ثقافة الحقيقة تأسيساً للعدالة
مطاع صفدي
كل فكْر سياسي لا بدّ له من التمتع بجرعة من ينبوع التخييل الطوبائي. وبالتالي فإن كل تأمل وبحث عن الهوية المجتمعية أو القومية أو الإنسانوية، إنما يغترف من الإناء الطوبائي كما من الإناء الوضعي. والفروق بين النظريات السياسية إنما ترجع إلى طريقة هذا الغَرْف وكميته ونوعيته. وبقدر ما تتمكن خطابات النقد السياسي من كشف أساليب المذاهب التنظيرية في التعامل مع حصة أو جرعة من المنهل الطوبائي، وتقيس درجتها وكيفيتها، بقدر ما يتمكن الفكر من استرداد المبادرة، والانتهاض بالجدل العام إلى ما فوق تضاريس التأويلات الأحادية لعلاقات المجتمع المدني بذاته أولاً، وبأشكال السلطة التي تحكمه تالياً. ولقد اعتبر تيار كبير من الفلاسفة والحقوقيين أن الطوبائية قد تكون هي الرديف المسكوت عنه، تحت تلفيظ الكونية وأنساقها الفكروية غير المحدودة. فالكوني هو الجانب الآخر اللاحديّ لكل حد مفهومي في السياق الأخلاقي والسياسي. وإن جاذبية العدالة في الأخلاق، والحرية في السياسة، مدينة لكمية اللاحدّ التي تندلق وراء جرس هذين الملفوظين. فالعدالة والحرية هما من المعاني التي تشكل عملة التعامل اليومي للخطاب الفلسفي. ولا حقيقة لهذه العملة، أي لا رصيدَ لها إلا مدى ثقة الناس المتعاملين بها، على أنها تشفّ عن الصحّ والخير ضد الغلط والشر. ذلك لأن المعنى إنما يفتح على الكلي، ويمد جسراً مفهومياً ما نحو الكوني. فالإنسان، هذا الكائن العاقل، أي المفكر، لا يمكنه أن يمارس حقيقته تلك إلا بقدر ما ينفتح على الفكر، أي على هذه العلاقة الصعبة أو المجهولة مع الكوني. فكل ما ينير هذه العلاقة، ويحيلها من الاستعصاء إلى الإمكان، إنما يساهم في نسج الفعل الفلسفي؛ ولذلك لم ير أفلاطون سبيلاً إلى إقامة المجتمع المدني إلا في ظل الحكمة الفلسفية. لأن صيغة المدني إنما هي تعبير عن المجتمع العادل الذي هو القادر على التعامل مع المعاني، وابتكار سُبُل ممارستها وتحقيقها ضمن علاقات الشفافية ما بين الناس. ولا تتوفر الشفافية في النسيج الاجتماعي إلا بالكشف عن الالتباسات الناجمة عن ازدواجية النية والفعل، الخاص والعام؛ وذلك بمدى ما يتّضح تمفْصلُ أفعالِ الأفراد مع أفعال الجماعة عند تكرار ذات الظروف، بالنسبة لكل منهما؛ وبحسب ما يتمأسس هذا التمفصل عبر جاهزيات موضوعية، يلتقطها ويصححها الفكر، محوّلاً إياها إلى قيم وحقائق عامة تحت طائلة العدالة للجميع والأمن الوجودي لأفرادهم.
إن انبثاق الفرد (العادل) أي الحرّ، مرتبط أساساً بتحقق قدر من (سيادة) الفرد على أفعاله. ولذلك كان أول شاغل للفلسفي السياسي هو مفهوم السيادة. لا حديث عن المعاني أو القيم لدى أفراد لا يمتلكون سيادتهم على أفكارهم وأعمالهم. ولا حديث عن مجتمع مدني بدون أن يكون نسيجه يتألف من إرادات الأفراد الأحرار. ولقد بدأت الحداثة الفلسفية مع طرح سؤال: لمن السيادة؟ مقابل تعالي اللاهوت فوق الناسوت. وهو تعالٍ نظّم نموذَج المجتمع التابع لدولة، تعتبر مرجعيتها كسلطة دنيوية، مجرد انعكاس أو ظل لسلطة علوية. فكان هم الحداثيين الأوائل هو طرح مرجعية أخرى، سُميت بالطبيعة. ويمكن اعتبار أرسطو أحدَ المُرسين لسلطة الطبيعة كأساس للعقلانية. لكن مرت قرون عديدة فيما بعد، كانت المرجعية خلالها محتكرة من قبل السلطة اللاهوتية، قبل أن يتمكن الفكر مجدداً، من كسر الطبقية الميتافيزيقية، كسبيل لكسر طبقية دنيوية محروسة بالحكم المطلق، والنخبوية الأرستقراطية، أي تلك المرجعية التحالفية بين الكنيسة والإقطاع النخبوي (العنصري) المتمثلة عبر حكم النبالة: الأسر العسكرية المنحدرة عن الفروسية القروسطية. فكان اختراع مفهوم الطبيعة كمحايثة مادية ومعنوية مقابل احتماء السلطات الحاكمة وراء إدعاءات الانصياع للشرعية الغيبية؛ لكن الطبيعة سوف تتحول إلى ما يشبه حتمية أخرى، سوف تستند إليها فئات سلطوية جديدة صاعدة إلى حكم الدولة الثورية القائمة على أنقاض دولة المركب اللاهوتي الإقطاعي. ذلك أن القانون (الطبيعي) لن يُعرف إلا عبر تأويلاته بحسب الخطابات العامة المسيطرة. ومن الواضح أنه إذا تمَّ اكتساب «الأنوار» لنصرها الأول على النظام القديم، فلم يكن ذلك إلّا استناداً إلى دفع مرجعية الطبيعة، والطبيعة الإنسانية، إلى صلب النقاش الدائر خلال القرن الثامن عشر(1).
