"
الإسلام الّذي أقبلت على استكشافه ليس البتّة الإسلام الّذي ورثته،
بل هو إسلام أؤوّله انطلاقا من إشكاليّة اللاّشعور"
فتحي بن سلامة، الإسلام والتّحليل النّفسي، ص41 (1).
كتاب فتحي بن سلامة "الإسلام والتّحليل النّفسي" هو من صنف الكتب الحدث
(2). وهو كتاب في التّحليل النّفسيّ قد اتّخذ من الإسلام موضوعا لتفكيك
أصوله، وتحليل تخييلات الأصل القديمة والحديثة انطلاقا من إشكاليّة
اللاّشعور. ولذلك سنقتصر على قراءة فصله الأوّل الموسوم بـ"همّ الأصل"
المخصّص كلّيا "لأزمة الإسلام المعاصرة"، وهي أيضا أزمة "المسلم الأخير"،
وأزمة الإسلام السّياسيّ المعاصر. وقد تجلّت هذه الأزمة في أحداث قد وسمت
بهذا الإفراط في التّديّن والتّفريط في الدّينيّ أيضا. ولذلك اقتضى هذا
الإفراط الّذي يترجم بطرق مختلفة "همّ الأصل" قراءةً تحليليّة نفسيّة
لأنّها من مفردات "اللاّشعور السّياسيّ". بل إنّ "قضايا اللاّشعور
السّياسيّ" (ص39) الّتي خاض فيها مؤلّف "الإسلام والتّحليل النّفسي"، إنّما
هي، في تصوّرنا، "أحداث" بالمعنى التّامّ لكلمة حدث (3).
تذكّرنا عبارة "اللاّشعور السّياسيّ" بعبارة "اللاّشعور الدّينيّ
l’inconscient religieux" الّتي جعلها ريجيس دوبريه عنوانا فرعيّا لكتابه
"نقد العقل السّياسيّ" الّذي يتطابق فيه الدّينيّ والسّياسيّ دون فصل
بينهما (4). وإن كان دوبريه قد اعتنى بالظّاهرة السّياسيّة في علاقتها
بالظّاهرة الدّينيّة فلأنّ ما يتحكّم في حركات الجموع، وما يحرّك الجماهير
والشّعوب في معارك النّضال والتّحرّر القوميّ والاجتماعيّ هو هذا الإحساس
الدّينيّ، أو هذا "اللاّشعور الدّينيّ" الّذي يوحّد في لغة واحدة بين
الأخلاقيّة الدّينيّة (مسيحيّة، إسلاميّة…) والفكر الثّوريّ. ولكنّه في
جميع الأحوال لم يكن "اللاّشعور الدّينيّ" عنده على منوال "اللاّشعور"
الفرويديّ وإن كانت استعانته بتحاليل فرويد في مجال الدّين محدودة. أمّا
إحالة فتحي بن سلامة على أعمال فرويد في مجال الحضارة والدّين والفنّ
والحياة اليوميّة فهي صريحة. وقد حتّمتها "الأزمات الكبرى" كقضيّة سلمان
رشدي وحرب الخليج والبوسنة والحرب الأهليّة بالجزائر والصّراع الفلسطينيّ
الإسرائيليّ "ثمّ منطق الإحراج والرّعب الّذي فرضه التّعصّب، من خلال قضيّة
الحجاب، ومن خلال شتّى الفتاوى، ومن خلال مقاتل المثقّفين وذبائح
المدنيّن" (ص39).
وقد دفع كلُّ هذا المؤلّفَ إلى أن يغيّر نوعيّة اهتمامه بالتّحليل
النّفسي. يقول معبّرا على هذا الانتقال: "انتقلت من المغامرة الشّخصيّة،
ومن البحث المقتصر على "علم النّفس الفرديّ" إلى منظور أرحب. كان عليّ أن
أضفي على تفكيري بعدا سياسيّا بالمعنى الجوهريّ للمفهوم، وأن أدخل في علاقة
وثيقة ومستمرّة مع نصوص فرويد عن الحضارة وضيقها، وعلم نفس الذّات
الجماعيّة، والدّين وأصل المجتمع. لقد تطلّب الواقع الإسلاميّ الرّاهن جهدا
مستمرّا في التّحليل والتّأويل، وتعقّب الأحداث المتلاحقة الّتي تحاصرنا
على نحو لم يسبق له مثيل." (ص38).
