الفلسفــــــة الفرنسيـــة
La philosophie Française
هنري برغسون
ترجمة محمد مطر (فريق مركز الانماء القومي)
لقد كانت فرنسا الدولة السبَّاقة في تطوير الفلسفة الحديثة، ودورها في ذلك واضح وجلي. صحيح أن الدول الأخرى، قدمت للعالم فلاسفة، لا ريب في نبوغهم وقيمتهم، ولكن أحدا لم يملك – كالفرنسيين – تاريخا مستمرا من الإبداع الفلسفي الأصيل. قد يجتهد الآخرون في تنمية هذه الفكرة أو تلك، أو في استخدام مواد معرفية بطريقة أكثر سيستامية، أو في توسيع هذا المنهج المعرفي أو ذاك. ولكن غالبـا ما تكون تلك المواد، والأفكار، والمناهج المستخدمة، فرنسية المصدر. ولأن المقام هنا، لا يسمح لنا بتعداد جميع المذاهب، أو بذكر جميع الأسماء، فقد اخترنا أن تقتصر مهمتنا على استكشاف الخطوط العامة التي تميز الفكر الفلسفي الفرنسي، لنرى لماذا ظلت الفلسفة الفرنسية – على مدى تاريخها – خلاقة، وعلى ماذا استندت قوة إشعاعها في العالم.
تنتسب الفلسفة الحديثة بأسرها إلى ديكارت. لن نحاول هنا تلخيص مذهبه. إن كل تقدم في العلم والفلسفة، يسمح لنا باكتشاف شيء جديد، بطريقة تجعلنا نرضى بالمقارنة بين هذا العمل الكشفي والاكتشافات في الطبيعة، التي لا ينتهي التحليل فيها أبدا. وكما المشرح، يصنع سلسلة من المقاطع في العضو أو النسيج الذي يريد دراسته، فسنقطع كذلك نتاج ديكارت، إلى مستويات متوازية، تحت بعضها البعض، لنحصل منها، على رؤى أكثر عمقا.
يظهر المقطع الأول في “الكارتيزيانيسم” (الديكارتية)، فلسفة الأفكار “الواضحة والمتميزة”، التي حررت التفكير الحديث نهائيا، من عبودية السلطة؛ لكي لا يقبل غير البداهة، دليلا على الحقيقة.
عندما ننزل إلى الأسفل قليلا، ونحفر في معاني “البداهة”، “الوضوح”، و”التميز”، فإننا نجد نظرية في المنهج. فقد حلل ديكارت خلال ابتكاره لهندسة جديدة، فعـل الإبداع الرياضي، وعرض شروطه. كما أنه قدم كذلك، طرقا عامة للبحث مستوحاة من هندسته.
وبتوسيعنا لمدلول تلك الهندسة، فإننا نصل بذلك، إلى نظرية عامة في الطبيعة، ترى الأخيرة، آلة ميكانيكية عملاقة، محكومة بقوانين رياضية، مما يعني أن ديكارت قد أعطى للفيزياء الحديثة إطارها العام، وأرضية العمل التي لم تتخل عنها يوما، في الوقت الذي قدم فيه، المثال لكل مفهوم آلي (ميكانيكي) في الكون.
سنجد الآن، تحت فلسفة الطبيعة، نظرية في الروح، أو كما قال عنها ديكارت : نظرية في “الفكر”. وهي تمثل الجهد الذي بذله ديكارت، لحل إشكالية الفكر ورده إلى عناصره البسيطة، والذي فتح بدوره الطريق أمام أبحاث “لوك” و”كونديلاك”، لكي ترى النور. كما سنجد خاصة فكرة، أن “الفكر” يوجد أولا، بينما تأتي المادة ثانيا، أو بمعنى أكثر دقـة، أنه يمكن للمادة ألا توجد إلا كتمثل للفكر. إن كل المثاليات الحديثة قد انطلقت من هذا التصور، خصوصا المثالية الألمانية.
توجد أخيرا، في قاع الفلسفة الديكارتية، محاولة جادة، لرد التفكير – على الأقـل جزئيا – إلى الإرادة، مما يعني ارتبـاط فلسفات “الإرادة” في القرن الثامن عشر بديكارت. فليس من العبث إذا، أننا رأينا في الديكارتية “فلسفة للحرية”.
إلى ديكارت إذا، ترجع المذاهب الأساسية في الفلسفة الحديثة. والديكارتيـة لا تدين بشيء أساسي إلى أي من المذاهب الفلسفية القديمة أو الوسيطة، وإن كانت تتشابه في بعض تفاصيلها مع تلك المذاهب. ونحن نقول عن فلسفة ديكارت، ما قالـه الرياضي والفيزيائي “بيو” عن الهندسة الديكارتية : “prole sine matre create” .
إذا كانت جميع النزعات في الفلسفة الحديثة، تتواجد معا في الفلسفة الديكارتية، فذلك كان يعني سيادة النزعة العقلانية، كما سادت القرون اللاحقة. ولكن غالبا ما كانت تلك النزعة العقلانية، تخفي تحتها اتجاها آخر، فرنسي المصدر، اخترق الفلسفة الحديثة؛ ويمكن تسميته بالاتجاه “العاطفي”، شريطة أن نأخذ كلمة “العاطفة” بمعناها المستخدم في القرن السابع عشر، وأن نفهم جميع الحدوس المتعلقة بهذا الاستخدام. فقد أدخل “باسكال” في الفلسفة الحديثة، طريقة جديدة في التفكير، لا تشبه طريقة التفكير المحض، لكونها نقحت بواسطة ” الذهن الرفيع” ما قد علق بالمنطق من تفكير هندسي. كما أن هذه الطريقة الجديدة ليست ضربا من التأمل الصوفي، لأنها تقودنا إلى نتائج، قابلة لأن تفحص وتدقق من قبل الجميع. لقد تبين من خلال إعادة ربط الحلقات الفرعية في سلسلة الفكر، بأن المذاهب الفلسفية الحديثة التي أبرزت المعرفة المباشرة، الحدس، الحياة الداخلية، إنما ترجع في أساسها إلى باسكال، كما ترجع فلسفات العقل المحض، بشكل خاص، إلى ديكارت (على الرغم من الميول الحدسية التي نجدها في الديكارتية نفسها). ليس باستطاعتنا الآن، العمل على تقديم الدليل على هذه النتائج، ولكن يمكننا فقط الإقرار بأن ديكارت وباسكال، هما الممثلان الأكبران لطريقتي التفكير اللتين قسمتا العقل الحديث.