فالكونية هنا تنحدر من التجريد اللاهوتي، إلى المحايثة الطبيعية. وتمتلئ بمفردات التضمين الإنسانوي الذي لا يلبث أن ينقلب إلى مصدر شرعية جديدة، تؤكد جدارة الكائن الإنساني في التمتع بحقوقه الطبيعية، قبل أن يستلبها منه أيُّ نظام باسم شرعيةٍ أخرى مفارقة لاهوتية، أو نَبالةٍ مطلقة وراثية. وباسم هذه الطبيعة الحقوقية، أو الحقانية، يمكن لكل البشر أن يتطلعوا إلى تلاق متكامل ومتوازن في رحاب كونية شمولية. تنظّم هذا التطلّع التلقائي إرادةُ ائتلاف، تثمر تعاقد الجميع تحت طائلة كونية الكل. فـ «الجميع» هنا هو المحل الموضوعي لتلاقي إرادات الأفراد حول عقد عقلاني، أخلاقي خالص، من أجل ترجمة الكونية إلى نظام حقوقي يعبر عن الصالح العام، أي إرادة الكل.
لقد أراد روسو من هذا التمييز والتكامل بين مفهوميْ: الجميع، والكلّ، أن يدعم تحت صيغة الأول سيادة الفرد على إرادته وتمتعه بحريته الطبيعية التلقائية. وأن ينفتح، تحت صيغة الثاني، مفهوم الكل، نحو الكونية الإنسانوية الشاملة. فالنظرية العقدية هي أول صياغة عقلانية واقعية لثقافة الأنوار الأولى، المنتصرة للطبيعة، أو لأول ثورة سياسية شمولية للعدالة بهذا المعنى، في مرحلة الفجر من الثورة الفرنسية؛ وقد جاءت هذه الشَّرْعة لتغدو أساسَ عُملةِ الحداثة السياسية، والتجسيد الموضوعي لإمكان قيام مجتمع حقوقي/حقاني تحت ظل كونية بشرية خالصة.
هذا بالرغم من أن الرومانسية انطلقت من نقد هذه الكونية المجردة حسب الاعتراض الجذري، الذي سيغدو كلاسيكياً بالنسبة لكل التيارات الأخرى التي سوف ترفض التوفيق بين العقلانيات ذات الصيغة الإطلاقية التعميمية، وبين مفهوم آخر للطبيعة، هو الحياة؛ إلا أن الرومانسية سوف تظل تتشبث بالفرد كهوية سابقة على كل تعريف. وكما تطورت النظرية السياسية من مذهب العقد الاجتماعي، كصياغة منفصلة عن الامكان، وتستمد شرعيتها الحقوقية من مدى تعبيرها عن العلاقة المنطقية فحسب، إلى نقدية أكثر حداثة، مع الجهد الكانطي الحاسم، فإن الرومانسية كذلك انطلقت من الاعتراضات العفوية الأولى التي جاءت عن طريق أوائل الرومانسيين الألمان بخاصة، من أمثال جاكوبي Jacobi وآخرين(2).
ثم جاءت الهيغلية فحاولت أن تستوعب كلاً من قطبي الحداثة الناشئة: العقل والطبيعة، عن طريق نقل جدل المفاهيم من الساحة المنطقية السكونية، إلى التكوين التاريخي. فإن إدخال الحركية التاريخية على الفلسفة، كان من أهم ثمرات النضج العصرية التي تمتع بها الفكر النقدي الحداثوي؛ ذلك أن ملاحقة نشوء الأفكار من بعضها سوف تسمح بتجاوز كل صعوبات المنطق التي تشل حركية الفكر. وكما قال نيتشه: «إن الكشف الرائع لهيغل، الذي قلب كل عادات المنطق، هذا الولد العاق، هو أنه عزم على تعليمنا أن الأفكار الخاصة إنما يخرج بعضها من بعض»(3). وقد وصفه بالتجديد العظيم (الأهم)، منذ أيام اليونان. وأهميته لا تتعلق بالحاضر فقط، ولكن بالماضي، لأن هذا الكشف سوف يبين عن مدى الانحراف الأنطولوجي الذي ارتكبه انحدار الميتافيزيقا الإغريقية نحو التمفصل التلفيقي والإكراهي مع اللاهوت اليهودي المسيحي. على كل حال، فإن تاريخانية هيغل تابعت كل الصيغ المركبة، الناجمة عن قطبي العقل والطبيعة داخل صيرورة لا تكف عن مراكمة إنتاج القطبين، وتفجير إمكانيات كل منهما على ضوء فعالية الذات والآخر معاً. وبهذا أصبحت الفلسفة قصةَ وعيٍ لذاتها عن طريق ممارستها لمغايرتها الدائمة مع حدثيات العالم. والنظرية السياسية لن تكون سوى محاولات لإنشاء أو التقاط منظومات دلالية انتقالية عبر تاريخانية الفلسفة نفسها.
سوف تبقى المادة الأولى من إعلان (حقوق الإنسان) معبرةً عن نواة الإشكالية الأصولية لكل تفكير سياسي مستقبلي، فهي تقول: “إن البشر يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق. أما الإمتيازات الاجتماعية فإنها تُبنى على المصلحة العامة”. والمقصود بتلك الإمتيازات الفوارق الطبقية الموروثة عن نظام الإقطاع الملكي والنبالة الأرستقراطية. غير أن التناقض بين طبيعانية الحقوق والفوارق الاجتماعية، وإن لم تعد ذات مشروعية إطلاقية مبنية على الحق الإلٓهي للملكية المطلقة، والحق الوراثي للنبالة النخبوية، إلا أنها ستظل مبعث مختلف صيغ التحليل والتوافقات التي تعرضت لها النظرية السياسية، حتى بعد نشوء البرجوازية، وانتقال المشروعية من السلطة المطلقة، إلى المجتمع، وتنامي الصيغة المدنية للمجتمع الحداثوي، في ظل الثورة الصناعية المتلاحقة. فلم تعد الإمتيازات وراثية، كما لو كانت ذاتَ أصولٍ فطرية في طبيعة الاجتماع الإنساني بصورة عامة. بل نظر إليها وكأنها خارج شرعية الحق إجمالاً، وإن كانت مشمولة بـ (مشروعية) القانون، كحقوق الملكية الخاصة بصورة محددة.
