كثيرا ما يتردّد أنّ الفيلسوف الإنجليزي جون لوك هو رائد الفلسفة السياسية الحديثة، وأنه من فلاسفة نظرية "العقد الاجتماعي"، غير أنّ فعل التأصيل لهذا القول لا يكون إلا استنادا لقراءات "ثانية" تحوم حول الرجل ولا تستدعيه. لذا ارتأينا العودة إليه مباشرة من خلال نص، Traité du gouvernement civil (1)، في محاولة لتأصيل مجموعة من المفاهيم المتعلقة بتنظيم المجتمع السياسي، والتي يبدو أن راهنيتها للعالم العربي اليوم أكبر من أيّ وقت مضى.
لقد ارتأينا تتبع مسار تشكّل بعض المفاهيم عند جون لوك من خلال الكتاب المذكور أنفا وذلك في محاولة لرصد الكيفية التي بنى بها نظريته السياسية، وأساسا مفهومه عن الحق، كما أنّ الإستراتيجية التي تتبعها لهدم المنظورات السائدة في زمنه والتي تحكم المجتمع اعتمادا على جهاز مفاهيمي صلب، تفيدنا كثيرا في تبين الكيفيات الممكنة لأجل بناء مفاهيم سياسية تكون أقدر على مسايرة طموحاتنا السياسية والمجتمعية.
بداية، ينتقد جون لوك النظرية السياسية السائدة في عصره، والتي تسعى إلى تثبيت السلطة المطلقة للحاكم بوصفها مستمدّة من السلطة الشخصية التي كانت لآدم، وإلى الحقّ الأبويّ الذي كان له في "القضاء" والحكم وتحت ذريعة أن الناس إذا ما تركوا أحرارا تولّدت عن هذه الحرية الفوضى والتمرّد والعنف. غير أنّ لوك ينتقد هذا التبرير موجّها خطابه بالدرجة الأولى إلى السير روبير فيلمر. قائلا : إنه لأجل هذه الأهداف تحديدا لا بدّ من إيجاد أسس أخرى ينبني عليها الحكم المدني. مؤطرا ذلك بمجموعة من المقدّمات، يحدّدها كالآتي:
1/ إنه لم تكن لآدم أية سطوة على أبنائه، استمدها من الطبيعة أو من الإله، وبالتالي لم تكن له أية هيمنة على العالم.
2/ حتى وإن كان له هذا الحق، فإنه لا يعنى أنه كذلك لأبنائه.
3/ في حال كان لأبنائه هذا الحق، فلا وجود لقانون طبيعي ولا لقانون إلهي موضوع (2)، قادر على تحديد، وفي كل حالة خاصة، من له الحق الشرعي في حيازته. بالتالي، لا يمكن تحديد بدقة لا حق الوراثة ولا حق الحكم.
4/ هل تم بالفعل تحديد هذه الحقوق، على اعتبار أن المعرفة الإنسانية عاجزة عن تتبع ذلك، وليست هناك اليوم في العالم أية "أسرة" تستطيع الإدعاء بانتسابها إلى آدم، وبالتالي القول بأن مثل هذا الحق، حق الاستخلاف.
لهذا الغرض يعلن لوك أنه من الضروري تحديد ماذا يقصد، بالسلطة السياسية، لأن السلطة التي للحاكم على الرعية تختلف عن السلطة التي للأب على أبنائه، كما أنها مختلفة عن السلطة التي للسيد على خادمه..وهكذا، بل يجب تحديد كل أنواع السلط وتمييزها.
من ثم، يعلن أن مقصوده من السلطة السياسية، هو الحقّ في وضع القوانين، وممارسة العقاب، سواء بالموت أو بعقوبات أقلّ، بغرض حماية الملكية، والحقّ في استخدام القوة العمومية بغية تطبيق القوانين والدفاع عن الدولة من الاعتداءات الخارجية، وكل هذا لأجل المصلحة العامة، فقط.
لقد عمل جون لوك على تفنيد نظرية الحكم المطلق التي طبعت الذهنية الإنجليزية والتي يفترض من خلالها الحاكمون أنه لا أحد له الحق في مساءلتهم عما يفعلون، إلا من منحهم هذه السلطة لأنهم يستمدونها منه مباشرة، أي الإله. لقد رفض الأمراء وبشدة القبول بقوانين الطبيعة، مشبهين الرعايا بالحيوانات التي عليها أن تتقبل تجاوزات أصحابها بصبر.