لقد قطع الاثنان (ديكارت وباسكال) مع التفكير الميتافيزيقي عند اليونانيين. ولكن العقل الإنساني لا يتخلى بيسر، عن الغذاء الفكري الذي أمده لقرون خلت. لقد غذت الفلسفة اليونانية العصر الأوروبي الوسيط، وذلك بفضل أرسطو، كما أنها خصبت عصر النهضة الأوروبي، خصوصا بفضل أفلاطون. لذلك، فقد كان من الطبيعي، أن يبحث بعد ديكارت، في استخدام الفلسفة اليونانية وتقريبها من الديكارتية، والتأثر بنزوع الفلاسفة أنفسهم، لتنظيم أفكارهم بشكل سيستامي، لأن “السيستام” في حقيقته، هو ما قد بدأه كل من أفلاطون وأرسطو، واستكمله وأحكمه، من بعدهم الأفلاطونيون الجدد. ومن السهل البرهنة (دون الخوض في تفاصيل البرهان)، على أن كل محاولة لبناء سيستام قد استلهمت بعض الجوانب من الأرسطية، والأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة. وفي الواقع، فإن المذهبين الميتافيزيقيين الذين ظهرا خارج فرنسا في النصف الثاني من القرن السابع عشر، كانا مزيجين من الديكارتية والفلسفة اليونانية. ففلسفة سبينوزا المتميزة، نجحت في مزج ميتافيزيقا ديكارت مع أرسطية أساتذة الجامعات اليهود. كما أن فلسفة ليبنتز، التي لا ننكر أصالتها وجدتها، كانت أيضا مزيجا من الديكارتية والأرسطية، لا سيما مع أرسطية الأفلاطونيين الجدد. لم تكن الفلسفة الفرنسية أبدا، ميالة نحو البناءات الميتافيزيقية الكبرى، وذلك لعدة أسباب سنذكرها لاحقا. ولكن عندما طاب لها الشروع بمثل تلك التأملات الميتافيزيقية، فقد أظهرت ما في وسعها فعله، بيسر تام. ففي حين كان كل من سبينوزا و ليبنتز ينشئ مذهبه الفلسفي، كان مالبرانش يملك مذهبه الفلسفي الخاص، الذي كان أيضا مزيجا من الديكارتية والفلسفة الإغريقية ( بشكل خاص مع أفلاطونية آباء الكنيسة). لقد كان الصرح النظري الذي أقامه مالبرانش فريدا من نوعه. فقد كان يتضمن في الوقت نفسه، نظرية سيكولوجية وأخرى أخلاقية، استطاعا أن تحافظا على قيمتها، على الرغم من أنه لا يمكن ردهما إلى سيستامه الميتافيزيقي؛ وهذه إحدى العلامات الفارقة في الفلسفة الفرنسية. فهي إن ارتضت أحيانا أن تكون سيستماتية، فإنها لا تضحي لأجل السيستام، ولا تشوه عناصر الواقع الفعلي، إلى الحد، الذي لا يسمح لنا باستعمال مواد البناء، خارج البناء نفسه. فمواد البناء تظل صالحة دائما.
إذا، ديكارت، باسكال، و مالبرانش، هم الممثلون الكبار للفلسفة الفرنسية في القرن السابع عشر، الذين أعطوا العصر الحديث، ثلاثة أنواع من المذاهب الفلسفية.
ظلت الفلسفة الفرنسية خلاقة أيضا في القرن الثامن عشر. ولكن هنا أيضا، يجب أن نرفض الدخول في التفاصيل، وأن نذكر بدل ذلك، أهم النظريات، وأن نعدد بعض الأسماء الأساسية.
سنبدأ أولا برد الاعتبار إلى لامارك، الذي كان عالما طبيعيا وفيلسوفا في آن، والمبدع الحقيقي لنظرية التطور البيولوجي. فقد كان لامارك أول من أدرك بوضوح، فكرة خروج الأنواع المتعددة للكائنات الحية، من بعضها عن طريق التحول، ودفـع بها إلى نهايتها المنطقية، وذلك على الرغم من أن شهرة داروين التي تحصلها من خلال أعماله عن الفكرة نفسها، لم تنقص يوما. فقد قرب داروين في أعماله الوقائع إلى بعضها البعض، كما أنه اكتشف بشكل خاص، دور التنافس والاختيار. ولكن التنافس والاختيار يفسران كيف تحفظ بعض التغيرات والصفات، ولكنهما لا يعيران اهتماما – كما قال داروين نفسه – بالأسباب التي تؤدي إلى تلك التغيرات. لقد أثبت لامارك قبل داروين بكثير ( بما أن أبحاث داروين بدأت مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر) وبنفس الوضوح، تحولات الأنواع الحية، محاولا كذلك، تحديد أسبابها. لذلك يرجع اليوم، أكثر من عالم طبيعي، إلى لامارك، إما من أجل توحيد اللاماركية والداروينية معا، وإما لإحلال اللاماركية الجديدة والمكتملة، مكان الداروينية. خلاصة القول، أن فرنسا قد منحت العلم والفلسفة في القرن الثامن عشر، أعظم مبدأ لتفسير وفهم العالم العضوي، تماما كما قدم ديكارت في القرن السابع عشر، مخططا عاما لتفسير العالم اللاعضوي.
