في السنوات الأخيرة، فرضت الحركات الإسلامية المتطرّفة والممارسات الإرهابية التي ينفّذها بعضها أو يلصق بها، وضعَ الإسلام، ديناً ومجتمعاتٍ ينتشر فيها، على بساط البحث والتدقيق. لم تتّسم الدراسات كلّها بالموضوعية في قراءة الحقيقيّ والشكليّ في موقع الدين الإسلاميّ ودوره في كلّ مكان يتخذ له فيه نفوذ، بل حاولت الدراسات لا سيما منها ذات الطابع الغربيّ أن تجري أبحاثاً احادية الجانب تجعل من الإسلام كتلة واحدة وتتمتّع بصفات مشتركة في كلّ مكان وزمان، وهي دراسات تبتعد عن العلمية وتجافي المنهج العلميّ والتاريخيّ في قراءة الظاهرة الدينيّة والإجتماعية. ينطبق هذا التوصيف على رؤية الغرب الإستعماريّ في نظرته إلى الإسلام المنتشر في الصحراء الغربية. تحاول سلسلة “الإسلام واحداً ومتعدداً” التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي أنْ تسدّ هذا النقص في قراءة الإسلام، فتقدم دراسات ترى الإسلام في جوانبه المتعددة، بالإيجابيات التي يحملها وبالثغرات التي تشوب تطبيقه. تكمن أهمية الدراسات من حيث شموليتها لجوانب مختلفة في الإسلام، نصّاً دينياً وممارسة عمليّة وإنعكاساً لواقع إجتماعيّ يعمل في وسطه. يمثّل كتاب محمد شقرون “الإسلام الأسود” إحدى دراسات هذه السلسلة وهي متّصلة بمنطقة معيّنة من العالم الإفريقيّ، وقراءته في زمان انتشاره وفي المجتمعات التي اندمج فيها. صدر الكتاب عن “رابطة العقلانيين العرب” وعن “دار الطليعة” في بيروت.
تشمل دراسة شقرون منطقة جغرافية تتّسع من الشمال الإفريقيّ إلى جنوب الصحراء وتضمّ دولاً ذات كثافة سكانية كبيرة، من دول القرن الإفريقيّ إلى نيجيريا والسنغال.. وغيرها من البلدان. لا تحتلّ هذه البلدان الموقع الذي تتمتّع به دول إسلامية آسيويّة بالنظر إلى عوامل متعدّدة تتّصل بتطوّرها وبدور الإستعمار في تهميشها، إلاّ أنها بدأت تأخذ موقعا أكبر في السنوات الأخيرة. تلصق بإسلام تلك المناطق صفة “الأسود”، وهي عبارة في ظاهرها تعبيرٌ عن لون بشرة الشعوب تلك المناطق، لكنها في حقيقتها السياسية والإجتماعية هي تعبير يحمل الكثير من “التحقير” والعنصرية ضدّ العرق الأسود تصل إلى نعته بأوصاف يغلب عليها هيمنة التخلّف وعقلية الخرافات والأساطير. إنها اوصاف موروثة من زمن الاستعمار الذي حكم تلك المناطق لعقود وأمعن في إبقائها أسيرة تخلّفها وابتعادها عن التحديث، ومحاولته إثبات تميّز ههذ المناطق الإسلامية عن غيرها من المناطق تبريراً لبقائه فيها واستغلاله لثرواتها.