ولقد تطور النقد المصاحب لمبالغات الفوارق الطبقية، خاصة بعد نشوء البرجوازية التجارية، والاحتكارات الصناعية الكبرى، إلى معاودة التصدي لمفهوم المواطنية الثوري، المطبق بعد انهيار النظام القديمِ في فرنسا. فالرومانسية الألمانية التي بدت رجعية في الموقف السياسي، رفضت منذ البداية الطابع التجريدي لفكرة المواطن المعزول عن أية فردية واقعية، والمفصول عن شخصيته القومية، وتراثه الثقافي. وأما اليسار الحديث، فإنه يحل إشكالية المواطن التجريدي بإعادته إلى أرض الثورة الاجتماعية، المغيّرة لشروط علاقات القوة بين الطبقات والجماعات والأفراد، سواء كانت هذه العلاقات قائمة على قوة المال أو الموقع، أو الوظيفة والدور الاجتماعي.
هكذا قدمت الرومانسية زاداً أدبياً هائلاً في إبراز الخصوصية الفردية، بما هي تعبير أحادي عن كونية محايثة، وإن كانت هذه الخصوصية أقربَ إلى الشاعرية الأسيانة، والعزلة الإرادية، والحرية السلبية. لكنها أثرت على صعيد التأمل الفلسفي، في إنضاج المنطلق الأهم للنظرية النقدية مع كانط ومشروعه السياسي الكبير في التأسيس لفكرة المواطنة العالمية، وإمكانية نشوء الإطار الكوسموپولتيكي لمجتمع الغد الإنساني، منتصراً أخيراً على مختلف معيقاته التاريخية والإرادوية(4). فالطوبائية الثورية المتولدة مع إعلان حقوق الإنسان، كان يمكن لها أن تنهار أُسُسها النظرية كلياً، بعد تشتت البنيان السياسي للثورة الفرنسية، لولا أن هيغل أسبغ حركية الجدل التاريخي على نقدية كانط؛ ومنح الطوبائية بذلك قدرةً على صياغة عقلنة شمولية، تُزاوج بين حركة التشميل الكوني ومتغيرات الواقع التاريخي، بكل فعالياته التي يغدو لها إيقاع توحيدي، بحيث يُفسّر بعضُها بعضها الآخر، دونما حاجة إلى افتراض طبيعة عضوية بدئية، أو مبدأ متعال ومفارق، إلا هذا الحوار الدائم بين الفكر/الروح، والعالم/التاريخ. إذ أن العنصر الطوبائي هنا لا يفسر المحصلات المستقبلية على أساس تراكمية إنتاجات المركب الفكري التاريخي بعينه، بل هو الذي يُفسَر بها. وهذا ما جعل البناء الهيغلي الشامخ يبدو أهم صرح فلسفي لاكتمال تأحيد المطلق مع العالم، وليس العكس.
وبذلك تكون الهيغلية قد أنقذت «الأنوار»، وحررتها من صُدَف المتغيرات السياسية اليومية، ومن تأرجحات الارتفاع والسقوط للتجارب السلطوية معها أو ضدّها التي انتابت أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر، الذي هو قرن الحداثة السياسية الأولى بلا منازع؛ ومن الهيغلية بالذات سوف تتولد ازدواجية الشطرين اليساري واليميني لفلسفة ذلك القرن، وتطبيقاتهما الكبرى المتعارضة خلال القرن العشرين المغادر.
لكن ذلك لا يعني أن نمو الفلسفة السياسية كان مصاحباً ومرافقاً لتطورات التاريخ السياسي المصنوع من خلال الدول وعلاقاتها مع شعوبها من جهة، وفيما بينها من جهة أخرى. ذلك أن الفلسفي السياسي يُنيط بنفسه مهمة الإبانة عن الراهن في الحدثي أو الحادث. إنه لا يكشفه كشفاً نهائياً، لأنه بذلك لن يعود راهنياً. كما أنه أي الفلسفي السياسي لا يقسر كلَّ حدثيّ على إظهار جدارته بالتدليل على الراهن سلباً أو إيجاباً. فما لا يسجله التاريخ ليس من الضروري ألا يكون قابلاً للتسجيل، والعكس صحيح كذلك. وما يبقى دائماً قيْدَ التسجيل أو عدمه، هو ذلك الفائض شبه الحدثي الذي لا بد منه للتأشير على الراهن، غير الحدثي، والحادث دائماً.
إن الخطاب الوحيد المخول بالتقاط الراهن، إقبالاً أو إدباراً، هو خطاب الفلسفي السياسي القادر على تخطي المعلومي والإبستمولوجي في المتفرقات اليومية، نحو المعاينة النقدية. ولذلك لا يمكن التوحيد بين الفلسفي السياسي، وما يسمى بالسياسة اليومية لبنيةٍ فوقية في هرمية اجتماعية معينة، على الطريقة الماركسية. إذ إن السياسة كبنية فوقية، قد يصح تفسيرُها ماركسياً، كونها تابعة لظروف الإنتاج وعلاقاته الموضوعية؛ وبالتالي فهي انعكاس فكروي أو إيديولوجي؛ وتجسده مؤسساتٌ مادية ودستورية، تحرس الأمر الواقع لحالة المجتمع، وتعبر عن صياغة معينة لعلاقات القوة مع علاقات الحقيقة. أما الراهن فهو الموضوع الأحق الذي تقاس به منتجات الظروف الاجتماعية، بما فيها سياسات الأمر الواقع.
ماركس لم يتخلّ عن معيارية (الراهن)، كمرجعية ضمنية لأساس كل نقد وجهه إلى المجتمع البرجوازي الأول المرافق لمطلع النهضة الصناعية. فإن الراهن بالنسبة له هو الإنسان العامل، وليس المواطن بالمعنى التجريدي. فالتفريق بين حقوق للإنسان، وحقوق للمواطن (أي العامل الموجود واقعياً)، إنما يعني في النهاية أن الإنسان هو البرجوازي، وهو الذي يمتلك كل الحقوق، أما البروليتاري، فإنه يمتّ إلى تصنيف آخر، يُخرجه من مجتمع (الناس الأحرار المتساوين). فالراهن الماركسي، على العكس، هو البروليتاري، وهو معيار الحرية والعدالة. إنه الإنسان الطبيعي، ضد الإنسان، المواطن التجريدي؛ أو بالأحرى فإن الراهنية هي في المواطنية الحقيقية، وليس في تقسيمها إلى حق للمواطن المجرد ضد لا شيء للمواطن الفعلي الموجود. لكن البروليتاري هو الراهني الخاص بالحضارة الصناعية. أما الإنسان العادي، إنسان كل يوم، فسوف يظلُ يذكّر بالراهني المفقود في بقية الحضارات. وباسم ذلك الراهني المفقود الموجود سوف تتنامى نظريتان للنقد الحداثوي. إحداهما المعروفة والمعروضة، كمراجعة لنقد النقد والنمو معاً عبر مراحل المشروع الثقافي الغربي، وقطيعاته المتواترة؛ والأخرى غير المعروفة تنظيرياً على الأقل، ولكن الموجودة لدى الحضارات الأخرى، والمقموعة بسبب من ضحالة مواردها الفكرية ذاتياً، ومن صلابة ظروف الواقع المضاد موضوعياً، لاكتشاف ثقافة (الراهن) ما وراء الحدثيات العارضة يومياً.