من جهة أخرى، استكملت أعمال الفرنسيين، بوفون وبونه، المميزة حول طبيعة الحياة، أبحاث وتأملات لامارك. ويمكن القول بشكل عام، بأن المفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، قدموا العناصر الأساسية لبعض النظريات الطبيعة التي تأسست في القرن اللاحق. نقصد بذلك، مشكلة أصل الأنواع. كما أن العلاقة بين الروح والمادة، التي تم مقاربتها بطريقة أكثر مادية، كانت قد طرحت في ذلك الوقت من قبل الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر، بهذه الدقة التي استدعت، منذ ذلك الوقت، حلولا أخرى. يجب أن نذكر هنا أسماء : لامتري، كابانيس…الخ، وكذلك اسم شارلز بونيه.
يكمن البرهنة بيسر، على أن أبحاث هؤلاء تشكل أصل البسيكو- فزيولوجي الذي طور بعد ذلك في القرن التاسع عشر. ولكن البسيكولوجيا نفسها، التي فهمت كإيديولوجيا، أي كإعادة بناء للروح من عناصر بسيطة، كما فعلت مدرسة “التأسيسيين” في القرن الماضي، قد خرجت في قسم منها، من الأعمال الفرنسية في القرن الثامن عشر، لا سيما، أعمال كونديلاك. من الجيد أن نعترف بأن البريطانيين قد ساهموا أيضا بقسط كبير في تطوير البسيكولوجيا، وبأن مذهب لوك لم يكن بلا تأثير في الإيديولوجيا الفرنسية. ولكن، ألم يكن لوك نفسه متأثرا بديكارت؟ توقعوا ماذا يمكن أن نقول عن القرن التاسع عشر! نستطيع من الآن الإشارة، إلى أن أعمال “تان” في البسيكولوجيا، وتحليله للذكاء، مستمدة في قسم منها، من إيديولوجيا القرن الثامن عشر، وخصوصا من كونديلاك.
لم نتكلم حتى الآن عن الفلسفة الاجتماعية. فالجميع يعرف كيف تبلورت في فرنسا خلال القرن الثامن عشر، المبادئ الأساسية لعلم السياسية بشكل عام، والأفكار التي من شأنها أن تحدث تحولات في المجتمع، بشكل خاص. إلى مونتسكيو، وتورغو، وكوندورسيه، يعود الفضل في تعميق مفاهيم القانون، والدولة، والتقدم…الخ، كما إلى الموسوعيين عامة (الومبير، دريدرو، لامتري، هلفتيوس، هولباخ) الذين أدت جهودهم الفكرية إلى “عقلنة” الإنسانية، وانتشالها أيضا من النظرة الآلية الميكانيكية.
ولكن التأثير الأقوى الذي مورس على العقل البشري منذ ديكارت – ببعض الطرق التي سنبينها في موضع آخر – هو بالتأكيد ما مارسه جان جاك روسو. فالإصلاح الذي أطلقه روسو في ميدان الفكر العملي، كان إصلاحا جذريا بالدرجة نفسها التي أصلح بها ديكارت ميدان الفكر النظري. فهو كذلك قد وضع كل الأشياء موضع السؤال. لقد أراد أن يعيد تشكيل المجتمع، والأخلاق، والتعليم، وحياة الإنسان بأكملها، وفق مبادئ “طبيعية”. حتى أن الأشخاص الذين لم يتفقوا مع أفكاره، قد اضطروا للتكيف مع بعض الأشياء في منهجه. لقد استطاع روسو من خلال استدعائه للعاطفة، الحدس، الضمير، أن يشجع على طريقة خاصة في التفكير، كالتي نجدها عند باسكال، إلا أنه لا يمكن تصنيفها في عداد الفلسفة. وعلى الرغم من أن روسو لم يبن سيستاما، إلا أنه ألهم جزئيا، السيستامات الفلسفية في القرن التاسع عشر: بداية مع الكانطية، ثم “الرومنطيقية” في الفلسفة الألمانية، التي تدين له بالكثير، دون أن ننسى كذلك، الفن والأدب. إن أعمال روسو تظهر دائما بحلة جديدة من جيل إلى جيل آخر، حتى ليصح القول أنها لا تزال تؤثر فينا حتى الآن.
لقد كونا رؤية عامة من خلال النظرة الخاطفة التي ألقيناها على الفلسفة الفرنسية في القرنين السابع والثامن عشر، حيث اضطررنا لأن نترك جانبا، عددا كبيرا من المفكرين، ولا نهتم إلا بالأسماء الأكثر أهمية بينهم. ولكن ماذا بالنسبة إلى القرن التاسع عشر؟ قلما نجد عالما أو كاتبا فرنسيا، لم يسهم في ميدان الفلسفة.
فإذا كانت القرون الثلاثة السابقة قد شهدت ولادة وتطور العلوم المجردة والعينية (التجريبية) للمادة اللاعضوية – الرياضيات، الميكانيك، الفلك، الفيزياء والكيمياء – فإن القرن التاسع عشر عمق من جهة أخرى، علوم الحياة، أي الحياة العضوية، وإلى حد ما أيضا، الحياة الاجتماعية. وهنا كذلك، كان الفرنسيون السباقين. فالعالم مدين لهم بنظرية المنهج، وبقسم أساسي من النتائج في هذين الميدانين،حيث نشير هنا بشكل خاص، إلى كل من “كلود برنار” و”أوغست كومت”.