يحاول محمد شقرون في دراسته أن يثبت خطل تلك الأبحاث التي تحاول إسقاط نمط معيّن من الإسلام خصوصا منه إسلام الجزيرة العربية على مناطق إفريقية لا تتّسم بالصفات نفسها لكيفية دخول الإسلام إلى مناطق بعيدة في الزمان والتاريخ.. يبدو شقرون وكأنه يحارب على “جبهتين”، جبهة دارسين إسلاميين يرجّحون الإيمانية بالإسلام عقيدة وقيماً اخلاقية في وصفها عملية اعتناق الشعوب الإفريقية للإسلام، وبالتالي القول بوحدانية هذه القيم وتطابقها مع سائر المجتمعات التي تدين بالإسلام. فيما يصرّ شقرون على وجهة اخرى اتخذها دخول الإسلام إلى تلك المناطق لا تتصل بالمباديء الإيمانية بمقدار ما اتّصالها بعناصر القوة والعنف على غرار ما كان عليه حال معظم المجتمعات التي اعتنقت الإسلام خلال حروب الفتح الإسلاميّ. لا ينكر شقرون دور العوامل السلمية في انتشار الإسلام في افريقيا جنوب الصحراء، وهو أمر نجم عن التأثّر بقوافل التجار والذاهبين إلى الحجّ أو العائدين منه، وعلى الأخصّ اعتناق الملوك والحكّام للإسلام ثمّ فرضه على شعوبهم. أمّا الجبهة الأخرى، فهي جبهة المستشرقين والدراسين الغربيين المحكومين بنظرة عنصرية تجاه الإسلام والشعوب الإسلامية عامة والمنتمين إلى الجنس الأسود خاصة، وهم دارسون كرّسوا أبحاثهم في خدمة الإستعمار الفرنسيّ وتبرير هيمنته وادعاءاته في سبيل إدخال الحضارة والتطوّر إلى هذه المجتمعات.
يختلف إسلام جنوب الصحراء الإفريقية عن مناطق أخرى في القارّة من حيث عدم تكوّن دول عربية أتت في رحاب الفتوحات الإسلامية، وهو أمر ناجم بشكل أساسيّ عن أنّ دخول الإسلام كدين لم بترافق مع انتقال قيائل عربية استوطنت هذه البلدان الجديدة وكوّنت فيها مجتمعات عربية-إسلامية على غرار ما حصل في بلدان عديدة دخلها الإسلام ومنها الشمال الافريقي. يعود قيام دول إسلامية في تلك المناطق إلى الفترة الممتدة بين القرن الثالث عشر والتاسع عشر، حيث قامت أنظمة ذات طابع إسلامي اتسمت باعتماد نظام قضائيّ إسلاميّ، وتركّز إيمانها وممارستها الدينية على عبادات محدّدة دون أنْ تتمكّن من التفقّه بأصول الدين الإسلامي، ممّا يعني أنّ الشكليات الدينية ظلّت هي الغالبة لدى هذه الشعوب. في المقابل تميّزت هذه المجتمعات التي باتت تحمل الإسلام عنواناً لدينها بالمحافظة على العادات والتقاليد السائدة فيها من قبيل الإيمان بالأرواح واستعمال التمائم في بعض الأمراض، والأحتكام إلى الخرافات والأساطير في تفسير أمور الطبيعة والحياة.. ممّا يتنافى مع كثير من المبادئ الدينية التي قال بها الإسلام. وهذا يدلّ على أنّ الإسلام نفسه عاد وتكيّف مع واقع هذه المجتمعات وخضع لأحكامها ولم يتمكّن من قلب المفاهيم السائدة، مع الإقرار بإدخاله حداً غير قليل من أحكامه والتزام هذه المجتمعات تطبيقها.