لقد بلغت هذه النظرية مع السير روبير فيلمر حدّ الإدعاء بأن لا أحد يولد حرا، وأن كل أشكال السلطة والحكم هي ملكية مطلقة، الأمر الذي سيواجهه لوك بالقول بنظرية سياسية ممثلة في حكومة ذات سلطات محدودة تستمدّ شرعيتها من موافقة المحكومين وقبولهم بسيادتها. عمادها أن الأشخاص يولدون أحرارا.
ففي نظام يقوم فيه الملك/الحكم على حق إلهي وعلى اعتبار أن الأمير فوق القانون، فإنه لا مجال أمام الرعية للاعتراض. وبالتالي ليست هناك أية حرية. من ثم فالأمير يتحكم في كل مقدرات الرعايا دون الالتزام بأي من العهود المعلنة. في حين ومن حيث المبدأ لا أحد له مثل هذه السلطة الاعتباطية، لا على ذاته ولا على الآخرين.
يعدّ فيلمر أحد أكبر المدافعين عن نظرية الحق الإلهي للملوك. مبررا هذه النظرية انطلاقا من تـأصيل أونطولوجي يتتبع فيه جينيالوجيا تأسيس السلطة التي يمتلكها الأمراء والمستمدة من أصول الهيمنة الأولى لـآدم على الأرض، فالأمراء سليلو آدم، هكذا تنتقل السلطة المتلقاة من طرف الإله عبر الرابطة الأبوية الدموية، وبناء على هذا القول يستنتج أن الناس لا يولدون أحرارا بل عبيدا، الأمر الذي ينسحب على طبيعة العلاقة بين الناس وبالتالي على الرابطة الاجتماعية، إذ تصبح قائمة على مفهوم الرعاية (3) متخذة هذا الترتيب من الإله نحو آدم نحو الأب ثم منه نحو كل الناس. وهذا، ما يسمح بالقول بأن هذا النظام ذو بعد أونطولوجي يفرض احترامه.
لقد رفض لوك هذه النظرية التي تضفي بعدا أونطولوجيا وراثيا على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على اعتبار أن العلاقة السياسية علاقة سيطرة وخضوع وليست علاقة تبعية أو تراتبية أونطولوجية، إنها نتاج علاقة تجربية(4) . لأن الإله لم يخلق الناس ضمن علاقة تبعية بل خلقهم أحرارا، وذلك لأن جميع الناس خلقوا على صورة الإله، وبالتالي فهم متساوون بالنظر إلى الطبيعة بل أكثر من ذلك فإن لهم جميعا وبنفس القدر الحقّ في الهيمنة على الطبيعة والتحكم فيها.
حالة الطبيعة، المرجع والأساس لكل حقّ:
ينضمّ لوك إلى قائمة من الأسماء التي دشنت تقليدا نظريا من قبيل غروشيوس بوفندوف وهوبز، هؤلاء الذين وضعوا فرضية الحقّ الطبيعي بوصفه الأساس الذي يسمح بمعالجة أسس السلطة السياسية، وذلك بالعودة إلى حالة الطبيعة حيث كان الناس يعيشون قبل أن تتشكل أية هيئة سياسية، وهي الحالة التي تسمح لنا بتشكيل فهم أفضل عن السلطة السياسية. من ثم، لا يعتبر لوك أن الحالة المدنية القائمة هي الحالة الأصل، بل هناك حالة سبقتها هي حالة الطبيعة. معتبرا إياها حالة حرية ومساواة منظمة بواسطة قانون إلهي دائم، تم التعرّف عليه بواسطة العقل والمسمى بالقانون الطبيعي، والذي يمنع على الإنسان القيام بكلّ ما من شأنه التعريض بحياته. وبمقتضاه ليس لأحد الحقّ في إزعاج حياة الآخرين والتعريض بصحتهم أو حريتهم أو أملاكهم.