لقد شكل “المدخل إلى الطب التجريبي” لكلود برنار، بالنسبة إلى العلوم الاختبارية، ما شكله سابقا، “مقال في المنهج” لديكارت، بالنسبة إلى العلوم النظرية. فهو عمل عالم فيزيولوجي نابغ، يتفحص الطريقة والمنهج الذي يتبعه، ويستنتج من تجربته الخاصة، قواعد عامة للتجربة والبحث. فالبحث العلمي الذي يدعو إليه كلود برنار، هو حوار بين الإنسان والطبيعة. فالأجوبة التي تقدمها إلينا الطبيعة عن أسئلتنا، تعطي لمناقشاتنا العلمية اتجاها غير متوقع، يثير فينا أسئلة جديدة، لا تلبث أن تجيبنا عنها الطبيعة مجددا، لتعيد بدورها طرح أفكار جديدة، في عملية لانهائية. إذا، لا الوقائع، ولا الأفكار، يشكلان جوهر العلم. لأن هذا الأخير هو دائما وقتي ومرحلي، وهو يولد دائما – بطريقة رمزية – من تضافر الفكرة والواقعة. إن التأكيد على الفرق بين منطق الإنسان من جهة، ومنطق الطبيعة من جهة أخرى، يظل محايثا في عمل كلود برنار، بحيث استطاع من خلال هذه النقطة – ومن كثير غيرها – أن يسبق المنظرين “البراغماتيين” في العلم.
إن “محاضرات في الفلسفة الوضعية” لأوغست كومت، هو أحد أكبر الأعمال الفكرية في الفلسفة الحديثة. فالفكرة البسيطة والعبقرية، في تأسيس علاقة تراتبية (هيراركية) بين مختلف العلوم، بدءا من الرياضيات وانتهاء بالسوسيولوجيا (علم الاجتماع)، تفرض نفسها على عقولنا، منذ أن صاغها كومت، بقوة الحقيقة الجازمة. وإذا أمكن معارضة بعض النقاط في سوسيولوجيا كومت، فلا يمكن في المقابل، إنكار فضله في ترسيم برنامج السوسيولوجيا والبدء في تنفيذه. إصلاحيا على طريقة سقراط، فقد كان كل شيء مهيئا، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، ليتبنى القاعدة السقراطية :” اعرف نفسك بنفسك”، ولكنه طبقها على المجتمعات بدل الأفراد، لأن معرفة الإنسان الاجتماعي كانت في نظره ذروة العلم وموضوع الفلسفة بامتياز. أضف إلى ذلك، أن مؤسس الوضعية، الذي أعلن خصما لكل ميتافيزيقا، هو ذو نزعة ميتافيزيقية، وأن الما – بعدية في أعماله ينظر إليها كجهد جبار لأجل تعظيم الإنسانية.
لم يكن لـ”رينان” في المقابل أي قرابة فكرية مع كومت. ولكنه آمن مع ذلك، على طريقته الخاصة، بالدين الإنساني الذي حلم به مؤسس الوضعية. لقد كان للتأثير الذي مارسه رينان على عصره العديد من الأسباب. فقد كان أساسا كاتبا رائعا – إن كان من الممكن في كل مرة أن نطلق اسم الكاتب على الشخص الذي ينسينا أنه يستعمل الكلمات – تسلل فكره مباشرة إلى عقولنا. إضافة إلى تأثير مفهوم التاريخ المزدوج والمتفائل للتاريخ الذي دخل عمل المعلم في القرن الذي أحيا العلوم التاريخية. لأنه من جهة، اعتقد أن التاريخ يسجل تقدما غير منقطع للإنسانية، ومن جهة أخرى، رأى في التاريخ بديلا عن الفلسفة والدين.
هذا الإيمان نفسه بالعلم – بالعلوم التي تدرس الإنسان – يوجد كذلك عند تان. وهو المفكر الذي كان له تأثير مماثل – كرينان – في فرنسا، وربما تأثير أكبر من رينان في الخارج. لقد أراد تان تطبيق مناهج الطبيعيين والفيزيائيين على دراسة النشاط الإنساني بأشكاله المختلفة، أي في الأدب والفن والتاريخ. من جهة أخرى، أدخل تان كثيرا من أفكار المعلمين القدماء. فقد آمن مع سبينوزا بضرورة الكلي. كما تبنى رؤى قريبة من أرسطو وأفلاطون حول بعض الأشكال السحرية للتجريد، وحول الصفات الجوهرية، والملكات الرئيسية. لقد عاد بذلك، ضمنيا إلى الميتافيزيقا، ولكنه حدد أفق هذه الميتافيزيقا بالإنسان وأشيائه. لا يقل تان عن رينان، تباعدا عن كومت. ومع ذلك هناك أسباب تجعلنا نصنفه أحيانا – كما رينان نفسه – في عداد الوضعيين. ففي الواقع هناك طرق عدة لتعريف الوضعية، ولكننا نعتقد انه يجب النظر إلى التعريف قبل كل شيء، كمفهوم مركزي – إنساني في الكون.
بين فلسفة البيولوجيا وفلسفة المجتمع، ظهر اتجاه جديد في البحث، ينتمي أيضا إلى القرن التاسع عشر، ويعود الفضل الأكبر في إبداعه، إلى العبقرية الفرنسية. نقصد بذلك البسيكولوجيا (علم النفس). لا يعني ذلك، بأنه لم يوجد، خاصة، في فرنسا وإنكلترا واسكتلندا، علماء نفس بارزين، ولكن الاستبطان، متروكا لذاته ومقصورا على دراسة الظواهر العادية، وجد صعوبة كبيرة في الولوج الى بعض المناطق النفسية، وتحديدا “اللاوعي”. لقد أضاف القرن التاسع عشر على طريقة الاستبطان المعتادة، طريقتين أخرتين. فمن جهة، مجموعة الإجراءات والقياسات المخبرية، ومن جهة أخرى، الطريقة التي يمكن أن نسميها عيادية، والتي تقوم على جمع ملاحظات سريرية لمرضى، وكذلك أيضا، على إحداث ظواهر مرضية (التسمم، التنويم المغناطيسي الخ..). من هاتين الطريقتين، حيث كانت الأولى مطبقة خصوصا في ألمانيا، ولو أنها ليست مهملة، فإنها بعيدة جدا عن تقديم ما ينتظر منها. على عكس الطريقة الثانية التي سبق لها تقديم نتائج مهمة، ويترك لها البحث عن نتائج أخرى، أكثر أهمية أيضا. إلا أن هذه البسيكولوجيا الأخيرة التي أصبحت مزروعة اليوم في أكثر من بلد، هي علم من أصل فرنسي، والذي ظل فرنسيا بامتياز. فقد تم تحضيره بواسطة الأطباء العقليين الفرنسيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتأسس بطريقة نهائية مع مورو دو تور، ولم يتوقف منذ أن أصبح ممثلا في فرنسا من قبل أساتذة، سواء جاءوا من علم الأمراض إلى علم النفس، أو كانوا أطباء نفسيين جذبوا نحو علم الأمراض العقلي. ويكفينا أن نعدد هنا أسماء: شاركو، ريبو، بيار جانيه، جورج دوماس.
