدية ؟ انهم يكفرونه ويلعنونه ويعتبرونه أحد زنادقة الاسلام الثلاثة بالاضافة الى التوحيدي وابن الراوندي. وأتذكر بهذا الصدد الحكاية الشخصية التالية: عندما كنت لا أزال طالبا في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية كان أستاذنا للتربية الدينية هو الشيخ محمد أديب قسام رحمه الله. وكنت أحب دروسه وأنتظرها بشوق نظرا لفصاحته الأزهرية ومنهجيته التربوية وشخصيته القوية. وفي احدى المرات بعد ان دخل القاعة وقبل ان يبتديء الدرس وكان واقفا أمامي لاني كنت جالسا في الصفوف الاولى تجرأت وسألته على حدة تقريبا: أستاذ: ما رأيك بالمعري؟ فهز رأسه قليلا وربما مسد لحيته طويلا ثم نظر الي وقال: نحسن الظن، نحسن الظن..ولا أزال ابتسم بل وأكاد أضحك عندما أتذكر الحادثة لاني سألته عنه في الواقع كشاعر وأديب كبير وما خطرت على بالي اطلاقا مسألة تدينه او عدم تدينه،ايمانه ام زندقته كما يقول القدماء..أما هو فأجابني عنه دينيا ولاهوتيا فورا . وهذا شيئ طبيعي لانه رجل دين. وما كان ينبغي ان أستغرب الأمر.
ومع ذلك فقد كان جوابه متسامحا قياسا الى رجال الدين الآخرين الذين يكفرون المعري فورا ويلعنونه ولا يحسنون الظن..مهما يكن من أمر فان الجمود الفكري والفقهي الذي حصل بعد تلك الحقبة المبدعة من التراث غطى عليها الى درجة اننا نسيناها ولم نعد نعرفها ثم غطت عليها ايضا المرحلة العثمانية المتخلفة التي حولت التراث الى قوالب متحنطة ولم تضف فكرة جديدة واحدة طيلة اربعمائة سنة من تاريخها. وبالتالي فنحن ورثة عصور الانحطاط والظلام لا عصور الابداع والازدهار. ولذلك لا يستغربن أحد الوضع المزري الذي وصلنا اليه اليوم. لا يستغربن أحد سيطرة السلفيين المتزمتين على الشارع العربي.انظر كيف يرعبون الآن الناس في مصر حتى بعد الثورة الكبرى وميدان التحرير!انظر المصطلح الجديد:غزوة صناديق الاقتراع! ولهذا السبب نقول: نحن بحاجة الى اعادة استكشاف لتلك الحقبة المبدعة من تاريخنا من اجل التعرف على التيارات الانسانية والعقلانية في تراثنا. فتراثنا ليس كله أصوليات متزمتة او ظلاميات فكرية متحجرة كما تزعم وسائل الاعلام الغربية او قسم كبير منها. تراثنا كان منارة للبشرية في فترة من الفترات، وحضارتنا كانت أعظم الحضارات لعدة قرون. وأنا أفتخر بان أسلافي هم أشخاص من نوع المأمون والنظام وابي العلاء المعري وابن المقفع وحنين بن اسحاق وجابر بن حيان وابي بكر الرازي وابن الطفيل وابن باجة والتوحيدي وابن سينا وابن عربي وعشرات الآخرين. وبالتالي فتراثنا تراثان او وجهان ككل التراثات البشرية: وجه مشرق ووجه معتم،وجه أصولي ووجه تنويري. ولكن المشكلة هي اننا لا نحتفي الا بالوجه المعتم وننسى الآخر المضيئ حتى لكأنه ليس منا. لقد تنكرنا له وطمسناه الى درجة أنه اختفى كليا عن الأنظار والى درجة ان الاسلام ككل أصبح متطابقا مع التيار السلفي فقط. وهذا اكبر دليل على مدى انحطاطنا الحالي وتدهورنا. ولذلك نقول نعم ينبغي تدريس نصوص الفارابي وابن سينا والمعتزلة وابن رشد وسواهم في مدارسنا الثانوية وجامعاتنا ولكن مع اضافة نصوص ديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل الخ..وهكذا نجمع بين التنوير العربي والتنوير الاوروبي الذي لحقه مباشرة وتجاوزه وأضاف اليه الكثير بعد ان استوعب أهم انجازاته.