إنّ الإنسان ابن الطبيعة، أو بالأحرى هو صنيع الإله، الذي خصته بخصائص كي تضمن استمراره بالشكل الذي يريده صانعه نفسه، والتي أهلته بمجموعة من الملكات التي تسمح له بمواجهة مقتضيات الحياة، لهذا ففي هذه الحالة الأصل يمتلك كل شخص حرية كاملة في أن يقرر فيما يخص أفعاله، وأن يتحكّم في شخصه وممتلكاته، بل أكثر من ذلك، تعهد إليه الطبيعة بمهمة الحفاظ على غيره من الناس حين يضمن حياته. إن حرية الإنسان مميزة بإرادة الفعل التي تخصّه تنبني على حقيقة كونه متميزا بالعقل. وإذا كانت هذه الحالة حالة حرية، فليس معنى ذلك أنها حالة تسيّب وفوضى إن المساواة بين الناس واستقلاليتهم عن كل سلطة حاكمة لا يجذر بالضرورة الفوضى والحرب.. كما أن غياب المؤسسات السياسية لا يعني البتة أنها حالة لاأخلاقية. لأن النظام المعياري للخلق الإلهي يظل قائما فيها، والقانون الطبيعي المعروف بهذه الصفة، ليس إلا "صدى للقانون الإلهي نفسه" وهو الأمر الذي يكشفه الحدس الخالص.
وبناء على حالة الطبيعة، وتجنبا للتعسف الذي يمكن أن يطال الأفراد بعضهم على بعض، فقد مكنت قوانين الطبيعة الأفراد من حقّ العقاب، لأجل الحفاظ على مصالح الجميع، ومبرّر ذلك أنه في حال عدم وجود من ينفذ هذا العقاب، فإن كل القوانين تصبح بلا معنى بما في ذلك القانون الطبيعي. والهدف من العقاب هو إصلاح ما يحدثه الآخرون من خلل، من ثمّ فحقّ العقاب واجب على الجميع دون تجاوز للحدود المنصوص عليها في قانون الطبيعة. وبناء على هذا المبدأ، يتساءل لوك عما يبرر للأمير معاقبة الأغراب بعقوبات قد تصل حدّ الإعدام، مع أن هؤلاء لا ينتمون لدولته أو مقاطعته؟. إن ذلك يتم حسب هذا الأمير بناء على قوة وفضيلة القوانين المعلنة والمشرعنة، غير أن ما يبرّرها حقيقة هو القانون الطبيعي وليست القوانين الوضعية الخاصة، إن حقّ العقاب هذا، هدفه منع الآخرين من القيام بسلوكات لا يمكن إجبار الضرر فيها، مستندا هنا إلى حجّة واقعة قابيل حين قتل أخاه، فقد أدرك حينذاك أن دمه قد أهدر أيضا(5) ، وهو ضرر إذا ما وقع لا يمكن جبره بالمرة – هنا يتم الحديث عن مبدأين: العقاب وجبر الضرر اللذيْن يجتمعان معا للقاضي ويحتفظ الفرد بأحدهما فقط.
يعمد لوك إلى تدقيق إحدى العلاقات التي يراها أساسا، منها، إن الحديث عن الأمراء والحكام والقضاة، ليس يعني بالضرورة أنه تم الخروج من حالة الطبيعة، بمعنى أن الأفراد قد تحرروا من الخضوع لقوانينها، لأنه من حيث المبدأ ليس كل اتفاق يفيد إنهاء حالة الطبيعة، مؤكدا أنه حين يتحدث عن هؤلاء فهو يقصدهم بما هم بغض النظر عن النظام القائم، لأن الاتفاق الذي ينهي هذه الحالة يجب أن يكون اختياريا، مضيفا أن الوفاء والالتزام هي خصال في الإنسان بما هو إنسان في الحالة الأولى، وأنه حتى في حالة فرضت الطبيعة على الأفراد أشكالا من التعاقد والاتفاق اعتبارا لمنطق الضرورة، فذلك لا يعني تعاقدا ينهي حالة الطبيعة- يعطي مثالا هنا عن اتفاق شخصين يوجدان في صحراء مفردين.
يخلص لوك في هذا العنصر إلى النتيجة الآتية : إن الوضع الطبيعي لكل الناس أنهم يوجدون في حالة الطبيعة ما داموا لم يتعاقدوا على الخروج منها بمحض إرادتهم.