هذا الانتقال من "علم النّفس الفرديّ" إلى "علم نفس الذّات الجماعيّة" قد
برّره فتحي بن سلامة بطريقة أخرى. يقول: "أيقنت بأنّ مقاربة اللاّشعور في
المجال النّفسيّ العياديّ وفي مجال الحياة اليوميّة تستوجب الإحالة إلى
الإسلام، لا سيّما أنّ الأمر يتعلّق بذوات تمّت تنشئتها في إطار التّقليد
الإسلاميّ، لا سيّما أنّ النّشاط الحركيّ الأصوليّ والسّياسيّ قد أنتج
تحيينا للأصول باعثا على القلق." (ص39).
ورغم وجاهة هذا التّبرير فإنّه يثير أسئلة عديدة تتعلّق بعوائق هذا
الانتقال من مستوى الذّات الفرديّة إلى الذّات الجماعيّة: هل يمكن إجراء
التّحليل النّفسيّ على الذّات الجماعيّة بنفس الكيفيّة الّتي تجرى في الأصل
على الذّات الفرديّة؟ ثمّ إذا سلّمنا بأنّ "الإنسانيّة" ليست ذاتاn'est
pas un sujet وليس لها ذاتn'a pas de sujet (5)، وإنّما هي "جسم بلا
أعضاءun corps sans organes" على حدّ عبارة دولوز، بدون "أنا" ولا انسجام
فكريّ، ولا ذاكرة مشتركة تؤسّس هويّة، فإلى أيّ حدّ نعتبر الجموع أو
الجماعات ذواتا، أو مجموعة من الذّوات؟ هذه الاعتراضات ليست جديدة، فقد
وجّهت لفرويد لمّا غامر بالتّحليل النّفسيّ في مجال الثّقافة، مغامرة
أقامها في مجال الدّين على المماثلةanalogie بين المرضيّ le pathologique
والدّينيّ، والتّوازي بين الظّواهر الدّينيّة في المجتمعات وطقس العُصاب
الوسواسيّ عند بعض الأفراد. فإذا كان الخوف هو الّذي صنع الآلهة فإنّ فرويد
يتبنّى هذا المعطى ويكرّره بإضافة منابع أخرى لهذا الخوف حين يربطه
بالشّوق. فكلُّ ما يُنزِّل الدّين في مجال العُصابnévrose يضعه في الآن
نفسه في حقل الشّوق le désir. وقد حملت هذه المماثلة فرويد على أن يصف
الدّين بأنّه "عصاب البشريّة الوسواسيّ الكونيّ l'universelle névrose
obsessionnelle de l'humanité". ورغم أنّ هذه المماثلة بين الدّينيّ
والعُصاب، وبين الظّواهر الدّينيّة والظّواهر المرضيّة، غير محدّدة فإنّها،
في رأي ريكور Ricœur، ينبغي أن تظلّ كذلك، لأنّ ذلك كلّه يحيل على حدود
المماثلة، وحدود التّحليل النّفسيّ ذاته وقيمته في مجال الدّين (6).
***
لقد كان الدّين عند فرويد هذا التّكرار الرّتيب لأصوله الخاصّة الخالصة
(7). غير أنّ فرضيّة فتحي بن سلامة، في الفصل الأوّل من كتاب "الإسلام
والتّحليل النّفسي"، لا تجاري هذه المسلّمة. فهي تقوم، في رأينا، على
امتناع هذا التّكرار، لأنّه قد صار في سياق الإسلام السّياسيّ الحديث
مستحيلا. دليلنا على ذلك أنّ المؤلّف لم يحلّل، في الفصل الأوّل "همّ
الأصل"، إلاّ "الحدث".