ما معنى النزعة الانسانية؟
لكن لنعد الى موضوعنا الاساسي ولنطرح هذا السؤال: ما معنى النزعة الانسانية؟ ولماذا اختفت من العالم الإسلامي طيلة قرون ولا تزال؟لماذا يبدو الاسلام الحالي مكشرا عن أنيابه،عبوسا قمطريرا؟لماذا يرعب البشرية بأسرها؟ على هذا السؤال المزدوج يجيب اركون قائلا بما معناه: النزعة الانسانية تعني محبة الانسان واحترامه باعتباره اجمل كائن على وجه الارض. انها تعطي ثقتها للانسان العاقل وتعتقد بانه قادر على انجاز الاشياء العظيمة ولولاه لما عمرت الارض. والموقف الانساني يعني ان نتساءل باستمرار عما يفعله الانسان بأخيه الانسان وبالطبيعة. هل يحترمهما ويحرص عليهما ام لا؟ اذا كان الجواب بالايجاب فان الموقف يكون انسانيا والا فلا. ثم يستشهد اركون في مقدمة أحد نصوصه بكلمة رائعة للكاتب الالماني الشهيرغوته يقول فيها ما معناه: ان الحقد العنصري او القوموي شيئ غريب فعلا. فنحن نجده دائما قويا وعنيفا في الدرجات الدنيا من الثقافة. ولكن ينبغي العلم بانه توجد درجة عليا من الثقافة تقف فوق القوميات المتعصبة المنغلقة على ذاتها. وعندما تسود هذه الثقافة النبيلة العليا فاننا نشعر بسعادات الأمم الأخرى ومصائبها وكأنها سعاداتنا ومصائبنا. هذه الدرجة العليا من الثقافة والفكر تتناسب فعلا مع طبيعتي النفسية.
كم هو جميل كلام غوته هذا! ربما كان يمثل أجمل تعريف للنزعة الانسانية قرأته في حياتي. فأنا لا يمكن ان أكون انسانيّ النزعة اذا ما تعاطفت فقط مع أبناء جنسي اوديني اوطائفتي. وانما ينبغي ان أنفتح اكثر لكي أستطيع التعاطف مع آلام الانسان في كل مكان وأيا يكن دينه او قوميته او مذهبه.قد يبدو هذا الكلام نوعا من الغوغائية او المزايدة الديماغوجية.ولكن ليس المقصود ان نكره أصولنا وانما ان نحبها دون ان نكره الآخرين بالضرورة. يبقى السؤال مطروحا: من يستطيع ان يقاوم نزعاته التعصبية ويرتفع الى هذا المستوى الثقافي الكوني الأعلى؟ ربما غوته والمعري وبعض الآخرين من العظماء..اذا ما ترجمنا كلام غوته حرفيا بالنسبة لسياقنا الراهن فانه يعني ادانة لكل النزعات الطائفية والمذهبية سواء أكانت مسيحية ام اسلامية، شيعية ام سنية الخ.ومعلوم ان هذه النزعات هي التي تمنع الدول العربية اليوم من تحقيق الوحدة الوطنية كما فعلت الأمم الحديثة كفرنسا والمانيا التي عانت كثيرا ايضا من الصراعات الطائفية.كما وتمنعهم من الدخول في عصر الحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان.هناك ايضا كلمة رائعة لمونتسكيو يقول فيها:أنا انسان قبل ان أكون فرنسيا!بمعنى أني فرنسي بالولادة والصدفة ليس الا.وهذا أكبر تسفيه لفكرة العنصرية او الطائفية.فعلى غرارها يمكن القول:أنا مسيحي او مسلم،سني او شيعي،بالولادة والصدفة ليس الا.وبالتالي فلماذا كل هذا التعصب والتقوقع؟ لماذا كل هذا التمجيد للذات واحتقار الآخر المختلف؟فقد كان يمكن ان أولد في طائفته او مذهبه لو شاءت الأقدار.الأشياء نسبية اكثر مما نظن.وقيمتي لا تكمن في أني ولدت في هذه الطائفة او تلك وانما أستمدها من المزايا الشخصية التي قد أتحلى بها او أكتسبها بالجهد والعرق والصبر. ولهذا السبب سقطت النزعات القومية والاصولية المتعصبة لانها تحتقر كل انسان لا ينتمي الى دينها او قوميتها او طائفتها. أقول سقطت وكان ينبغي ان أضيف في البلدان الحضارية المتقدمة فقط. أما عندنا فلاتزال مترعرعة، مزدهرة، تملأ الشارع العربي والاسلامي من أقصاه الى أقصاه. ولهذا السبب لا يمكن القول بانه توجد نزعة انسانية في العالم الإسلامي او العربي اليوم.