حالة الحرب:
يعتبر لوك حالة الحرب بالتعريف، حالة العنف والدمار الناجمين عن التجاوز الذي يتسبب فيها أحد الأطراف حين يرغب في الاعتداء الجسدي على الآخر سواء قولا أو فعلا، من ثم فالعقل يقضي بضرورة التخلص من مصدر الخطر هذا، ومطلوب الاستعانة على ذلك بالآخرين، وذلك استنادا على القوانين الأساس للطبيعة التي تجعل هذا الحق "معقولا"، من ثم يتأسس حق الدفاع عن النفس، وعن الآخرين الأبرياء، هذا الدفاع الذي قد يصل حد الإقصاء، لا يشترط أن يبادر الآخر إلى الفعل إنما يكفي فيه أن يعلن عن ذلك. مشبها التعامل مع هؤلاء بالتعامل مع الحيوانات المفترسة، والتي لنا الحق في قتلها ما دامت لا تخضع لقوانين الطبيعة من حيث هي "معقولة" وما دامت تشكل خطرا يهدد حياتنا لو سقطنا تحت سطوتها.
بناء على هذا، تتحدد العلاقة التي يسعى من خلالها شخص إلى فرض سلطته على الآخر وإخضاعه لسلطانه. وعليه، فكل من يسعى إلى جعل الآخرين تحت سيطرته وسلطانه دون موافقتهم تحت طائلة الإكراه أو التهديد، يكون بذلك قد حوّل الشخص الثاني إلى عبد. على أساس أنه ليس لأحد الحق في أن يرغب في أن يجعل شخصا ما تحت سلطانه المطلق، باعتماد التخويف والإكراه ضدا على ما تقره حريته الفردية.
إذا، وحتى يكون الأفراد في منأى عن هذه التعسفات، لا بد من تمكينهم من قدرة الاستقواء (التحالف)، بناء على الأمر الصادر عن العقل الملزم بالحفاظ على الذات، باعتبار كل من يهدف سلبهم حريتهم عدوا، بحيث، يكون كل من يهدف تحويل الفرد إلى عبد قد دخل معه في حالة حرب، إذا، حالة الحرب حسب لوك هي الحالة التي تهدف سلب الحرية، والأنكى من ذلك أن من يهدف سلب الآخرين حريتهم يهدف بالضرورة سلبهم كل شيء آخر، ما دامت الحرية أساس كل شيء آخر.
من ثم، يعتبر لوك قتل سارق فعلا مشروعا ما دام قد تجرّأ على إخضاع الفرد لسطوته، فإن هذا الخرق لقانون الحرية الفردية يفيد إمكان تعدّيه إلى أشياء أخرى. إن الحقوق الطبيعية غير قابلة للتصريف أو التجزيء، إنها لا تقتضي فقط الحفاظ على الذات بل تشترط الاستقلالية الفردية أمام كل سلطة استبدادية، من ثم فالنتيجة المباشرة لهذا التأسيس، أن لا مجال لأن تكون العبودية شرعية حتى وإن نشأت عن موافقة تامة للشخص.
يتوجه لوك بعد ذلك بالحديث إلى أولئك الذين خلطوا بين حالة الطبيعة وحالة الحرب، مبينا أنهما حالتان مختلفتان وإن كانا متساوقتين في الزمن. فحالة الحرب جزء من حالة الطبيعة، إذ كلما سعى فرد إلى محاولة سلب ما يخص الآخرين أو التعرض لحرياتهم، وما دام هناك غياب لسلطة عليا يمكن الاحتكام إليها، وبما أن فعل الاعتداء قد يؤدي إلى حدوث ضرر لا يمكن تعويضه أو جبره، فإن حالة الحرب تكون ملازمة لحالة الطبيعةّ، وهما معا حالة سلم وتقاسم مشترك، وفي نفس الآن حالة عدوان مشترك. إن غياب قاض مشترك قادر على حسم النزاعات وضمان التعويضات ومالك للسلطة، يجعل الناس يعيشون حالة الطبيعة؛ أما العنف المتولد فجأة، فهو ما يجعلها حالة حرب، سواء أكان أو لم يكن هذا القاضي المشترك. غير أنه بمجرد توقف العنف تتوقف حالة الحرب.
إن ضرورة الدفاع عن النفس بطريقة فعالة تسمح بها حالة الطبيعة هي ما يدفع الناس إلى تأسيس الدولة، عبر تأسيسها بناء على تعاقد، وبدل أن يتوجه الناس نحو الإرادة الإلهية فهم يؤسسون سلطة أرضية يحتكمون إليها. وهو التعاقد المؤسس على أهداف هامة تشترط على الأقل بعضا من المشاعر الاجتماعية كالثقة والحرص. إن هذا التعاقد لا يتضمن بالمرة أي تنازل عن السيادة الطبيعة التي لكل فرد، بل هو تفويض جزئي ومؤقت عن السيادة لممثلين محددين. إن السلطة العليا المفوضة لا يمكن أن تكون مطلقة ولا تستمد سيادتها إلا من موافقة الشعب.
