(محاضرةً آن- بياتريس كلاسمان Anne-Béatrice Clasmann، حول كتابها «الحلم-الكابوس العربي: انتفاضة من دون هدف » Der arabische (Alb-)Traum. Aufstand ohne Ziel, (Passagen Verlag, 2015). في مركز الليترتاج في 21 أبريل، 2016.. تنشر المحاضرة بالعربية بالإذن من المؤلفة والراعي للمحاضرة، مركز ابن رشد للفكر الحر في برلين. نقل المحاضرة عن الألمانية حمّود حمّود)
بداية الربيع العربي
لقد بدأت المظاهرات الأولى في العالم العربي في ديسمبر 2010 نسبياً على نحو عفوي: أولاً في تونس واليمن، ومن ثم في يناير 2011 في مصر، وفي فبراير في البحرين، وفي مارس في سورية. بَيْدَ أنّ جهات دولية وإقليمية اتخذت موقفاً بسرعة، حيث قاموا جزئياً بإرسال المال والسلاح والمستشارين العسكريين. ومن المؤكد أنه تم استخدام الكثير من الناس في الخارج من قبل الداعمين، هذا فضلاً عن استغلالهم وخداعهم. إلا أنّ الغضب، الذي تفجر في شوارع تونس والقاهرة وصنعاء ودمشق، كان حقيقياً ومحلياً. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان أثر التدخل ودعم القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا وإيران أكبر تأثيراً في نهاية المطاف من تأثير الجهات الغربية الفاعلة. وربما يعود هذا بسبب القرب الثقافي الكبير لهذه الدول من الأحداث واعتمادها على الشبكات القديمة. والاستثناء هنا هو فقط ليبيا ، حيث تدخلت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي مباشرة عسكرياً بشن غارات جوية ضد قوات القذافي. ولطالما سمعت جملةً في نهاية سنة 2011 أثناء التحدث إلى النشطاء السياسيين والمواطنين الذين لم ينتموا إلى أي تنظيم وانضموا إلى المظاهرات التي وصلت إلى حجم كبير، تقول الجملة: «لقد أملنا سابقاً بالإصلاحات، ولم نجرؤ أبداً في الأيام والأسابيع الأولى على الاعتقاد باحتمالية سقوط النظام». أما جملة «الشعب يريد إسقاط النظام» التي غدت متوحدة في النداء إلى الحرب، فإنها كانت مبنية على العنف، حيث تمّ قمع المتظاهرين جزئياً الذين ساروا وفق ذلك؛ وهذا في حين أنّ المتظاهرين التونسيين قد نجحوا نسبياً بسرعة، حيث هرب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وزوجته ليلى. وهذا ما منح الناس في الدولة العربية الأخرى الشجاعة. وفي القاهرة تظاهر بعد ساعات قليلة من سقوط بن علي بِضعُ مئات من المصريين في التضامن مع الثورة التونسية قبالة السفارة التونسية. ومرةً، وقفت امرأة رزينة في منتصف العمر بين المحتجين وقالت لفريق في قناة العربية التلفزيونية: «علينا حقيقةً أن نفعل ما فعله التونسيون. لأننا نحن المصريون فعلاً من بين العرب شعب الثورة». لقد كانت ذلك اللحظة التي اعتقدت فيها لأول مرة أنّ حسني مبارك ربما يكون التالي (في سقوطه م.).