ـ راهنية (المواطنية) وحدثية (المواطنة)
إن أقنوم المواطنية كمفهمة مجردة، الذي طالما استثار حمية النظرية النقدية وجدّد أسلحتها من مرحلة إلى أخرى، قد فتح أمامه، وعلى جانبيه الأيسر والأيمن، وفي وقت واحد، ومتناوب، جبهاتٍ من المعارضات، حملتها متغيراتٌ تاريخية كبرى على الأرض طيلة القرنين الماضيين. وكانت البداية تتمثل في الحصيلة الرجعية غير المقصودة للمنعكس السياسي الذي ولّدته أدبياتُ الرومانسية، وصولاً إلى الرد الجذري عليها حسب التشكيل الإيديولوجي الأشمل للنقدية الماركسية والاشتراكية بصورة عامة، منذ خمسينيات القرن التاسع عشر..
على كل حال، إن المواطنية صياغة حقوقية، وبالتالي نسبية من جهة ارتباطها بالقوانين الوضعية وتطورها، وهي كذلك تريد ألا تقطع موردها الفلسفي حول مفهوم الكونية. وفيما يتعلق بتطورها النسبي، فقد أصبح من المتعارف عليه أن القرن الثامن عشر قد أثبت للمواطنة كياناً مدنياً مقابل التبعية اللاهوتية. ويقوم هذا الكيان على ممارسة الحقوق الحريات، (الحريات الشخصية في التعبير والاعتقاد والعمل، والتملك). وفي القرن التاسع عشر تحققت المواطنة السياسية كردّ واقعي على المواطنية التجريدية والمحددة لحق كل مواطن أن يكون ناخباً ومنتخباً للمؤسسات الدستورية القائمة، متمتعاً بالتصويت العام كسبيل لتقرير مصير الشرعية الحاكمة.
وتطورت المواطنة السياسية إبان القرن العشرين إلى المواطنة الاجتماعية، التي رصدت للمواطن حقوقاً له على مجتمعه المدني ودولته السياسية، وذلك بأن توفر لجميع المواطنين مزايا الصحة، والتعليم والعمل. إنها تترجم المواطنية المفهومية الناشئة عصرياً في ظل دولة العناية، أي الدولة المسؤولة عن توفير ظروف الحياة السليمة المعادلة لكرامة الذات الإنسانية. فهذه النماذج الثلاثة للمواطنية لم تتطور عن بعضها نتيجة انعكاسات فكروية خالصة. لكنها اقترنت بتاريخانية مشبعة بجدليات العقل والواقع، استقطبها الفكر الفلسفي وساهم في تحديد مشروعيتها الوجودية، مما أرسى للذات مفهوماً تكوينياً منفتحاً على هوية نابعة من تَعيُّن الحرية تلقائياً، دون أن تحدّها أية تعيينات قبلية ميتافيزيقية، أو وضعية قسرية بعدية. لكنها هوية نقدية، قائمة على ما يمكن اعتباره تأسيساً وإعادة تأسيسٍ لعقلانية شفافة في نشوئها وتكاملها. ولقد احتاجت هذه الهوية قروناً ثلاثة على الأقل من أجل أن يكتمل وعيها لذاتها؛ وهو وعي، ما كان ليتحقق لو لم يكن منذ البداية ناقداً لذاته، وناقداً لنقده دائماً. وأن هذا النقد المتواصل والمضاعف لنفسه باستمرار، كان محايثاً لصيرورة الأحداث كبِطانةٍ ملتصقة بواقعات التاريخ، وتحولات الجماعة الإنسانية السائرة على خيار الحداثة وهَدْيها.
غير أنه، ومع ممارسة الهوية النقدية، فإنه لا يمكن القبول بتقسيم ثلاثي لنماذج المواطنية، إلا على أساس شكلاني فحسب. فإن استشعار الراهن كان يصاحب كل تطلع سياسي منذ القديم، بل كل تفكير يقايس بين علاقات الواقع (القوة) وعلاقات الحقيقة. وقد تكون هذه المقايسة ينبوعاً دائماً للطوبائية. لكن الفلسفي السياسي كان يحاول أن يشد الطوبائي من غربته المستحيلة، ويجعله أهلياً، أي قريبَ المنال من الوعي والإرادة. فإن دولة العناية التي فازت بها ثقافة الجمهورية في أوروبا الغربية، واستطاعت أن تصوغها ضمن أنظمة اجتماعية مؤسسية راسخة، وجعلتها بديلاً عن الثورة الماركسية، المتأججة خاصة خلال الحرب الباردة، لم تكن وليدةَ تلك الظروف فحسب، بل استمرت كامنة في أصول الحداثة السياسية منذ بداية عصر الأنوار. لكنها كانت أشبه بالمدينة الفاضلة، والجمهورية الأفلاطونية. وكانت محتاجة إلى هذا القدر الكبير من شاعرية الكونية في تصور الإنسانية العادلة والسعيدة. وقد كان يمكن لهذه الكونية أن تظل حلماً إنسانوياً معلقاً في الفراغ فوق ظلامات التاريخ وعبودياته المختلفة، لولا أن فاز التراكم الحضاري أخيراً بمنفذ نحو الواقع، ينتقل منه الفكر الطوبائي إلى مصارعة يومية لحدود العقبات الأساسية المعيقة لانطلاق عصر أنواري، ولا يكف عن التجدد مع اكتشافه لمزيد من الظلمات أمامه، والظلامات الملازمة للإنسان التاريخي. فالمواطنية في لحظاتها التحقيبية الثلاث كمواطنة محايثة: المدنية فالسياسية فالاجتماعية، لا يمكن القول إنها وصلتنا الآن، وقد حلّت جميع إشكالاتها ضمن نماذجها تلك، ثم عبْر الانتقالات المفهومية التي تجاوزتها. فهي لا تزال تحتل مركز الاهتمام والتحليل في كل مقاربة فلسفية سياسية أو حقوقية، وتواجه استعصاءات الأسئلة الفكرية الكبرى، كما لو كنا أمام لوح، ممسوحة منه كلماته السابقة، أو أحداثه المنقضية.