ينبغي أن نميّز في هذا السّياق بين نوعين من الحدث، هما: الحدث بوصفه
عملا، ويعبّر عنه بقولنا "فلان فعل ذاك، وجعل الأمور تصل إلى ذلك الحدّ…"،
ثمّ الحدث بوصفه كارثة، ونعبّر عنه بقولنا "هذا ما جرى، هذا ما وقع، هذا ما
أصابنا، هذا ما كتب لنا وقدّر. والنّوعان موجودان. من النّوع الأوّل، أي
الحدث بوصفه عملا، نجد حدث الخرق لمّا انتهك بورقيبة فرض الصّيام على نحو
علنيّ أمام كاميرا التّلفزيون بالإفطار قبل موعد الإفطار. فـ"في شهر رمضان
شرب على نخب الشّعب أمام كلّ الأنظار وأمام كاميرا التّلفزيون." (ص30).
ولقد اكتسى فعله ذاك "طابع الخرق الجذريّ، أي إنّه كان من قبيل تلك الأفعال
الّتي تحدث قطيعة في النّفوس ويتّحد فيه الممكن بالمستحيل على نحو مفاجئ."
(ص30). فـ"هذا الخرق قد خلق حدثا طبع بميسمه كامل الجيل الّذي أنتمي
إليه." (ص31).
ومن النّوع الأوّل أيضا نجد حدث اللّعب في رواية "الآيات الشّيطانيّة"
لسلمان رشدي. وهذا الحدث يذكّر "بأنّ حقيقة الحدث متورّطة دائما في
انتقالها الضّروريّ إلى نصّ، في فعل كتابة وفعل كاتب، وأنّ الحدث وإن كان
حقيقيّا فإنّ عرضه عن طريق اللّغة يجرّه إلى دائرة التّخييليّ، أي إلى ما
نطلق عليه اليوم اسم الأدب" (ص49). لقد استطاع سلمان رشدي بواسطة التّخييل
الأدبيّ أن يفتّت حقيقة الأصل التّيولوجيّة ويحوّلها إلى "مجموعة من
الموادّ المتفرّقة الّتي يمكن لكلّ واحد أن يؤلّف بينها كما عنّ له، تماما
كما يفعل الأطفال بالأجزاء المنفصلة من ألعاب التّركيب. لقد استند المؤلّف
إلى حلقة الآيات الشّيطانيّة الّتي ظهر فيها الكذب في مظهر الحقّ بصفة
مؤقّتة لكي يقترح مواصلة لعمليّة الانتحال هذه: ماذا لو استمرّ الشّيطان في
تنزيل الوحي دون أن يتفطّن إليه أحد، وماذا لو أنّ الحقيقة لا تعدو أن
تكون كذبا مقنّعا، ولو أنّ كلّ شيء تخييل؟…" (ص51). فالخرق واللّعب كلاهما
حدث نسبت مسؤوليته إلى فاعلين، أو عونين أو اسمين.
أمّا من النّوع الثّاني، أي الحدث بوصفه كارثة، فنجد المرض. ويعتمد
المؤلّف، لتشخيص هذا الحدث، على كتاب نعمت صدقي "التّبرّج". وفيه تتحدّث عن
تجربتها مع المرض متّخذة من جسدها شهادة حيّة "على ظهور علامات الله في
جسد متعفّن (…) وعلى الهمّ الإلهيّ والمغفرة." (ص75). هذه العلامات قد
وصفتها نعمت صدقي في هذه الفقرة الّتي كتبت ببلاغة الاعترافات: "وفي أثناء
مرضي، عادتني سيّدة وقالت لي مجاملة: إنّك لا تستحقّين كلّ هذا العذاب (…)
فصرخت قائلة: لا تقولي ذلك، فإنّ الله لا يظلم النّاس شيئا، ولكنّ أنفسهم
يظلمون. إنّي آثمة أستحقّ هذا العذاب وزيادة، فإنّ الفم الّذي أدّبه الله
بالمرض والألم كان يصبغ بالأحمر، وكان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن
المنكر. وهذا الوجه الوارم كان يتجمّل بالمساحيق، وهذا الجسم الطّريح كان
يتبرّج بالثّوب الأنيق. وهذه الرّأس المتألّمة المتأجّجة بنار الحمّى كانت
لا تحجب بالخمار كما أمر الله، وهي الآن تحجب قهرا باللّفائف الطّبّيّة
تحيط بها كالخمار تماما. لم أختمر بخمار الاحتشام، فخمّرني الله بخمار
الآلام، جمّلت وجهي بالأصباغ والأدهان، فصفعه الله صفعة بالعذاب والهوان"
(ص76).