وبما أن قسما كبيرا من الفلسفة الفرنسية قد اتجه في القرن التاسع عشر، نحو الفزيولوجيا، البسيكولوجيا، وعلم الاجتماع، فإن القسم الباقي تناول الطبيعة والفكر بشكل عام، كموضوعين للتنظير، كما في القرون السابقة.
منذ بداية القرن التاسع عشر، أنجبت فرنسا الميتافيزيقي الأكبر منذ ديكارت ومالبرانش: إنه مان دو بيران، الذي كان لمذهبه تأثير متصاعد، على الرغم من أنه لقي اهتماما قليلا في عصره. ويتساءل المرء إذا لم تكن الطريق التي افتتحها هذا الفيلسوف، هي الطريق الواجب على الميتافيزيقا أن تسير بها حتما! فعلى الضد من كنط، (من الخطأ أن نسميه “كنط فرنسا”) حكم بيران بأن العقل الإنساني قادر، على الأقل في بعض النقاط، أن يصل إلى المطلق، وأن يجعل منه موضوع تأملاته الفكرية. لقد برهن بأن المعرفة التي نملكها عن أنفسنا، خصوصا في الشعور بالسعي، هي معرفة خاصة، تتخطى الظاهرة المجردة، وتصل إلى معرفة الواقع في ذاته. هذا الواقع الذي أعلن كنط استحالة معرفته، أو الوصول إليه (الشيء في ذاته). باختصار، لقد أدرك بيران فكرة الميتافيزيقا التي ترتفع شيئا فشيئا، نحو العقل عموما، على أن ينزل الوعي أكثر إلى أعماق الحياة الداخلية. لقد استخلص برؤية عبقرية، النتائج، دون اللهو بالألعاب الديالكتيكية، ودون أن يبني سيستاما فلسفيا.
من جهة أخرى، نستشف بعض التشابه بين بيران وباسكال، من خلال قراءتنا لرافيزون. فرافيزون المتعلق بباسكال أكثر من تعلقه ببيران، والمغرم بالفن الإغريقي أكثر من غرامه بالفلسفة اليونانية، جعلنا نفهم بإعجاب، كيف أن أصالة كل فيلسوف فرنسي، لم تمنعه من الارتباط ببعض التقاليد، وكيف أن هذه التقاليد نفسها، تلتقي مجددا بالتقاليد الكلاسيكية. صحيح أن ديكارت قطع مع فلسفة القدماء، ولكن عمله حافظ على صفات النظام والقياس، التي شكلت ميزات الفكر اليوناني. لقد أضاء رافيزون على هذا الجانب الفني والتقليدي من الفكر الفلسفي الفرنسي، كما رسم أيضا الخطوط العريضة ،لفلسفة تقيس واقع الأشياء بالنسبة إلى درجة جمالها.
لا يمكن أن نذكر اسم رافيزون دون أن نشرك معه اسم لاشوليه؛ المفكر الذي كان له تأثير مهم وكبير أيضا. فقد أيقظ لاشوليه الفلسفة الجامعية، حينما كانت راقدة في أحضان مذهب فيكتور كوسان، المحبب والسهل. لقد بقيت أطروحته حول أساس الاستنباط تقليدية، كما كل الأشياء التي تحمل ماركة التمامية. كما أن مذهبه الذي أعلن نفسه تابعا للكنطية، يتخطى في الواقع، مثالية كنط ويؤسس لمثالية من نوع خاص، والتي يمكن أن تكون متعلقة بمثالية بيران. لقد كان رافيزون أستاذا لا يضاهى، تغذت من فكره، عدة أجيال من الأساتذة.
انطلاقا من فلسفة رافيزون، خاصة آراؤه في العادة، وفي فلسفة كومت أيضا (خصوصا في تأكيدها على قابلية رد العلوم إلى بعضها البعض)، يمكننا أن نقارب النظرية الجديدة والعميقة، التي عرضها بوترو في أطروحته حول “جواز قوانين الطبيعة”. ، وقد توصل الرياضي الكبير، هنري بوانكاريه من خلال طريق مختلف جدا، ومن خلال تحليل الشروط التي يخضع لها بناء المفاهيم العلمية، إلى خلاصات من نفس النوع. لقد عرض ما يوجد من نسبية في حياة الإنسان، ومن نسبية في الضرورات والأوليات التي توجد في علومنا، وفي شبكة القوانين التي نشرها فكرنا في الكون. يشبه ذلك مذهب ميلهو، الذي يمكن وضعه إلى جانب مذهب ادوارد لوروي. وإذا لم يكن عمل هذا الفيلسوف يملك، على الرغم، من بعض التشابهات الخارجية، عقلية مختلفة، فإن نقده للعلم، مرتبط بوجهات نظر شخصية، وعميقة، حول الحقيقة عامة، وحول الأخلاق والدين.