العبــوديـة، المفهوم المتجنى عليه:
إن الحرية الطبيعية للإنسان تقضي بعدم الاعتراف بأية سلطة عليا في الأرض إلا سلطة القوانين الطبيعية. والحرية داخل مجتمع مدني، تشترط عدم الخضوع لأية سلطة تشريعية غير تلك المؤسسة على موافقة الجميع، ولا لأي نظام غير ذاك الذي تم الاعتراف به. إذا الحرية ليست كما يصفها السير فيلمر، أي أن يفعل كل شخص ما يريد وكما يحلو له دون التقيد بأية قوانين. بينما الحرية الشخصية بالنسبة للأفراد الذين يعيشون في مجتمع مشترك، هي التقيد بمجموعة من القواعد والضوابط الجامعة، وذلك بغية القيام بأنشطتهم التي لا تتعارض مع هذه القواعد، وحتى لا يكونوا تحت سطوة الممارسات التسلطية والاعتباطية لأي كان، إن كل هذا يقوم على أساس أن الأفراد لا يجب أن يخضعوا لأي شيء بخلاف قوانين الطبيعة.
إن هذه الحرية المقصودة، لا نلبث نتملكها والتي لا تفيد أكثر من الحفاظ على الإنسان، والتي لا يمكن فصلها عن مبدأ الحفاظ عن الإنسان، من ثم كيف يمكن تصور شخصا غير قادر حتى على الحفاظ على حياته، أن يتنازل عن هذه الحرية بشكل اعتباطي لشخص يمكن أن يتهددها في أية لحظة. فالمبدأ هنا، أن لا أحد يمكنه أن يقدم من السلطة أكثر مما لديه هو نفسه، بمعنى فاقد الشيء لا يعطيه، وهذه السلطة المطلقة المفترضة، لا يمتلكها الفرد نفسه حتى يمكنه التنازل عنها. إن الحالة الوحيدة التي تتيح العبودية هي التي تنتج عن اعتداء يكون صاحبه مهددا بالقتل فيتم العفو عنه مقابل استعباده. وإذا ما ارتأى أن الموت أفضل من العبودية له أن يعصى سيده.
إذا، إن التبرير الوحيد للاستعباد هو حالة الحرب القائمة بين محتلّ شرعيّ ومعتد تجاوز حدود القانون. إن الخلاصة في هذا القول، هي أن لا أحد يمكنه التنازل عن حق لا يمتلكه هو نفسه. وأن العبودية الوحيدة الشرعية هي تلك الناجمة عن الحرب والغزو.
ملكيــة الأشيــاء، والأصل الممتد للحرية الشخصية:
دائما وتماشيا مع نفس المنطلق، الذي يفيد بأن القاعدة العقلية الطبيعية تفرض أن يحافظ الإنسان على نفسه، وبالتالي عليه أن يطعم ويشرب أي الاستفادة مما تتيحه الطبيعة، وبالعودة إلى الوحي، نجد أن الإله قد خص آدم ومن بعده أبناءه بكل خيرات الأرض للاستفادة منها، وأنه جعل هذه الأرض مشاعا بين الناس بالتساوي. مما يجعل من الصعب القبول بأن يحتكر فرد واحد مهما كان هذه الملكية، أيا كان موجب ذلك. ومهما تكن من صعوبة الحفاظ على هذه الملكية، فإنه من الصعب تفهم أن يكون الإله قد جعل الأرض ملكية مشتركة، وفي نفس الآن كلف ملكا واحدا بالحفاظ عليها.
إن الإله حين منح الأرض للناس منحهم أيضا العقل، لأجل استخدام كليهما فيما يعود بالنفع على الإنسان. وما دامت هذه الخيرات، سواء منها النباتية أو الحيوانية، في حالتها الأصل الطبيعية، فهي مشتركة للجميع، أما حين يسخرها شخص بعينه له، يغذيها كالحيوان أو يرعاها كالخضروات فإنها تفقد صفة المشاعية لتصير خاصة، إلا أن يكون هذا الحيوان أو الفاكهة ضرورين لحياة شخص ما.