تظهر هذه الاعترافات "نقاط التّعفّن والرّعب" في الجسد العليل. وهي لا
تكتفي بتقديم هذه الشّهادة على تجربتها الدّينيّة مع المرض بما هو "اضمحلال
للمناعة تتلوها عودة للسّلامة"، وإنّما هي تتوجّه إلى الآخرين بإبراز
دلالة أخرى تتمثّل في تشكيل "صورة الإله المنتقم" عبر المرض. فما انتهك على
مستوى الدّين بالإفراط في الظّهور والتّبرّج - وهو يعني كشف المرأة جسدها
بإبراز زينتها على نحو مخالف للعادة مخيف - "يعود عن طريق معاناة الجسد".
وفي هذه الاعترافات يلتبس الجسد الخاصّ المريض بالجسد المشترك، والجسد
الواقعيّ بالجسم السّياسيّ الخياليّ الّذي فقد مناعته بسبب تعفّن الدّين.
وفقدان المناعة هذا إنّما هو في نظر المؤلّف من أسباب ظهور الإيديولوجيا
الإسلامويّة الّتي تحاول يائسة "استرجاع السّلامة المفقودة، عبر المناعة
الذّاتيّة. فنصّ نعمت صدقي يندرج في إطار منطق تنظيف المتعفّن وتطهيره
الرّامي إلى تحقيق عافية وخلاص افتقدتهما المجموعة في وباء انهيار
المحرّمات." (ص84).
ومن جنس الحدث الكارثة نجد حدث التّدمير الذّاتيّ. وهو تدمير تضطرّ إليه
بعض الكائنات الحيّة لحماية كيانها بتدمير مناعتها، أي تدمير قوى المناعة
الحامية للجسم، أو تدمير ما يحمي الجسم حماية ذاتيّة طلبا للوقاية
والاتّقاء من نفس القوى الدّفاعيّة الّتي تحمي الجسم (8). وقد تابع المؤلّف
مسار هذا الحدث في خطاب الإيديولوجيا الإسلامويّة العلمويّ من خلال كتاب
حمزة محمّد الهاشميّ الموسوم بـ"القيم الكونيّة الخمس والقنابل الكبرى
الأربعة". وهدف هذا الكتاب هو "الدّفاع عن حماية الحياة والبيئة في السّياق
الرّأسماليّ والصّناعي الغربيّ، بالجمع بين العلم والقرآن." (ص95). وقد
جاء في (الهامش 17، ص101) أنّ " القنابل الأربع الكبرى الّتي تطلق الموت من
عقال المعنى حسب الكاتب هي: "قنبلةDPM" المتعلّقة بالانفجار الدّيمغرافيّ،
و"قنبلةSST" الجامعة بين الجنس والسّيدا والإدمان على المخدّرات،
و"قنبلةIF" المتعلّقة بالمعلومات الزّائفة الّتي تطوّر خيالا كونيّا لا
يمكن التّحكّم فيه". وما يشهد عليه هذا الكتاب هو "تسرّب العلمويّة إلى
الخطاب الدّينيّ، وكأنّ الدّين أصبح غير كاف لكي يوفّر للمؤمنين نظام
الحقيقة الماضي" (ص87).