لا توجد نزعة انسانية في عصر "الهويات القاتلة" كما يقول أمين معلوف.ولا يمكن ان توجد ماداموا ينظرون اليك من خلال هويتك الطائفية غصبا عنك.انك مسجون داخلها شئت ام أبيت.وهنا تكمن احدى الصفات السلبية الاساسية لمجتمعات القرون الوسطى: أي مجتمعات ما قبل الحداثة.من يعرف ما هي الهوية المذهبية لانجيلا ميركل التي تحكم المانيا اليوم؟انها تنتمي الى الاغلبية البروتستانتية.ولكن ماذا عن هيلموت كول الذي حكمها لسنوات طوال بل ووحدها؟انه ينتمي الى الاقلية الكثوليكية في بلد مارتن لوثر.ولكن الشعب الالماني تجاوز كل هذا بعد ان فكك التنوير(الافكلارونغ) كل الانغلاقات الطائفية والمذهبية وفتح المجال أمام تشكل النزعة الوطنية والانسانية الواسعة.هذا الشيء لم يحصل حتى الآن في العالم العربي.ولذلك فان النعرات الطائفية مترعرعة ومزدهرة وتهدد بالحروب الاهلية والمجازر. ما لم تتراجع العصبيات الفئوية والمذهبية والعرقية والطائفية، ما لم تنحسر التيارات الاصولية المتشددة وغير المتسامحة فلا يمكن للنزعة الانسانية ان تعود لكي تملأ ربوعنا كما حصل سابقا أيام ازدهارنا الحضاري. ولكن نفس الشيئ يمكن ان يقال عن التيارات المتطرفة في الغرب من أقصاه الى أقصاه وحتى اسرائيل التي تشكل امتدادا له او جزءا لا يتجزأ منه. فهنا ايضا توجد عنصرية وطائفية وحقد مسبق على كل ما هو عربي او مسلم. فليرد الغرب سفهاءه ومتطرفيه عنا لكي نرد عنه سفهاءنا ومتطرفينا. واحدة بواحدة. والافلن يحصل حوار حضارات حقيقي ولا من يحزنون..
نعم لقد وجدت نزعة انسانية وحضارية عربية اسلامية في العصر الذهبي وفي العواصم الكبرى للعالم الإسلامي كدمشق وبغداد واصفهان والري(طهران حاليا) والقاهرة والقيروان وقرطبة وطليطلة وسواها.(ولكن، ولأكرر ذلك مرة أخرى، ضمن سقف العصور الوسطى او بقدر ما يسمح به المناخ العقلي للعصور الوسطى.ففلسفة حقوق الانسان الحديثة لم تكن قد ظهرت بعد.لا ينبغي ان نسقط مفاهيم الحاضر على الماضي او ان نطالب الماضي بما لا يستطيع ان يعطيه.حذار من الاسقاطات او المغالطات التاريخية!حذار من النزعات التبجيلية او التفخيمية المبالغ فيهاعلى طريقة اخواننا الاصوليين او القومجيين..). نعم لقد ظهرت آنذاك نخبة من المثقفين العرب سواء أكانوا مسلمين ام مسيحيين ام يهودا. كلهم كتبوا بالعربية مؤلفاتهم وابداعاتهم سواء أكانوا عربا أقحاحا ام فرسا ام أمازيغا ام اعراقا اخرى، لا يهم. المهم هو انهم عبروا عن نزعة انسانية راقية من خلال التوفيق بين التراث الديني الإسلامي او المسيحي او اليهودي من جهة، وبين الفلسفة العقلانية الاغريقية من جهة اخرى. هذا هو معنى النزعة الانسانية العربية بحسب مصطلح اركون. انها عربية بالمعنى الثقافي اللغوي الحضاري لا بالمعنى العرقي الشوفيني المتعصب. عدد كبير من العباقرة العرب ليسوا من أصول عربية ولكنهم كتبوا وأبدعوا بالعربية.وبالتالي فهم عرب بالمعنى الثقافي والحضاري للكلمة.وقد استخدموا في مؤلفاتهم اسلوب الأدب ولكن بالمعنى الكلاسيكي: أي ليس فقط الشعر والنثر وانما ايضا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والفقه والتشريع والتفسير وحتى الطب وعلم الفلك والنجوم. كل ذلك كان يعتبر أدبا في ذلك الوقت او يدخل في مجال الأدب. انظر مؤلفات التوحيدي مثلا كالبصائر والذخائر او الامتاع والمؤانسة او الهوامل والشوامل او سواها من الروائع حيث ينط من موضوع الى آخر مختلف تماما.وهذا ما يدعى بالاستطراد.