لماذا سار الوضع في تونس بشكل أفضل؟
لقد شهد تونس، مهد الربيع العربي، بشكل متكرر منذ بداية 2011 تغييرات عدة. لقد كان الوضع مؤلماً ولم يكن على هذه الدرجة من السهولة. وعلى الرغم من كل شيء، فإنّ التونسيون هم الوحيدون حتى الآن الذين بدلوا مرتين البرلمان ورئيس الدولة؛ وقد تم ذلك إلى حد كبير دون إراقة الدماء ودون انجرار بلادهم إلى حالة من الفوضى. لذا، فإنّ وضع دولتهم هو الأفضل من أي دولة عربية أخرى. وعلى الرغم من أن ديمقراطيتهم لا تزال تقف على أرضية مهزوزة، لديهم فرصة جيدة للتطور إيجابي. وعلى الرغم من أنّ هذا لن يسير في دولة وفق النموذج الأوربي الغربي، لكن ربما يسير مقارنةً بما حدث مع بعض بلدان أوروبا الشرقية بعد سقوط الستار الحديدي. بيد أنّ السؤال لماذا سار الوضع في تونس بشكل أفضل من الدول العربية الأخرى؟ ولماذا هناك الكثير، في نفس الوقت، من التونسيين وسط المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون في سورية والعراق مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)؟
ينخرط التونسيون، ومنذ البداية، ضمن شروط جيدة من أجل التغيير الديمقراطي، وذلك للأسباب التالية:
1- لا يوجد لتونس قيادة جيش قوية،
2- تمتلك المرأة التونسية عموماً وعياً وتحرراً أكثر من شقيقاتها النساء في البلدان العربية الأخرى، ويعود الفضل في هذا إلى الرئيس الحبيب بورقيبة (1903-2000)،
3- تونس من الناحية الاستراتجية والموارد الاقتصادية بلد متواضع في أنْ يكون محطّ اهتمام لإثارة تدخل كبير من القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية،
4- أما السكان التونسيون فهم متجانسون نسبياً (من الناحية الطائفية م.) و 99 % من التونسيين هم من المسلمين السنة، في حين أنّ الباقي هم من المسيحيين واليهود والشيعة والبهائيين. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ الانتماء القبلي، الذي شدد في وسمه بورقيبة على أنه علامة على التخلف، ليس له إلا دور ثانوي بالمقارنة مع بعض المجتمعات العربية الأخرى،
5- لدى تونس ومنذ وقت طويل اتصال وثيق مع أوروبا،
6- تونس لديها مجتمع مدني نابض بالحياة للغاية: مجتمع مدني تنتمي له النقابات والجماعات والتي أعيد توجيهها جديداً بعد سقوط رعاية الدولة. وجزئياً كانت هناك أيضاً شروط منبثقة جديدة،
7 – المكانة المرتفعة لمستوى التعليم (وهذا يمثل، ربما إلى جانب المكانة الاجتماعية القوية نسبياً للمرأة، العامل الأكثر أهمية) أكثر مما هو عليه الجال في بلدان أخرى في شمال إفريقيا، طبعاً من دون موارد طبيعية كبيرة مثل مصر أو المغرب.
الفروق لا شك لافتة للنظر وخاصة عندما ينظر المرء ليس فقط إلى المؤهلات التعليمية الرسمية، ولكن أيضا في المستوى الفكري والثقافي العام. وهذا يعود إلى أنّ الرئيس بورقيبة، الذي كان معجباً بمؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، قد قرر في الخمسينيات أنه سيكون من المفيد بالنسبة لبلد مثل تونس، الذي لم يكن سابقاً عرضة لتهديد عسكري كيبر من جيرانه، أنْ ينخرط في التعليم ويستثمر به بدلاً من بناء جيش ضخم. لقد كان والد بورقيبة مدنياً، هذا على الرغم من أنه كان ضابطاً في الجيش، لكن ليس كما هو الحال مع عبد الناصر وخلفائه السادات ومبارك، وأيضاً على عكس أنموذجه أتاتورك. درس بورقيبة العلوم القانونية والسياسية في فرنسا. وكانت زوجته الأولى فرنسية. كما أنّ أهدافه الرئيسية كانت النضال ضد الكولونيالية وتحرير المرأة التونسية وإضعاف سلطة علماء الدين الذين كانت لهم مكانة بارزة في التعليم في ذلك الوقت، وأيضاً كان من أهدافه تحديث الدولة. لقد كان، طبعاً مقارنة بروح العصر حينها، سلطوياً، لكنه بشر بالأهداف الاشتراكية. (…)
أما تونس في عهد بن علي فقد كان دولة بوليسية ماكرة، ولم يسمح لخصومه إلا نادراً بالانفتاح، حيث كانت معركته غالباً بشكل ماكر: بعوائق بيروقراطية، ومضايقات، واغتيالات شخصية، وتهديدات واعتقالات، وفي حالات نادرة، ولو بالقوة والتعذيب. وعموماً هنا نجد شكلاً أكثر دهاءً في الظلم منه كما الحال مثلاً في ليبيا أو سورية. وهذاعلى الرغم من وجود سوء المعاملة في السجون التونسية. وخلالفاً لما هو عليه الحال في ليبيا (حيث يمارس الطاغية القذافي الناس هناك تعذيباً سادياً أو يخفيهم /بالخطف م./، وحيث يتحكم بشدة في الاتصالات بالعالم الخارجي)، فإنّه يستطيع التونسيون إلى حد ما التمتع بالحرية- شريطة أنْ لا يظهروا طموحات سياسية. لقد كان المثقفون التونسيون في ظل بن علي محط اشتباه عام. وكان نشطاء حقوق الإنسان ينصحون بتجريب فرامل المركبة، في كل مرة، إذا ما أردوا السير بها؛ لأنه من يستطيع معرفة ما إذا كان هناك موظف من قوات الأمن يقوم بالتسبب بحادث مأساوي (!!). من إحدى وسائل الضغط التي اتبعها بن علي ضد منتقدي النظام هي الاغتيالات الشخصية. وبالنسبة لحملات الاغتيالات الشخصية التي تمارس سياسة ضد الأفراد المعنيين من خلال نشر اتهامات كاذبة بشأن آثامٍ أخلاقية مزعومة، فإنه يمكن أنْ ينخرط صحفيون من تونس ودول عربية أخرى في ذلك. وهناك فيما يسمى بـ «الكتاب الأسود» الذي نشره الرئيس المؤقت منصف المرزوقي نهاية سنة 2013 أسماء لصحفيين قدموا أنفسهم –جزئياً ضد الرسوم- لمثل هذه الأشياء التافهة.