وقد انجرّ عن هذا التّسرّب اضطراب في المعنى من جرّاء ترجمة القول المقدّس
في سجلّ المعرفة العلميّة، فقد أضحت حقيقة القول الإلهيّ غير مفهومة أو
معقولة إلاّ في منطق العلم، وهو ما أفضى إلى ظاهرة الانحلال أو حدث
التّدمير الّذي صاغه المؤلّف في هذه السّلسلة من الأسئلة: "ما الّذي يؤدّي
بمؤمنين يقدّسون دينهم ويَحتفون به، ما الّذي يؤدّي بهم إلى تدميره؟ أو
بالأحرى ما تكون هذه القوّة الّتي نجعل موضوع شغفهم ينحلّ بين أيديهم، وهم
يقدّمون له آيات الحبّ والإخلاص؟ بم نفسّر هذه العدوى المستفحلة
والنّظاميّة الّتي يمارسها الخطاب العلميّ على الدّين؟" (ص98). يقدّم
المؤلّف أجوبة مستفيضة عن هذه الأسئلة قد استقطبها جميعا إشكال المعنى.
فإذا كان الدّين هو الّذي يمنح للعالم معنى بتحديد الاتّجاه، أو "المقصد
الأساسيّ من خلق البشر، وهو عبادة الله" (ص99) فإنّ العلم قد حلّ اليوم
محلّ الدّين حين "تحوّل هو نفسه إلى مصدر للمعنى، أي إلى عالم أصبح هو نفسه
معناه الخاصّ." (ص100).
ومن نتائج هذا الاضطراب أنّ الموت الّذي ظلّ في المنظومة الدّينيّة منحصرا
داخل النّظام الرّمزيّ، و"المعنى متّجها صوب الآخر"، فإنّه "في العالم
الّذي يكون معناه في العالم…" قد أضحى "… معناه هو العالم نفسه، فيصبح
الموت منفلتا من كلّ سيطرة رمزيّة، غير مانح لأيّ اتّجاه، وغير عامل في
صالح أيّ آخريّة." (ص101). وباختصار شديد نقول إنّ ما حلّله المؤلّف في هذا
السّياق هو حدث التّدمير الذّاتي عندما يتسلّح الدّين بالعلم تسلّحا قد
جرّد الحقيقة الإلهيّة من كلّ تمثيل ومن وساطة القول الإلهيّ، فزعزع نظامها
الرّمزيّ الّذي كانت التّيولوجيا تحرسه وتصونه، ثمّ عوّض كلّ ذلك بالحقيقة
العلميّة، أي "الحقيقة المحض، الحقيقة الخالية من القول الوسيط" (ص103)،
وهي لا محالة الحدث العلميّ الماثل في الحضارة الحديثة دون تمثيل، إذ لا
لغة رمزيّة بشريّة أو إلهيّة يمكن أن تترجمه سوى لغة الرّياضيات والحسابات
والتّجارب.
يحملنا هذا الاستقراء إلى اعتبار هذه الأحداث بنوعيها، بوصفها عملا أو
كارثة، قد كانت جميعا نتيجة لقاء اصطداميّ مع الواقعيّ le réel، وهو هاهنا
"الأصل" بما أنّ تمثيل الأصل على الصّعيد الرّمزيّ هو المستحيل. أليس
الواقعيّ هو المستحيل في التّصوّر اللاّكانيّ؟ أمّا تسمية هذه الأحداث
بأنّها "خرق" و"لعب" و"مرض" و"تدمير ذاتيّ" فهي تسجيل للحدث في اللّغة.
فتسمية الحدث هي الدّال الجديد الّذي ينشئ مقروئيته الجديدة، أو وضعيته
الجديدة، علما بأنّ تسمية الحدث هي جزء من الحدث ذاته. فإن جرّدناه من كلّ
تعيين رمزيّ، أو تسمية انقلب الحدث إلى ركام من الوقائع. فكلّ حدث يتضمّن
الذّاتيّة الّتي تتجلّى في ما يسمّيه باديو بـ"التّدخّل المؤوّل
intervention interprétante" (9)، فالمنظور الذّاتيّ الّذي صاحب قراءة
الحدث هو جزء من الحدث نفسه. ولذلك نعتبر قراءة بورقيبة وسلمان رشدي ونعمت
صدقي وحمزة محمّد الهاشميّ لهذه الأحداث، تدخّلات مؤوّلة مختلفة غير منفصلة
عن الحدث لأنّها جزء منه. وقد جرى كلّ واحد منها بواسطة لغة يسمّيها باديو
"لغة – ذات" على ضوئها أمكن أن نفهم هذه الأحداث من منظور داخليّ، هو
منظور الذّوات الّتي صنعت الحدث أو تحدّثت عنه. غير أنّ تأويل هذه الأحداث
بوصفها منعا لكلّ عودة للأصل، إنّما هو مستوى آخر من التّأويل يترجم موقف
المؤلّف الذّاتيّ منها، ويمثّل في الآن نفسه موقع المحلّل النّفسيّ الّذي
احتلّه للإنصات إلى هذه الخطابات الّتي تداخل فيها المرضيّ والدّينيّ في
شكل هذيانيّ، يمكن تسميته بـ"هذيان الأصل"، أي "عمليّة نسخ الأصل" وهي
"الآلية الأساسيّة المرتبطة بمفهوم "العودة" أيضا…" (ص67).