إن كان الغرب ينعم بثمرات التحقيب باحثاً عن الأسس الدائمة لدمج اللحظات الثلاث في مفهوم المدنية الكونية، فإنه يُخَوْصِن هذه الكونية؛ بمعنى أنه يعتبرها من تصوره، وكفاحه وراءها، واكتسابه أخيراً لجنتها من الحرية. فالانتقالية الحضارية من تحقق المواطنة المدنية، والبناء عليها للمواطنة السياسية، والبناء على المرحلتين معاً، للتركيبية العليا تحت اسم المواطنة الاجتماعية، تبين عن عقلانية النمو الإنساني، وخط (التقدم) الثابت الذي تصنعه حضارة ما لذاتها، وتكاد تكون فريدة نموذجها؛ ولهذا فهي مغلقة على تجاربها. إنها تؤكد بذلك اختلافيتها المطلقة عن جميع تجارب الأمم الأخرى السابقة لها والمصاحبة لها. حتى هذه المصاحبة، فإنها عاجزة عن الاستمداد من هذا الاختلاف. كأنما المدنية، بالرغم من جاذبيتها العارمة لكل الإنسانية، إلّا أنها غدت من استحقاق نخبتها المتفوقة؛ فهي ليست للتصدير إلى سواها، وغير قابلة للتقليد من قبل الغير. ههنا يقال عن العصر الحاضر، إنه، وبالرغم من كل مطامح العالمية وسطوة تشويهها بالعولمة، فهو يُشَخْصِن الاختلاف الجذري للواحد مقابل الآخر الكل. يستعيد تفرقة المدنية الاغريقية عن بربريةِ الكل، ما عدا شعبها!
الراهن غربياً، هو أغْرِقَةُ المواطنية الأوروبية (جعلها إغريقية)؛ وأما عودة الفلسفي السياسي إلى مركزية التفكير والحوار والإنتاج لدى النخب، إنما تقوم على اعتقاد ضمني أن المشروع الغربي وحده منذور لابتعاث وتجسيد مدنية أثينا. كأنما التاريخ الفاصل بين أثينا الفعلية قبل الفين وخمس مائة عام، وأثينا الغرب المعاصر، قد أوغل أولاً في انحطاطه دون ذلك المثال الأول، ثم عاود الصعود بفضل عقلانية الغرب المحققة للقطيعات الحاسمة، المميزة لقصّته مع ذاته، من دون سواه. فمن دون القطيعة مع الغيب اللاهوتي، ثم مع هرمية المجتمع الاستبدادي، ثم مع ليبرالية الرأسمالية الخام الأولى الفالتة من كل عقال، لما أمكن ابتكار المواطنية في مثلث حقوقها المدنية، والسياسية والاجتماعية، وذلك بحسب إيديولوجيا الغَرْبَنَة. فهل انتهى جدل العقل والواقع، واكتملت سيرورة التاريخ ببلوغ هذا الشوط العظيم من انتظام الحرية في مجتمع المثال الديمقراطي العادل، على طريقة الغرب الأوروبي؟ هذا السؤال، لسنا نحن الذين نجيب عنه، بل هو المشروع الثقافي الغربي عينه. فإن عودة الفلسفي السياسي، هي إشعار أولي بالتباس النهاية، وانتقاص القصة الفريدة من خاتمتها السعيدة. ذلك أن دولة العناية التي تنيط بمفهومها وجاهزياتها، إدارةَ المواطنة في المدنية الراهنة، استطاعت أن تنقذ مجتمعاتها من المد الشيوعي خلال الستينيات من القرن العشرين، عندما قامت بابتكار نظام من الحقوق الاجتماعية يتمفصل مع إكراهات الواقع الاقتصادي للرأسمالية، ولا يضطر إلى تعليق الحقوق السياسية، وحقوق الشخص الإنساني في الاعتقاد والتعبير والعمل والتملك (كما هو الحال في ظلّ التجربة الاشتراكية آنذاك).. فإن (العناية) التي غطّت مختلف الحاجات الأساسية للفرد والجماعة، من الأمن والصحة، والتعليم والعمل، قد أرست نموذج مجتمع الوفرة والرفاه، كما لو أن نظام الرعاية قد انتزع لذاته حصة وفيرة من وعود الطوبائية من المستحيل، وحوّلها إلى مفردات من وعود مع: الممكن، والإرادوي، والواقعي. إنه حلم الجمهورية العادلة لذاتها وبذاتها، ولكن ليس للآخر، ذلك هو حدّها الذي يحفظ جسدها، ويضع (البعد) المخيالي خارج حدوده كلها. إن دولة العناية لا تلبث حتى تصطدم بالبحر العالمي حولها. إنها تجسر على كونية كيفية تخصها وحدها، وتهمل كونية للنوع والكم الإنساني، بأزليته التكوينية وأبديته المستقبلية.