أما حقيقة أنّ السلفيين التونسيين هم مجموعة كبيرة نسبياً بين المقاتلين الأجانب في سورية، ولاحقاً بين المقاتلين الأجانب في العراق، لهي حقيقة تكمن في أنهم لا يشكلون في وطنهم في نهاية المطاف (خلافاً لما هو الحال في مصر أو اليمن) سوى مجموعة هامشية ولا تجد لها فرصة حقيقية في المشاركة في الحكومة أو الاعتراف الاجتماعي بهم. وبالإضافة إلى ذلك، بلغ معدل البطالة بين الشباب في تونس، مع سنة 2010 إلى معدل عالي 29.4 %، وبعد الثورة من خلال تراجع الاستثمارات وتراجع أعداد السياح إلى 42.4 % (منظمة العمل الدولية/ ILO). بالطبع سيكون من الخطأ القول أن الطريق إلى الجبهة السورية من قِبل هؤلاء الشباب هو الخيار الوحيد أمامهم. من لم ينجذب في هذا الجهاد المزعوم، فإنه يتسكع في القرية أو في الضواحي ويدعه أهله يرعونه. وهناك آخرون ينجرفون في الجريمة، يبحثون عن عمل في دول الخليج العربي أو جمع ما يكفي من المال لدفع تكاليف رحلة خطرة عبر البحر المتوسط في قارب للمهربين. أما خطب السلفيين والأئمة وبروباغاندا الإنترنيت للجماعات الإرهابية (الذين يَعِدُون بالمال والمغامرة والغنائم وممارسة الجنس مع النساء في الأسر من القرى المغزوة)، فإنها تجد لها وقعاً عند العديد من الشباب التونسي المحبط، ولكن تجد لها وقعاً أيضاً في «الترب الخصبة». هكذا نجد أنّ بعضاً منهم قد تجند من قبل جماعات إسلامية في ليبيا والتي لها صلات مع الجهات المالية المانحة في الخليج. ومن المفترض أنْ يُقدم أحياناً 2000 دولار من المال الذي يرمز للترحيب. وآخرون يسافرون مباشرة إلى تركيا، لكي يسافروا من هناك إلى سورية.
الانطلاقة الصعبة في سورية
لقد كان وضع الانطلاقة في مارس 2011 بالنسبة لحركة ثورية سيئاً للغاية. وفي الواقع، فقد افتقدت كل من النقابات التجارية الحرة، والمرأة المستقلة ومجموعات الشباب، ومنظمات الطلبة والناشطين في مجال حقوق الإنسان التي يمكن أن تعمل دون خوف من الاعتقال، نقول افتقدت كل هذه الهياكل إلى مجتمع مدني حيّ. ومارس حزب البعث الحاكم وأجهزة الاستخبارات المختلفة أقصى درجةً من التحكم. لا بل حتى السيدات من المجتمع الراقي، اللواتي يجتمعون مرة في الأسبوع لقضاء وقت، فإنهنّ يتحسبن ما إذا كان هناك معهنّ شخص ما يكتب ضدهن «تقارير استخباراتية» بشأن أنشطتهنّ. وكذا هنا فإنّ المعلمين يمضون ليكتشفوا أياً من المواقف السياسية يجلبها الطلاب معهم من المنزل. لقد نجح النظام بالتسلل وسط أوساط المعارضة السورية. وعلاوة على ذلك لقد كان الأسد وأعوانه بالفعل على درجة من الحذر: لقد كان القذافي إلى هذا الوقت في موقف دفاعي؛ ومبارك كان ينتظر في شرم الشيخ لأنْ تسير الأمور معه؛ أما بن علي فقد كان في ضيافة السعوديين. في حين أنّ الأمر بالنسبة للأسد (الذي قدم إجابات على أسئلة صحفية من مراسلين أجانب في يناير في لقاء معه) فلم يكن لشيء أنْ يحدث له، وهكذا بالتالي ليستخلص نتائجه من الأحداث في شمال أفريقيا والتعلم من «أخطاء» الآخرين.