أسباب انهيار النزعة الانسانية في العالم الاسلامي:
ويؤكد أركون على انه وجد تيار انساني عربي في كل القرون الوسطى عندما كانت اوروبا لاتزال غاطسة في ظلام عميق من الاصولية المسيحية المنغلقة على ذاتها. وهذه النزعة الانسانية كانت مرتكزة على الفلسفة والاخلاق الحميدة ومباديئ الاسلام الحنيف الروحية والتنزيهية المتعالية. فما الذي حصل بعدئذ؟ لماذا اختفت من الساحة، ساحة الاسلام العربي و العالم الاسلامي ككل؟ ولماذا وصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم من تيارات متزمتة، معادية تماما للنزعة الانسانية، بل وتنتهك حرمات المدنيين العزل عن طريق عمليات التفجير الارهابية التي تحصد الناس بشكل عشوائي بالعشرات والمئات؟ لماذا وصلنا الى كل هذه الأحقاد الطائفية والمذهبية؟ المسؤولية لا تقع على القرآن الكريم كما يزعم بعض الجهلة هنا في الغرب.لذلك فان حرق القرآن عملية سخيفة واستفزازية لا معنى لها.فالتوراة مليئة بالعنف اكثر من القرآن فلماذا لا يحرقونها؟ ينبغي العلم بأن القرآن لم يمنع هذا التيار الانساني العقلاني المنفتح المتسامح من الظهور والانتشار طيلة عدة قرون من عمر الحضارة العربية-الاسلامية كما ذكرنا. وذلك لأن الفلاسفة فسروه بشكل صحيح ووفقوا بسهولة بين تعاليمه وتعاليم الفلسفة اليونانية. انظر بهذا الصدد كتاب تهذيب الاخلاق لمسكويه حيث ينتقل المؤلف من الاستشهاد بآية قرآنية الى الاستشهاد بكلمة لارسطو او افلاطون دون أي مشكلة. وقل الأمر ذاته عن كتب التوحيدي او ابي الحسن العامري في السعادة والاسعاد، او الاعلام بمناقب الاسلام، او بقية الروائع الكبرى لتراثنا العربي الإسلامي العظيم.او انظر فصل المقال لابن رشد حيث يوفق بين الشريعة والحكمة:أي الفلسفة بحسب لغة ذلك الزمان. يعزو اركون سبب انهيار حضارتنا الكلاسيكية والنزعة الانسانية المرافقة لها الى عدة عوامل: أولها تفكك الدولة المركزية القوية سواء أكانت عاصمتها بغداد العباسية ام الري البويهية ام القاهرة الفاطمية ام قرطبة الاندلسية ام سوى ذلك. ومعلوم انها هي التي كانت تدعم تيار النزعة الانسانية العربية عن طريق دعمها للفكر الفلسفي والعلمي وتشجيعها للآداب والفنون.
وثانيها هو تحول الطرق التجارية عن المنطقة العربية بعد القرن الثاني عشر او الثالث عشر وذلك لمصلحة اوروبا. وقد أدى ذلك الى افقار الحواضر الاسلامية الاساسية وبالتالي اختفاء البورجوازية التجارية في بغداد وسواها من العواصم. ومعلوم ان هذه البورجوازية هي التي كانت تشجع العلماء والفلاسفة والأدباء الكبار وتصرف عليهم. فالنزعة الانسانية او العقلانية لا تعيش في الفراغ وانما هي بحاجة الى دعامة مادية تسند ظهرها وتشد من أزرها. وهكذا استلمت اوروبا زمام المبادرة التاريخية بعد ان أفلتت من أيدينا نحن العرب. وكلما صعدت في سلم الحضارة درجة هبطنا درجات حتى وصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم من تقدمهم وتأخرنا. ودارت علينا الدوائر فبعد ان كنا في المقدمة اصبحنا في المؤخرة..ومعلوم الدور الكبير الذي لعبته الطبقة البورجوازية الاوروبية في انتصار التنوير والثورة الفرنسية وكتابة اعلان حقوق الانسان والمواطن بأحرف من نور.وهكذا انتصرت الفلسفة الانسانية الحديثة على اللاهوت المسيحي القروسطي.
الهوامش:
1- M.Arkoun :L’Humanisme Arabe au IV/X SIECLE.Miskawayh philosophe et historien.Vrin.1970
وقد ترجمنا الكتاب الى العربية تحت عنوان:نزعة الأنسنة في الفكر العربي.جيل مسكويه والتوحيدي.دار الساقي.بيروت.1997
2- M.Arkoun :Humanisme et islam.combats et propositions.Vrin.2006
3- انظر كتابه:النزعة الانسانية والاسلام.الطبعة الفرنسية.ص 9
ونفهم من كلامه انه ليس فقط الاستعمار كان يشكل نزعة لا انسانية او مضادة لحقوق الانسان وكرامته،وانما ايضا النازية والستالينية.وهما منتج محض اوروبي ولاعلاقة لعالم الاسلام بهما.وبالتالي فليكنس الغرب أمام بيته اذن بدلا من التشدق بحقوق الانسان صباح مساء.نضيف الى كل ذلك ان معاملته للجاليات المهاجرة المقيمة على أراضيه وبخاصة الجاليات العربية والاسلامية ينقصها الكثير من النزعة الانسانية.
4- M.Arkoun :Essais sur la pensee islamique.Paris.1984