وهكذا فالهوية النقدية لا تكاد تحقق قطيعة مفهومية وليست معرفية فقط، بل بنيوية مع سالفتيها: الهوية التصنيمية أو الماهوية، والهوية الأنوارية. فهي محتاجة، عند كل إنجاز انعطافي في مسيرتها، إلى استعادة معاركها القديمة بأهدافها المتجاوزة، كيما تتصدى لعقباتها الجديدة، ونحو أهداف أخرى غير محددة بعد؛ ذلك أن المجتمعات تميل عادة إلى تثبيت هويتها الثقافية، كصورة مرآوية عن ذاتها، لا تلبث حتى تموضعها في أساس تكوينها، كما لو كانت طبيعة لها. لكن هذه الطبيعة تشكو من تعارض مفهومي. فهي في الوقت الذي تعتبر فيه الأمة أن هذه الطبيعة تخصها وحدها، لأنها تحتضن ذاكراتها التاريخية، وتؤلف ركيزة واقعية لشخصيتها المفهومية، فإنها تحمل هذه (الخصوصية المثالية) على الإنسانية؛ بمعنى أن شمولية الإنسانية، إنما يُحصر تمثيلُها في تاريخانية (هذه) الثقافة دون سواها. وبالتالي فإن السقوط في القوموية، أو الثقافوية، لا يقتصر فقط على زج الدولة السابقة التي لم تدخل بعْد تاريخانيةً الجمهورية بخصائصها: (ثلاثية الحقوق، المدنية فالسياسة فالاجتماعية)؛ بل إن تصنيم الهوية، أو تصليبها، سيظل يشكل خطراً يتهدد دولة الرعاية نفسها، عندما تجعل من ذاتيّ دلالاتها نظامَ أنظمةٍ، وحيدَ نفسه، ويشتغل وحده على تسويغ الجمهورية، كمعنى، لا يمكن تحققه إلا باجتياز التحقيبية التاريخانية المؤدية إلى دولة الرعاية، أي تلك التي تمكنت من تجسيدها ثقافة هذه الأمة المتفوقة دون سواها، والحائزة على جائزة الجمهورية، في نهاية رحلة الحضارة، المتجاوزة لنفسها نحو ← المدنية. وهو التجاوز الأصعب الذي تطرحه الهوية النقدية؛ كما لو كان ذروة التحدي التاريخاني، لأنه يَعِدُ بكسْر الاحتكار الثقافوي من قبل أمة أو حضارة ما، للمدنية، حين يوفر لها مكانها الطبيعي: وهي وساعة العالم كله، بما هي وطن الإنسانية بدون تخصيص ثقافوي أو قوموي. إن الهوية النقدية تحل استعصاء الحلقة المفرغة لثنائية الأمة/الدولة، والدولة/الأمة؛ ذلك أنها تفتح على مابعدية هذه الثنائية، بالاختراق نحو مابعدية الدولة/الأمة، التي يُراد لها أن تتوّج المشروع الثقافي الغربي؛ هذا الاختراق المرتهن بوعي الهوية النقدية وممارستها الشمولية، هو الذي أصبح يميز بين راهنية العالمية، وبين مرآوية العولمة، واغتصاب الثانية للأولى.
العولمة وصراع الكونيات
ليس هناك مابعدية للدولة/الأمة، أو دولة الرعاية، سوى الأمة/العالم. ولقد كان التفكير الكوسموپوليتي منذ استعادته مع بداية الحداثة السياسية، يتعرض دائماً إلى انتقاده بالتجريد في خطابه، وبالطوبائية في أهدافه، والاستحالة في وسائل تحققه. فالكوسموبوليتي يتحدث عن الكونية باعتبارها ليست صالحة فحسب على مستوى انتماء الأمم أو المجتمعات إلى شمولية الإنسانية الحقيقية، باعتبار الإنسان هو المحل الطبيعي للحق بصرف النظر عن ثقافوياته: أي خصوصيات أقوامه وحضاراتها المختلفة، بل إن الكونية ليست كلية بالمفهوم فقط، ولكنها هي كذلك في شموليتها للجميع. وهكذا فإن تطورات القرن العشرين عبر تشكيل الإمبراطوريات الكليانية، حاولت أن تعقد تمفصلات واقعية بين ما تفهمه عن مثال الكوسموپوليتيا، وبين إيديولوجياتها الشمولية، باعتبارها منظوماتٍ دلاليةٌ تحتكر قراءات معينة للكونية على شكل تسويغات مُعَقْلَنَة. لكن هذه المحاولات انتهت إلى كون كل إيديولوجيا، أنتجت من نفسها مركزية فكروية تدعي الاحتياز على الكونية. وأما العالم كمجال حيوي لإنسانية حقوقية، فإنه يتساقط ما تحت شبكية التوازنات الدولية؛ بحيث تتناهش أُمَـمُه صراعاتِ علاقاتِ القوة على حساب علاقات الحق والحقيقة. فلم تُوصف الخطاباتُ الكوسموپوليتية بالطوبائية إلّا بسبب الخيبات المتراكمة، الناجمة عن صعوبة ابتكار التمفصل، بين تاريخ للأفكار حول الكونية، وبين تاريخ آخر للوقائع السياسية اليومية.
لكن المشروع الثقافي الأوروبي يستطيع الادّعاء أنه، بعد أن حققت مجتمعاتُه نموذجَ الدولة الاجتماعية (دولة الرعاية)، فإنه أضحى متوجهاً نحو تجسيد نوع من كونية نسبية، من خلال توحيد قارته. وبذلك تنهض أوروبا، دون بقية العالم، بكونيتها التي تغدو خصوصيةً جديدة لها؛ لكنها تجدد نزعة المركزة الغربية التقليدية لديها، على شكل استثناء. فالمدنية ليست من نصيب الإنسانية ككل. وهي استثناءٌ تاريخاني تفوّق على التاريخ العام. وخلال المد الاستعماري في القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، فقد كان خطاب المركزية الأوروبية لايُسقِط (الضواحي) من صورة العالم الذي يقوده الإنسان الأبيض، متحملاً أعباء تمدينه كما يدّعي دائماً. غير أن ثمة تصوراً مرآوياً استمر يداعب مخيلة بعض المثقفين المنشغلين بالإستراتيجيات الحضارية. يعتبر أن التقدم الأوروبي قد ينوب عن المجموع الإنساني، وإن كان يصبّ في مصلحته، عند نهاية المطاف. لكن المتقدم سرعان ما ينسى المتخلّف وراءه، خاصة عندما يزداد تسريع الأول، وتقهقر الثاني أكثر. لهذه الأسباب وحدها فإن مدنية المستقبل، سوف تتابع وتُضاعف انفصالَها عن البربرية المحتومة. وبالتالي فإن كلية (الكونية) ليست للجميع. إن (النوع) الإنساني سيغدو (جنساً) لأنواع أخرى مستحاثّة، يعلوها جميعاً نوعٌ فريد يخصّ الإنسانيةَ الظافرة بالمدنية، بينما هناك أنواع (إنسانوية) شتى أخرى ستبقى خارج هذه المقولة كأمر محسوم.