الدين يملأ الفراغ في الفترة العربية ما بعد الأيديولوجية
لم يلعب الانتماء الديني دوراً محورياً منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى نهاية سبعينياته في الدول العربية على المستوى السياسي كما يلعبه اليوم. لقد خبر المرء سابقاً، ليس فقط في أوروبا ولكن أيضاً في العالم العربي، الكثير من الأيديولوجيات واليوتوبيات السياسية. لقد ظلت دول الخليج بسبب عزلتهم إلى حدّ كبير غير متأثرين بما يحدث في البلدان العربية الأخرى (ولا يجب أنْ ننسى ما لاقاه الناس هناك من حرمان في حياتهم من حرمان قبل الطفرة النفطية). لقد سيطرت الاشتراكية والقومية على المشهد السياسي في معظم دول ما بعد الكولونيالية في المنطقة في ذلك الوقت. وكانت هاتان الأيديولوجيتان تشكلان معاً «العروبة». لقد امتلك هذا التيار القومي أنصاراً كثر حتى منتصف السبعينات، ورأت في المجال العربي كمجال ثقافي ككل وأيدت إزالة الحدود التي وضعتها القوى الكولونيالية، بيد أنه مع ذلك لم يحالفها النجاح على المستوى البعيد. على سبيل المثال، الفشل في الجمهورية العربية المتحدة التي كانت قائمة ما بين 1958-1961. لقد تم إنهاء هذه الوحدة المصرية-السورية في نهاية المطاف من قبل السوريين الذين قاسَوا بسبب التفوق السلطوي الذي كان للمصريين في الحكومة (على حساب السوريين م.). وفضلاً عن ذلك، فلم تنجح هذه «العروبة» حقيقة لأنْ تنشر السلام في المنطقة التي يقطنها الكثير من غير العرب الذين يمتلكون جذوراً تاريخية، على سبيل المثال لا الحصر: قبائل البربر في التبو والأكراد والتركمان والأرمن والآشوريين والنوبيين والأقباط.
لم يحدث النكوص إلى الدين كمرجع هوياتي ووسيلة في ترسيم الحدود (بين البشر) إلا في أوقات الأزمات في التاريخ الحديث للعالم العربي. الاستثناء الوحيد هنا هو لبنان: البلد الذي لم يتغير تشكيله الديمغرافي بشكل كبير سوى من خلال الترسيم الفرنسي للحدود ولاحقاً من خلال وصول النازحين الفلسطينيين الذين يشكل معظمهم من السنة وذلك بعد قيام دولة إسرائيل اليهودية. هكذا، فقد قاد هذان العاملان إلى أنّ المسيحيين لم يعودوا يشكلون الغالبية السكانية في لبنان. إنّ لبنان اليوم في نهاية المطاف دولة غير حداثية، هذا بالرغم من تراثه البرلماني الطويل وانفتاحه الثقافي بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، واليوم يُحكم من قبل سلالات سياسية متمأسسة في كيانات دينية اجتماعية مختلفة. حيث وفقاً لـ«اتفاق الطائف» فلا يمكن للرئيس أنْ يكون إلا إذا كان مسيحياً مارونياً. رئيس الوزراء هو دائماً مسلم سني، ورئيس مجلس النواب شيعي. وليست الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، مع ذلك، سوى مثال واحد، من بين العديد من الأمثلة، على الشكل الذي تسير به مسائل السلطة، حيث يلجأ القادة السياسيون إلى الشعور الديني ويعززون بين إخوانهم في المعتقد الديني «العقليةَ الحصاريةَ Wagenburgmentalität» (العقلية التي تعزل نفسها وتشعر بأنها مهددة من جميع الجهات م.).