لقد كانت الفكرة الطاغية عند ليار، هي الاحتفاظ بالميتافيزيقا والعلم، كشكلين متساويين وشرعيين في الفكر البشري. الهاجس نفسه كان موجودا عند فوييه. فقد طور الأخير، الذي كان عالما نفسيا واجتماعيا، بقدر ما كان ديالكتيكيا، نظرية عقلانية موسعة في الأفكار– القوى. ولم يترك هذا المفكر اللامع، سؤالا، نظريا أو عمليا، إلا وقدم حوله آراء واقتراحات مهمة. أما تلميذه العبقري غويو، الذي هو أقل شهرة من نيتشه، فقد برهن، قبل الفيلسوف الألماني، وبعبارات أكثر اعتدالا واتزانا، وتحت شكل أكثر قبولا، أنه يجب البحث عن المثال الأخلاقي، في أكبر توسع ممكن للحياة.
لقد تركنا جانبا في هذا التعداد السريع، مفكرين من الدرجة الأولى، الذين لا نستطيع ربطهم بالتقاليد المنحدرة من بيران. نريد أن نتكلم عن رنوفييه وكورنو.
تخلص رنوفييه شيئا فشيئا، من النقد الكنطي الذي انطلق منه بداية، والذي استطاع من جهة أخرى، تغييره بعمق، لكي يصل إلى خلاصات غير بعيدة كثيرا، من جهة الحرفية، عن الدوغمائية الميتافيزيقية. لقد أكد، خصوصا، استقلال الفرد الإنساني، وأعاد الحرية إلى العالم. ولكنه جدد معنى تلك الطروحات، عبر تقريبها من معطيات العلم الوضعي، لاسيما، بجعل نقد الفهم الإنساني يسبقهم. لقد أثر بشكل كبير على تفكير عصره، وذلك من خلال أبحاثه في الأخلاق، ونظريته عن الطبيعة والإنسان.
أسس كورنو، الذي قادته دراساته العلمية، خصوصا في الرياضيات، إلى الفلسفة، نقدا جديدا، على خلاف النقد الكنطي، يطال في الوقت نفسه صورة ومضمون معرفتنا من جهة، والمناهج والنتائج من جهة أخرى. لقد قدم رؤى جديدة، لامعة وعميقة، في عدة نقاط، تحديدا في الصدفة والاحتمال. لقد آن الأوان، لكي يوضع هذا المفكر في مكانه الصحيح، كواحد من أوائل الفلاسفة في القرن التاسع عشر.
يمكننا الآن، كي نستخلص، أن نقول كلمة حول مشروع الكاتب ” التطور الخلاق” لوضع الميتافيزيقا على ميدان البحث، ولتأسيسها. ولننتج بالاعتماد على العلم، والوعي، وبتنمية ملكة الحدس، فلسفة قادرة على إعطاء، ليس فقط النظريات العامة، بل كذلك التفسيرات الحسية للوقائع الخاصة. هذه الفلسفة يجب أن تكون أيضا، قابلة بنفس الدقة التي للعلم الوضعي. مثل العلم يمكنها أن تتقدم دون توقف، بتراكم النتائج فوق بعضها. ولكنها ترمي من جهة أخرى، وهذا ما يميزها عن العلم، على توسيع أطر الفهم أكثر فأكثر، وتوسيع التفكير البشري.
الجزء الثاني
لقد تناولنا سابقا مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين، أخذين بعين الاعتبار، تنوعهم، أصالتهم، جدة إبداعاتهم، والإسهامات التي يدين بها العالم لهم. أما الآن فسوف نبحث عن بعض الميزات المشتركة التي تجمع هؤلاء الفلاسفة، وبالتالي، تميز الفكر الفرنسي.
الميزة الأولى التي تبرز بداية، عندما نقرأ أحد كتبهم، هي البساطة في الشكل. فلو أسقطنا جانبا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة عشرين أو ثلاثين سنة، حيث تعرض عدد صغير من المفكرين لتأثيرات خارجية، جعلتهم يحيدون أحيانا، عن التقليد في الوضوح، فإننا نستطيع القول أن الفلسفة الفرنسية انتظمت دائما حول مبدأ : لا يوجد فكرة فلسفية، مهما كانت عميقة ودقيقة، لا يمكن، ولا يجب، أن يعبر عنها بلغة مفهومة عند كل الناس. فالفلاسفة الفرنسيون لا يكتبون لدائرة خاصة من الناس، بل إنهم يتوجهون إلى الإنسانية جمعاء. وإذا كان قياس مدى عمق أفكارهم، وفهمنا الكامل لها، يتطلب منا أن نكون فلاسفة أو علماء، إلا أنه لا يوجد شخص مثقف لا يستطيع أن يقرأ أعمالهم الرئيسية، وأن يخرج منها ببعض الفائدة. فهم عندما يحتاجون إلى أساليب جديدة في التعبير، فإنهم لا يبحثون عنها، كما في الخارج، في ابتكار مفردات خاصة (عملية غالبا، ما تؤدي إلى انغلاق مفاهيم غير ناضجة، في حدود مركبة واصطناعية)، ولكن بالأحرى، في تشكيلة بديعة من الكلمات المتداولة، بحيث يعطي لهذه الكلمات معان مختلفة، تسمح لها بالتعبير عن أفكار أكثر دقة وعمقا. وذلك ما يفسر مساهمة كل من ديكارت وباسكال وروسو – لكي لا نذكر غيرهم – في تنمية قوة ومرونة اللغة الفرنسية، سواء كان موضوع التحليل هو الفكر الخالص (ديكارت)، أو الشعور والإحساس (باسكال وروسو). ففي الواقع، يجب علينا أن نذهب بتحليل أفكارنا إلى نهاياته، كي نستطيع التعبير عنها بكلمات بسيطة. ويمكن القول، أن الفلاسفة الفرنسيين جميعا – ولو بدرجات متفاوتة – قد امتلكوا هذه الموهبة. فقد شكلت الحاجة إلى تحليل الأفكار، وحتى المشاعر، إلى عناصر واضحة ومتميزة، تجد تعبيراتها في اللغة العادية، ميزة للفلسفة الفرنسية منذ بداياتها.