هذه العودة يعتبرها المؤلّف مستحيلة لأنّها جرت دون إعادة تمثيل للأصل
وتأويله الّذي يقتضي إبداع علاقتنا بالقديم "علاقة لا تدّعي بلوغ الأصل
إلاّ عبر استعارة الاستعارة." (ص68). غير أنّ هذه العودة لم تحصل على هذا
النّحو. وأكبر دليل على ذلك هذه الأحداث نفسها الّتي تترجم استحالة هذه
العودة بطرق مختلفة، تارة بقطع سبل العودة بمنع تكرار الأصل ومطابقته
(بورقيبة وسلمان رشدي)، أو بالعودة إليه على نحو هذيانيّ (نعمت صدقي وحمزة
الهاشميّ). فالعودة الهذيانيّة هي "رجوع في مسار الزّمن" وبلوغ الأصل
واللّجوء إليه والمثول في حضرته. وهي عودة لا تكون إلاّ بنفي التّمثيل.
فـ"هذا اللّجوء ليس ممكنا إلاّ بإعدام التّأويل" و"انسحاب الاستعارة"
وانحلال "الوظيفة الخياليّة" الّتي تترك المجموعة في "قلق سياسيّ لا قرار
له". ولأجل ذلك "كان الهذيان الجماعيّ يمنحها على نحو ما جسدا جماعيّا
بدائيّا منفلتا من التّأويل الرّمزيّ، وكأنّها تشعر بالحاجة إلى تجار
حسّيّة تجعلها تعيش الشّيء الأصليّ بأجسادها، بهذه الأجساد المتداخلة
المتراكبة." (ص68). فالإسلاميّون لا يبدعون القديم بابتداع قواعد جديدة
تنتج علاقة جديدة بالأصل عبر التّأويل والاستعارة والفنّ والأدب… وإنّما
يبدعون القديم على نحو واقعيّ بأجسادهم وفي أجسادهم في شكل شهادة حيّة،
كالمظهر واللّباس، تجسّم الأصل بوصفه حلولا في الجسم. فالإسلاميّون يشهدون
باستبدان somatisation الأصل في أجسادهم ومسرحته على نحو جماعيّ. "وهذا هو
السّبب الّذي يجعل الإسلاميّين لا يكفّون عن تقديم أنفسهم إلى العموم في
صورة تتجمّع فيها كلّ مناحي هذه الظّاهرة، ولا يكفّون عن الشّهادة بأجسامهم
على الانبعاث العضويّ للأصل المشترك وكأنّه بصمة أو وسم." (ص.ص68-69).
هذه الشّهادة بالجسم هي حدث فريد يعرب عن شوق قد ترجم في سياق
الإيديولوجيا الإسلامويّة بتسمية "العودة إلى الأصل"، أي العودة إلى
المقدّس، وانقلاب "الإنسان الدّينيّ Homo religiosus" إلى "إنسان مقدّس
Homo sacer" بالمعنى الّذي حدّده الفيلسوف الإيطاليّ أقمبن Agamben (10).
هذه العودة لا يمكن أن تفهم إلاّ بالقوّة الّتي أوجبت هذه العودة.