في هذا المنعطف الاستراتيجي الراهن، يبرز اختراع العولمة كتحصيل حاصل لواقع افتراضي (مرآوي) مقابل الواقع الواقعي عقلانياً. ذلك أن العولمة تطرح نفسها كحل لإشكالية التعارض بين عمومية الكونية، واستثنائية المدنية. فإن الإنسانية الحقوقية كمضمون للكونية، تغدو كأنها جائزة استثنائية لمن يستحقها، وإعجازاً مستحيلاً لمن يعجز عنها.
هل أصبحت الدولة الاجتماعية وحدةَ العُملةَ اليومية التي يمكن أن تُصرف، على أساس معياريتها، مفاهيمُ الكونية؟ مثل هذا التساؤل لم يكن ليطرح لولا أن اندلاع عواصف العولمة قد شكل أهم خطر تواجهه الدولة الاجتماعية. ذلك أن حلم المدنية العادلة، كخاتمة سعيدة لنخبة الإنسانية المستحقة لها، يداهمه فجأة تصدُّرُ الاقتصاد العالمي من جديد واجهةَ القوى والعوامل الكبرى الممسكة بمصائر المجتمعات، وفي مقدمتها مجتمعات النخب المدنية المعاصرة. ذلك أن الدولة الاجتماعية لا تستطيع أن تطلق قوى الرأسمال الوطني لديها دون أن ترفع، عن حدودها كافّةً، تدابيرَ الكينزية الحمائية (نسبة إلى كينز الاقتصادي). وفي الأساس قامت الدولة الاجتماعية حسب النمط الأووربي الغربي خاصة، على إمكانية التمفصل بين ليبرالية رأسمالية محدودة، وإجراءات حمائية لحقوق المواطنة المرفهة أو السعيدة. غير أن هذه المعادلة الدقيقة من تمفصل النقيضين، الحماية الاجتماعية والليبرالية الاقتصادية، هي التي تواجه استعصاءها الأكبر مع عولمة السوق، الخارجة عن حدود كل دولة اجتماعية. إذ غدت المنافسة العالمية تمسك بمصائر الاقتصادات القومية. حتى يذهب البعض إلى اعتبار أن الشأن الاقتصادي الدولي أصبح يحتكر القرار السياسي؛ أي أن الدولي يملي على القومي والوطني سياساته المتعلقة بشؤون مجتمعاته نفسها. وبعد أن كان من شأن العلاقات الدولية أن تعكس إرادات الدول المشتبكة داخلَها، فقد أضحت هذه العلاقات هي الآمرة الناهية في السياسات الخارجية للدول، كما في أمورها الداخلية الرئيسة. وبالرغم أن الدولة الاجتماعية لم تكن لتدعي أنها قد تخلّصت تماماً من أكلاف التمفصل الدقيق بين ليبرالية رأسمالية وطنية، ونظام تأمينات اجتماعية شاملة ورفيعة المستوى، يغطي موارده من الضرائب التصاعدية المقتطعة من حصة أرباح الرأسمال الفردي، إلى جانب حصة لا يستهان بها من دخول الأفراد العاملين جميعاً، إلا أن انتقال مركز الثقل إلى مبدأ التنافس الدولي المحرر من أية قيود، سوف يطيح ولا شك بمعادلات التوازن الدقيق والصعب التي نجح مجتمعُ الرفاه الأوروبي في إقامتها بين حرية الرأسمال الفردي وأكلافه الاجتماعية. فالنظام الضرائبي الذي أصبح بمثابة العقد الاجتماعي العصري لدولة الرفاه الاستهلاكي شبه المطلق، هو الذي غدا مركز الهدف الأول الذي تسعى إلى الإطاحة به إيديولوجيا آمرية السوق، التي تدعي أن الفوز بحرية مطلقة لقوانين السوق وحده، كفيل بإقامة نظام جديد من العدالة على نطاق عالمي، يستوعب الأنظمة الدولتية بعد أن تصير أشبه بفروع وروافد له، جزئية، داخل أوسع مجال كوكبي، اقتصادوي فحسب.
لكن تقويض النظام الضرائبي سوف يجفّف الموارد الأساسية للدولة الاجتماعية. وهذا بدوره ما سوف يُسَرِّع من إضعاف الشكل القانوني والإداري للدولة بصورة عامة، ويمهّد لإزالة دورها أو تهميشه إلى حدود الإشراف الأمني على الممتلكات، وحماية أرواح الرعايا فحسب. ولذلك فإن الحل الوحيد المتاح أمام الدولة الاجتماعية هو التحرك إلى الأمام، أي اجتياز العوائق القوموية، والانفتاح نحو المؤسسات الدولية، كشكلٍ تمهيديّ نحو حلم الحكومة العالمية. فما يشكّل مواجهةً جدية مع العولمة الاقتصادوية هو استعادة فعالية الكونية، بما هي سياسة شمولية لفعالية التضامن بين الإرادات الإنسانية للجماعات القومية والحضارية. وفي رأي هابرماز، أنه لا مناص لفكر أوروبي اتحادي من تدعيم المؤسسات الدولية القائمة، وخلق مؤسسات جديدة قادرة على تغليب مصالح الشعوب في الشأن العالمي. وإذا لم تساعد أوروبا على تجديد إنهاض العالم الثالث، فإن مصيرها سيؤول إلى المركزية التقليدية للغرب(5). وما يمكن أن نذكره نحن في هذا الصدد أن الفكر الأنواري الذي تدين له نهضة الغرب منذ الأصل، إنما كان يستمد قوته الابتكارية على مواجهة الاستبداد القديم لأنظمة الإمبراطوريات الأوروبية، أو حكومات المدن المغلقة، يستمد قوته وأصالته تلك من ابتعاث فكرة الإنسان كمطلق ذاته، واعتبار الإنسانية هي المحل المُعلَّى لمفهوم الحق. وبالتالي فإن الهوية الفعلية للأمم والمجتمعات إنما تقاس بقدر ما تعكس، في أنظمتها السياسية وثقافاتها القومية، هذه الصلةَ بالهوية الإنسانية الشاملة. وما كان بالمستطاع تحقيق النقلات المعرفية الثلاث الكبرى من اكتساب الحقوق المدنية، إلى الحقوق السياسية، إلى الحقوق الاجتماعية، لو لم تكن هذه المقايسة فعالةً ونشطة، ومتجددة العقلنة، بين علاقات القوة القائمة وعلاقات الحق والحقيقة. أي لو لم تأخذ النُّخَبُ الثقافية على عاتقها مهمةَ مفهمةِ الكونية في كل حقبة من الصيرورة الاجتماعية، ومحاولة ترجمة معانيها كأوامر للحق يومية، قادرة على (إبراز) الشرعية الإنسانية فوق كل مشروعية انتقالية قائمة، ومقايسة الثانية بالأولى. فعالية المضاهاة هذه هي المضمون الفعلي للفلسفي السياسي، الذي تشكل عودته في كل مرة، إيذاناً بمولد قطيعة معرفية جديدة، ما بين حقبة حضارية وأخرى. مجمل هذه العملية الفذة هو أنها لا يمكنها أن تنبجس إلّا عن فكر حي حركي، ليس له إلا الهُوِيّ النقدي الذي يميّزه ويُعرَّف به. لذلك لن يبقى الهوي النقدي ثمرةَ تطورٍ، بقدر ما يصير فاعلَ التطور. إذ تصبح مهمته كسْرَ احتكار علاقات القوة لساحة الفعل التاريخي، وإنهاض علاقات العدالة تحت طائلة الحقيقة، كنقيض راهني ضد الأولى: كاشفاً عن راهنية الكونية، باعتبارها هي محل الصيرورة الواقعية المستحقة لاسم الواقع وأحقيته، مقابلَ واقعٍ آخر مفروض بعوامل السيطرة المصلحية المعتادة المعروفة في كل زمان ومكان.