أما إذا أردنا الانتقال الآن من الشكل إلى المضمون، فسنلحظ التالي:
لقد كانت الفلسفة الفرنسية على صلة وثيقة ودائمة بالعلم الوضعي. أما في الخارج، في ألمانيا مثلا، فقد كان يمكن لهذا الفيلسوف أن يكون عالما، ولذاك العالم أن يكون فيلسوفـا. ولكن الجمع بين هذين الاستعدادين كان أمرا استثنائيا، أو بالأحرى عرضيا. فإذا استطاع ليبنتز أن يكون فيلسوفا كبيرا، وفي الوقت نفسه، رياضيا كبيرا، فإننا نرى أن التطور الأساسي للفلسفة الألمانية خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، قد تم خارج حدود العلم الوضعي، بينما – على العكس – شكل الارتكاز على العلم جوهر الفلسفة الفرنسية. فالوحدة بين الفلسفة والرياضيات عند ديكارت حميمية بحيث يصعب معها الحسم فيما إذا كانت هندسته وحيا من ميتافيزيقاه، أم أن ميتافيزيقاه هي امتداد لهندسته. كذلك كان باسكال رياضيا عميقا وفيزيائيا أصيلا قبل أن يكون فيلسوفا. فالفلسفة الفرنسية في القرن الثامن عشر نامت بين المهندسين والطبيعيين والأطباء (المبرت، لامتري، بونيه، كاباني). فبعض كبار المفكرين الفرنسيين في القرن التاسع عشر (أوغست كومت، كورنو، رنوفييه….الخ) قد جاؤوا إلى الفلسفة عن طريق الرياضيات، من ضمنهم واحد كان رياضيا نابغا هو هنري بوانكاريه. كلود برنار الذي أعطانا فلسفة المنهج التجريبي، كان واحدا من مبدعي علم النفس. حتى الفلاسفة الفرنسيون الذين نذروا أنفسهم خلال نهاية القرن للملاحظة الباطنية، برهنوا على الحاجة إلى البحث خارج أنفسهم، في الفيزيولوجي والباثولوجي العقلي الخ. ليثبتوا بأنهم لا ينكبون على لعبة بسيطة للأفكار أو تلاعب بالمفاهيم المجردة. فقد كان الميل واضحا عند أكبر مطلق للمنهج الاستبطاني العميق، (مان دوبيرون). بكلمة مختصرة، العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والعلم في فرنسا، هي حقيقة ثابتة، بحيث تكفي لتمييز وتعريف الفلسفة الفرنسية.
هناك سمة أقل خصوصية وإن كانت مدهشة أيضا، وهي ميل الفلاسفة الفرنسيين إلى البسيكولوجيا، والمراقبة الباطنية.
من المؤكد أن هذه السمة لا تكفي، كسابقتها، لتعريف التقليد الفرنسي، لأن روح البحث المجرد، جذبت الآخرين أيضا، وانتشرت بدون شك، كما في فرنسا، في كل من انكلترا وأمريكا. ولكن بينما أظهر المفكرون الألمان الكبار (حتى ليبنتز وكنط) في الغالب، حسا بسيكولوجيا، إلا أن شوبنهاور المتأثر بالفلسفة الفرنسية للقرن الثامن عشر هو الميتافيزيقي الألماني الوحيد ربما الذي كان سيكولوجيا، بينما لا يوجد في المقابل، فيلسوف فرنسي كبير لم يظهر عند الحاجة مراقبا حاذقا وثاقبا للنفس الإنسانية. ومن النافل التذكير بالدراسات البسيكولوجية الدقيقة عند ديكارت ومالبرانش، المتشابكة مع تنظيراتهم الميتافيزيقية. لقد كانت رؤية باسكال ثاقبة بالدرجة نفسها حينما يتم تطبيقها على المناطق المعتمة من النفس، كما على الموضوعات الفيزيائية والهندسية والفلسفية. أما كونديلاك فقد كان بسيكولوجيا بقدر ما كان منطقيا. وماذا يمكن القول إذا على الذين فتحوا آفاقا جديدة في التحليل النفسي، أمثال، روسو أو مان دوبيران؟ لقد مهد التفكير الفرنسي حول الحياة الداخلية للإنسان خلال القرنين السادس والسابع عشر الطريق إلى ظهور البسيكولوجيا العلمية المجردة، والتي أصبحت فيما بعد موضوع القرن التاسع عشر. لم يساهم أحد في الخارج في تأسيس هذه البسيكولوجيا العلمية كما فعل مثلا : مورو دو تور، شاركو، أو ريبو. علينا أن نلاحظ هنا بأن منهج هؤلاء البسيكولوجيين – الذي قدم للبسيكولوجيا عامة أعظم اكتشافاتها – ليس سوى توسيعا لمنهج المراقبة الداخلية، الذي يهتم فقط بمؤشرات الوعي عند المريض بدل تعلقه بها عند الإنسان المعافى.
هاتان هما السمتان الأساسيتان للفلسفة الفرنسية.