لطالما يكون هناك بالطبع في الفراغ السياسي، الذي قد ينشأ عندما يبحث شعب ما بعد نهاية فترة طويلة من الحكم الاستبدادي عن أشكال حكومية وهياكل جديدة، عودة ٌإلى أشكال سابقة من التجمعات الاجتماعية والهوياتية (الطوائف الدينية والقبائل والجذور الإثنية المشتركة). وأفضل مثال على ذلك هو الانتخابات الأولى في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في يناير عام 2005، عندما لم يكن هناك بعد للأحزاب الجديدة شهرة كبيرة، وحيث انساقت غالبية العراقيين في اختيارهم الانتخابي وفقاً للمعايير الإثنية والدينية. لقد اختار الأكراد إخوانهم الأكراد، والشيعة أعطوا بنحو غالب أصواتهم للأحزاب الشيعية- أي الأحزاب التي تم دعمها من قبل رجال الدين. فقط كانت أصوات السنّة (الذين كانوا يُمنحون في ظل صدام حسين، السنيّ المذهب، مناصب رفيعة في الجيش والحكومة) هي التي توزعت في هذه التجربة الديمقراطية الأولى ضمن مختلف الأحزاب التي لم تأخذ طابعاً إثنياً أو دينياً. بَيْدَ أنّ هذا السلوك السني في الانتخابات يجب أنْ يتغير لاحقاً: ذلك أنه بعد هذه التجربة السلبية بالنسبة لهم فيما يخص التصويت الشيعي والكردي القوي للأحزاب الدينية أو الإثنية القائمة، فقد قرر السنة في الانتخابات العامة التالية، التي جرت في ديسمبر من العام نفسه بعد اعتماد الدستور الجديد، أنْ يعطوا أصواتهم إلى الحزب السني لطارق الهاشمي. وفي الواقع، لطالما كان الخطاب الطائفي في العراق في السنوات التالية يتصاعد على نحو متزايد: فسياسيين شيعة مثل نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، لم يتردد في ذلك في تصوير السنة الراديكاليين الإرهابيين بكونهم استمراراً لمعارك قد قُتل فيها الحسين (حفيد محمد). أما السنة السياسيون فإنهم يصفون الأحزاب الشيعية وميليشياتها بأنهمهم «صفويون». يفيد هذا المصطلح الذي يعود إلى السلالة الفارسية(1502-1736) في الإنكار على الشيعة بكونهم دمى غير عراقية للنظام في طهران. يمكن إظهار كيف أنّ مثل هذا التمييز الديني يكتسب تأثيره القاتل في الحياة اليومية عندما يأخذ المرء نظرة على خريطة بغداد. ويعود هذا أنه بينما كنّا نجد منطقةً ما مسكونةً من قبل أعضاء جماعات دينية مختلفة في عام 2003، فإنه يمكن إرساء أغلبية المناطق إما في السنة أو الشيعة اليوم. أما التزاوج بين الطوائف المختلفة الذي كان سائداً في ظل نظام صدام الاستبدادي ، فإنه يعتبر اليوم فعلاً ثورياً (!!).
لكن من يعتقد أنّ التعصب الديني جزء لا يتجزأ من الفكر الإسلامي، بحيث أنّه لا يمكن فصل مسلمٍ ما من هذا سياسياً، فهو على خطأ. ذلك أنّ المسلمين الأكراد في العراق كانوا في العقود الماضية يحسمون أمرهم في العمليات السياسية في معظم الأحيان لصالح هوياتهم الإثنية لا بحسب انتمائاتهم الدينية؛ وهذا ما يشكل دليلاً حيّاً على أنه لا وجود لمثل هذه الحتمية (أي حتمية انتماء المسلمين إلى طوائفهم الدينية وبأن التعصب الديني جزء لا يتجزأ من فكرهم م.).
يمكن كذلك رؤية كيف يمكن تجاهل بشكل واسع مسألة الاختلافات الدينية، حينما تُطلب مسائل السلطة، وذلك من خلال المثال الإيراني: حيث إنّ إيران تمدٌّ بالأسلحة كلّاً من الإسلاميين من الحركة الفلسطينية السنية حماس في قطاع غزة والنظام السني عمر البشير في الخرطوم. لا بل أنه يتوجب على طهران في الآونة الأخيرة إنشاء روابط مع حركة طالبان بغية توريط حكومة الولايات المتحدة وحشرها في الزاوية التي تجهد بالنظر إلى الوضع الأمني المتوتر في تبرير سحب جنودها (من العراق م