لم تكن تلك البلدان بعيدة عن موجة التحرّر من الإستعمار التي انطلقت من الشمال الافريقي، فشهدت حركات جهاديّة خلال القرن التاسع عشر وما تلاه في العقود. لكن حركات الجهاد في بلدان جنوب الصحراء تميّزت عن سائر الحركات في البلدان الأخرى من حيث قيادة الحركات الصوفية لهذا الجهاد. هذا يشير إلى كون الحركة الصوفية هنا تتمتّع بمميّزات خاصة، فمن المعروف أنّ الحركات الصوفيّة وطرقها تعطي موقعاً اساسياً للتعبّد والزهد عن أمور الدنيا وتتفرّغ إلى الله بكليتها. لكنّ جنوب الصحراء، في غالبيته، سيعرف حركات صوفية خرجت عن تعريف “التفرّغ عن الدنيا” إلى العمل لهذه الدنيا، بل للتفرّغ لها. شهدت المنطقة زعماء متصوّفة لعبوا دوراً مركزياً في الإصلاح والجهاد في سبيل الإستقلال. في هذا الصدد يشير محمد شقرون إلى الدور الخاص الذي لعبته “الطريقة المريدية” التي يمكن اعتبارها حركة إصلاح دينيّ وإجتماعيّ ساهمت في الحياة الإجتماعية ولعبت دوراً مهماً في السياسة والإقتصاد. تنتسب هذه الطريقة إلى “أهل السنة والجماعة”، وتبتعد عن الانعزال في حلقات المساجد والزوايا الذي تتسم به في العادة الطرق الصوفية في ممارستها لطقوسها. تركّز هذه الطريقة على التربية على العمل، بحيث ترفع من شأنه وتجعله مساوياً للعلم، وترى في هذا العمل رياضة صوفية كاملة. كما تؤيد ما يعرف ب“الحياد الإيجابي” لجهة اجتناب الدخول في نزاعات سياسية، وهو ما جعلها تهادن الاستعمار الفرنسي لفترة من الزمن.
يغلب الانتماء إلى الإسلام السنّي على معظم شعوب تلك البلدان، كما تغلب أيضاًالطرق الصوفية السنيّة على الحياة الدينية فيها. تتغذّى هذه البلدان من دول عربية “سنيّة” مثل مصر والمملكة العربية السعودية التي تمدّها بالبعثات العلمية التي كثيراً ما تتّخذ طابعاً تبشيرياً على غرار الإرساليات الأجنبية. لكنّ العقود الأخيرة بدأت تعرف انتشاراً للمذهب الشيعيّ في عدد من هذه البلدان تحت تأثير الجاليات اللبنانية ذات الانتماء الشيعي، مدعومة هذه المرة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تمدّ هذه الجاليات بالمساعدات التعليمية والبعثات العلمية والدينية. كانت تلك البلدان لعقود خلت بعيدة عن التأثّر بالحركات الإسلامية الأصولية نظراً إلى بعدها الجغرافي عن مراكز ثقل هذه الحركات، لكنّ السنوات الأخيرة أدخلت هذ البلدان في سياق التأثّر بدور الحركات الاصولية، ساعد على ذلك انتشار هذه الأصوليات بفكرها وممارستها، ساعد على ذلك ما قدّمه التقدم العلمي والتكنولوجي في تعرّف هذه المجتمعات على ما يجري في العالم، هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى، فقد اخترق النزاع المذهبي الدائر راهناً في المناطق العربية والإسلامية خصوصا بين أبناء المذهبين السنيّ والشيعيّ، اخترق تلك البلدان وبات الإسلام الحركي عنصراً فاعلاً الى حد غير قليل.
تثبت قراءة محمد شقرون لما يعرف بـ“الإسلام الأسود” الحاجة الماسّة لإعادة قراءة التاريخ الإسلاميّ في الزمان والمكان الذي استوطن فيه، ورؤية ماذا أعطى الإسلام من جديد لهذه المجتمعات وغيّر بالتالي من واقعها، وفي المقابل رؤية الإسلام في “حلّته” الجديدة بعد أن اندمج في هذه المجتمعات وبالتالي ما العناصر التي أدخلت عليه. تشكّل مثل هذه القراءة مدخلاً لإزاحة تلك المفاهيم “الدوغمائية” التي تنظر إلى الإسلام بوصفه “كتلة واحدة” متحجّرة وغير قابلة للتأثّر والتغيّر وفق مقتضيات التاريخ والجغرافيا، وهو ما نجحت دراسة محمد شقرون في إزالته.
الأحد فبراير 02, 2014 12:08 pm من طرف مريم