عندما نجمعهما سوية، فإنهما يقدمان للفلسفة الفرنسية سحنتها الخاصة. إنها فلسفة تضم عن كثب حدود الواقع الخارجي، الذي يمثله الفيزيائي، وبقرب أكثر، الواقع الداخلي الذي يظهر للبسيكولوجي. ولهذا السبب، فإنها تنفر غالبا من أخذ شكل السيستام. وهي ترفض كذلك الدوغمائية المبالغة كما النقد الجذري. فمنهجها بعيد جدا عن منهج هيجل وكنط، دون أن يعني ذلك أنها عاجزة عن تشييد بعض البناءات الكبيرة عندما تريد فعل ذلك. ولكن الفلاسفة الفرنسيين يملكون بشكل عام الخلفية بأن السستمة شيء سهل، وبأنه من اليسير جدا الذهاب بالفكرة إلى نهاياتها، بينما الصعوبة تكمن بالأحرى، في القدرة على وقف الاستنتاج في محله المناسب، وفي تحويله كما يجب، بفضل تقصي العلوم الجزئية من جهة والاحتكاك المتواصل مع الواقع. لقد قال باسكال: بأن “الحس الهندسي” وحده لا يكفي، وبالتالي، يجب على الفلسفة أن تجمعه مع “الحس الرفيع”.
كذلك أعلن الميتافيزيقي الكبير ديكارت، أنه يكرس وقتاً أقل للميتافيزيقا، بحيث نفهم من قوله، بلا شك، بأن الاستنتاج الفكري الخالص، أو البناء الميتافيزيقي المحض، يحصل من تلقاء نفسه، بأقل مما لو كان الفكر مستعداً لها مقدماً. هل نزعم بأن الفلسفة تبتعد عن هدفها حينما نجعلها أقل سيستامية، وبأن دورها بدقة هو توحيد الواقع؟ ولكن الفلسفة الفرنسية لم تتخل أبدا عن هذا التوحيد. ولكنها فقط لا تثق بالنهج الذي يقوم على تبني هذه الفكرة أو تلك، وبالتالي، إدخال جملة الأشياء، طوعا أو كرها، في هذه الفكرة. نستطيع دائما معارضة هذه الفكرة بفكرة أخرى، بحيث نبني منها، وفقا للطريقة نفسها، سيستاما مختلفا. ليصبح السيستامان من جهة أخرى، متساويين في السند وعدم قابلية التحقق. بشكل تصبح الفلسفة معه مجرد لعبة بسيطة، مسابقة بين الديالكتيكيين. لاحظ أن الفكرة هي عنصر من ذكائنا، وأن ذكاءنا نفسه هو عنصر من الواقع. فكيف يمكن إذا لفكرة ليست إلا جزءا من جزء، أن تحتضن الكل؟ إن توحيد الأشياء لا يمكن أن يحصل إلا من خلال عملية أكثر صعوبة، وطولا، ودقة. فبدل أن يقلص الفكر الإنساني الواقع إلى حدود فكرة من أفكاره، عليه أن يوسع نفسه إلى النقطة التي يتطابق فيها مع أجزاء أكبر من الواقع. ولكن للوصول إلى ذلك، يجب مراكمة العمل لقرون عديدة. إن دور كل فيلسوف هو أن يأخذ من مجموع الأشياء، رؤية يمكن لها أن تكون حاسمة في بعض النقاط، ولكنها ستصير وقتية حتما في بعض النقاط الأخرى. لدينا نوع من السيستام هنا إذا أردنا ذلك. ولكن مبدأ السيستام نفسه سيكون مرنا، قابلا للتوسع المستمر، بدل أن يكون مبدأ جامدا، كما هو الشأن حتى الآن، في البناءات الميتافيزيقية. هذه هي كما يبدو لنا الفكرة الضمنية في الفلسفة الفرنسية. إنها فكرة لم تصبح واعية بذاتها، ولم تحمل عناء صياغتها، إلا في مراحلها الأخيرة. ولكن إذا لم يتـم إطلاقها إلا مؤخرا، فلأنها كانت طبيعية على العقل الفرنسي، عقل مرن وحيوي، لا يتضمن شيئا من الميكانيك أو الاصطناع، عقل اجتماعي بسمو، ينفر من البناءات الفردية، ويذهب من الغريزية إلى ما هو إنساني.
عبر هذا، ومن خلال الاتجاهين أو الثلاثة الذين أشرنا إليهما، تفهم ربما، ما تحتويه الفلسفة الفرنسية من عبقرية وإبداع ثابتين. فالتزامها الدائم بأن تتكلم لغة جميع الناس، جنبها أن تكون امتيازا لنوع من الطبقة الفلسفية. لقد ظلت خاضعة لسيطرة الكل. لم تقطع أبدا مع الحس المشترك. مورست من قبل سيكولوجيين، وبيولوجيين، ورياضيين لقد ظلت باستمرار على علاقة بالعلم وكذلك بالحياة. هذا التواصل الدائم مع الحياة، العلم، والحس المشترك، كان مثمرا دائما، في الوقت الذي عصمها من اللهو مع ذاتها، وفي إعادة تشكيل الأشياء بطريقة اصطناعية ومجردة. ولكن إذا استطاعت الفلسفة الفرنسية أن تنبعث من جديد، وكذلك باستخدام كل تجليات العقلانية الفرنسية، أليس لأن تلك التجليات نفسها تميل لأن تأخذ الشكل الفلسفي؟ قلة هم في فرنسا، العلماء، الكتاب، الفنانون، حتى الحرفيون، الذين انغمسوا في مادية ما يعملون به، والذين لم يبحثوا عن استخراج الفلسفة من علمهم، فنهم، أو مهنتهم، حتى لو جاء ذلك أحيانا، بطريقة فيها بعض الرعونة والسذاجة. الحاجة إلى الفلسفة عالمية. فهي تميل إلى تحمل كل النقاشات، حتى الأعمال، على أرضية الأفكار والمبادئ. إنها تترجم الطموحات الأكثر عمقا للروح الفرنسية، التي تذهب مباشرة إلى ما هو عام، ومن خلاله، إلى ما هو كريم. وبهذا المعنى فإن الروح الفرنسية تشكل وحدة مع الروح الفلسفية.
الأحد فبراير 16, 2014 1:18 pm من طرف هرمنا