ورغم أن الأرض وكل الموجودات التي عليها هي ملك مشترك للإنسان، فإن لكل فرد حقا خاصا فيما يخص ما جنته يداه، بناء على عمله. فكل ما يمكنه أن يجنيه من خلال عمله وجهده يعود له من هذه الجهة، لأنه خاص به. من ثم أول عامل في الملكية هو الجهد المبذول والعمل.
يتساءل في هذا الصدد ليجيب بشكل مباشر فيما بعد، عن الذين يعتبرون أن الملكية الفردية أساسها السرقة، كالأتي : متى يمكننا القول بأن شخصا قطف ثمارا من أعلى الشجر أن تلك الثمار أضحت ملكا له، هل حين يأكلها أم حين يأخذها لبيته أم حين يهضمها أم حين يقطفها؟ الجواب الذي يقدمه لوك، أن ذلك يتم في اللحظة نفسها التي يقطفها فيها، حينذاك تكف تلك الثمار عن أن تكون ملكا مشاعا، وأنا لو قلنا أن ذلك سرقة، فمعناه دعوته للموت جوعا. وأنه لو انتظرنا تحقق إجماع الكل من أجل اقتسام الخيرات لما تحققت الغاية من الوجود الإنساني.
إن هذا القانون الأصل في الطبيعة والذي يعد المنطلق نحو الحقوق الفردية للناس، كان دائما قائما وأظهر تميزه وفعاليته. غير أنه لا يفهم من ذلك أن لكل الحق في حيازة كل شيء ما دام قادرا على ذلك، لأن في ذلك تجاوزا للقانون الإلهي ولقانون الطبيعة في نفس الآن.
بعد ذلك ينتقل لمناقشة ما يعتبرها المشكلة الأكبر في الملكية، وهي ملكية الأرض نفسها. وهنا أيضا يطبق نفس المبدأ، أي العمل، إذ يعتبر أن الإله والعقل معا يوجبان على الذي يريد ملكية الأرض أن يعمل فيها، من أجل توفير حاجياته، وأنه لا معنى لتسييج الأرض دون العمل، من ثم، ففعل التسييج والتملك هنا يشترط موافقة وتسليم الجميع، لأن بتملك أحدهم الأرض، فإنه يعرض حياة الآخرين للخطر ما داموا سيعجزون عن توفير ما يحتاجون. إذا فالملكية هنا مشروطة وليست مطلقة القيد، إذ يجب تملك القدر الذي نحتاجه للعمل ولإنتاج الحاجيات. إن القانون الإلهي ربط بين أمرين هما: العمل والاشتغال على الأرض وحيازتها، وجعل إحداهما شرطا للأخرى. وبناء على هذا، يرفض أن يكون في إمكان فرد واحد أن يمتلك كل شيء مهما تحصل لديه من أموال. إذا، هذه القاعدة تضع للملكية حدودا، وتجعلها مقتطعة.
يقف في الختام عند مسألة استخدام الذهب والفضة التي حولت طبيعة العمل الإنساني وبالتالي طبيعة الملكية، مشيرا إلى أن الإنسانية في البداية كانت كما هو الحال "آنئذ" في أمريكا، وقد اقتضت ضرورة إثبات الملكية اللجوء إلى استعمال الذهب والفضة، بوصفهما ما يبقى دليلا على الملكية ولا يطاله التلف.
لقد كان العمل في البدايات هو سبيل الملكية، وبناء عليه تم تقسيم الأرض ولو تم التقيد بهذا المبدأ لما كان هناك عنف أو حالة حرب.
ختاما، يمكننا القول بأن التأصيل النظري الذي قام به جون لوك أفرغ النظرية التيولوجية من دعائمها التي تسند بها مقومات وجودها، بل أكثر من ذلك لقد سمح له هذا التأصيل بضرب فكرة الوراثة في الحكم من الأساس، الأمر الذي يفيد في جعل الممارسة السياسية بناء على قاعدة المساواة الطبيعية ممارسة محض دنيوية. وهو ما نحن اليوم في أمس الحاجة إلى تمثله في واقعنا السياسي. كما أنه تأصيل ذهب أبعد من ذلك إذ وضع أسس الدولة المدنية الحديثة، ولنا عودة لاحقا لهذا المستوى من التأصيل.
الأحد فبراير 02, 2014 12:31 pm من طرف محمد