إذا كانت أوروبا احتاجت إلى ثلاثة قرون كيما تفوز بالحِزَم الثلاث للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية على التوالي، فإن “بقية العالم” ومنها العالم الثالث بخاصة محتاجة إلى الفوز بها كحزمة واحدة وعبر كثافة زمنية، طالما أنها لا قدرة لها على تكرار إيقاعية التحقيب الحضاري الذي يخصّ تاريخانية الغرب. فلا بدّ من الاعتراف أن الغرب فاز بتحقيبيّته هذه، بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن تاريخانية الإنسانية الشاملة، ما دامت قطيعاته المعرفية قد استمدت دائماً قوتها على ممارسة الهوي النقدي من شرعية الإنسانية، بما هي محل الكونية، أي هذا الوطن الروحي لحضارات كل الأمم، على اختلاف هوياتها القوموية والتراثية. لكنها كونية تتغير ألوانُها، أو تتّضح ظواهرها، بحسب مفاهيم التأويلات التي تُضفيها أو تعكسها عليها ظروفُ الحراك الاجتماعي للأمم الناهضة. وهي اليوم هذه الأمم السبّاقة إلى اكتشاف التقانة والتمفصل فكرياً وبنيوياً مع ابتكاراتها. ولذلك يصير للكونية تأثير الثقافة القادرة أكثر من سواها على استلهام استحقاقاتها، وتشكيل منظوماتها المعرفية، وتحديد أهدافها السياسية؛ كما لو أن الكونية المستحيلة نفسها، غَدَتْ قادرةً على مخاطبة الرأي العام بلغة الممكن، دون أن تتخلى عن لامحدوديتها، أو طوبائيتها؛ وحيثما تترك للهوي النقدي مهمة التأشير على الفوارق بين التأويل والتسويغ إزاء المتغيرات المجتمعية الكبرى. فالطوبائي لا يمكنه أن يقبل بمنطق الاحتمالات، إنه يقدم وجبة أوهامه كاملة محسومة لا تتسامح مع المعارضة أو المراجعة؛ لكن شدة الحسم تتناسب عكساً مع سلوك النزاهة إزاء الحقيقة. من هنا فإن فاشيات القرن العشرين، على جبهة اليمين أو اليسار في أوروبا، أشادت لأتباعها عمارات طوبائية شاهقة مغلقة النوافذ والأبواب على تصنيمية العرق والعنصر، أو الطبقة والحزب والثورة. فكان جسر العبور الأوروبي من حقبتي الحقوق المدنية والسياسية، نحو الحقوق الاجتماعية، قد كلّف بناؤه أهوالَ القرن العشرين بحروبه العالمية الثلاثة، الأولى والثانية، والحرب الباردة. فلم يكن من السهل استتباب نموذجٍ الدولة الأمة إلا بتحقيق دولة العناية، أي الفوز بالحق الاجتماعي محروساً ومرتفقاً، ضرورة، بالحقوق المدنية للأفراد، والحقوق السياسية للأفراد والمجتمع معاً. فالتجربة السوفياتية اكتفت بالحقوق الاجتماعية، منقوصة منها قاعدتاها التاريخيتان، وهما الحقوق المدنية والحقوق السياسية. في حين أن الغرب الأوروبي تملك من زاويتي المثلث، واستعصى عليه إغلاقه بالزاوية الثالثة، أي المحصلة المنتظرة، المتجسدة في بناء الدولة الاجتماعية. لكن لم يجد هذا الاستعصاء حلاً نسبوياً عن طريق إضافة الوظيفة الرعائية إلى دولة القانون، إلّا تحت ضغط الخوف من الاجتياح الشيوعي ديمقراطياً للكتل العمالية في الغرب الأوروبي؛ ولم يتم ذلك إلّا في أوج الحرب الباردة. فإن إقرار تشريعات التأمين الاجتماعي، بشروطه السمحة والشاملة لحاجات الفرد والأسرة، المعيشية الأساسية، قد أعطى للديمقراطية السياسية بعض ما يعادلها من الديمقراطية الاجتماعية. وهو الأمر الذي ساهم في تثبيت مسيرة عقلانية، راحت تتكامل معالمها المدنية أكثر فأكثر، في الغرب الأوروبي، مقابل تهافت النموذج الطوبائي للتجربة السوڤياتية، المتمثل في عجزه عن مقاومة انجراره نحو بيروقراطية الإدارة وفاشية السلطة، واندماجه مع
الأحد فبراير 16, 2014 1:17 pm من طرف هرمنا