فـ"العودة إلى الأصل" قد اقتضتها قوى البعد عن الأصل، وهي قوى الجاهليّة
الّتي هيمنت في المجتمعات الإسلاميّة، حين أضحت هذه المجتمعات لا "تحتكم
إلى حكم الشّريعة الإسلاميّة بما أنّها تبنّت الدّولة الحديثة، والقانون
الّي يتماشى معها، والّذي ابتدعه الغرب العلمانيّ (…) كأنّ الإسلام انسحب
منها أو كأنّها أنكرت الإسلام." (ص66).
فالعودة إلى الأصل ينبغي أن تفهم على أنّها القوّة المضادّة الّتي ستلغي
كلّ ما يمنع هذه العودة ويعرقلها. وقد ترجمت على الصّعيد العمليّ بـ"إعادة
أسلمة" المسلمين الّذين أصبحوا في مجتمعاتهم "أشباه" مسلمين لجعلهم "يعيشون
الأصل من جديد" (ص66)، إمّا بحمل المسلمين رجالا ونساء على توقيع "شهادات
من هذا القبيل: "اليوم (التّاريخ) دخلتُ إلى دين الإسلام على يد الأمير
(فلان)"، أو "بالقتل وبارتكاب المجازر دون أيّ حرج، كما في الجزائر"
معتبرين أشباه المسلمين مرتدّين يعتبر "موتهم نصرة للإسلام. بل إنّ موتهم
يساعدهم على التّكفير عن إثمهم المتمثّل في ارتدادهم إلى ماقبل الأصل (أي
الجاهليّة) وتحوّلهم إلى أشباه مسلمين." (ص67).
إنّ ما يشخّصه فتحي بن سلامة بوصفه هذيانا جماعيّا "يحقّق شكلا من أشكال
الرّهق (أي غشيان المحارم) inceste يمكن أن نسمّيه بالرّهقويّ السّياسيّ
l'incestuel politique، لنعني به الاعتقاد بالحضور التّام المصمت للأصل
وبوجود التحام بين الأصل والمجموعة المرتوية الممتلئة." (ص67)، إنّما هو في
الواقع تحويل "أشباه المسلمين" في المنظومة الإسلامويّة إلى أناس يمثّلون
طراز "الإنسان المقدّس"، وتحويل الفضاء العموميّ الحديث الّذي ينتج في
خضمّه وتفاعلاته المعقّدة العلاقات السّياسيّة المختلفة بين الصّديق
والعدوّ، وبين المواطن والدّولة… إلى فضاء بيوسياسيّ biopolitique تسقط فيه
حقوق الإنسان المدنيّة والسّياسيّة والقانونيّة الّتي تكفلها الدّولة،
فيتحوّل الإنسان المسلم إلى مجرّد "حياة عارية" قد أعدّت للموت، إذ بقتله
فقط، أي بطقس العبور، يمكنه الانتقال من جديد إلى دائرة المقدّس الإلهيّة،
و"العودة إلى الأصل"، و"لذلك فإنّ هؤلاء القتلة، عندما ينحنون على ضحاياهم
لذبحهم، يبشّرون بالمغفرة، ويطلبون منهم العفو على الفعل الّذي سيقترفونه
من أجلهم." (ص67).
لنذكّر بتعريف "الإنسان المقدّس Homo sacer" الّذي اقترحه أقمبن. إنّه
باختصار الإنسان الّذي يمكن قتله دون أن نقترف بقتله أيّ جرم، ولكنّه أيضا
الإنسان الّذي لا يمكن التّضحية بقتله في أيّ شكل من أشكال القتل
الطّقوسيّة. هذا التّعريف قد دقّقه أقمبن حين بيّن أنّ لفظ « Sacrare »
يعني في اللاّطينيّة "فَصَلَ". وليس المقدّس بهذا التّصوّر حالا من الأحوال
تصيب الأشياء أو الكائنات حين تسكنها القوى الإلهيّة أو تدخل في حوزتها،
وإنّما المقدّس هو ما ينشأ بعمليّة الفصل، فينسحب من استعمال النّاس، أو من
فضاء الاستعمال العامّ (11). فإذا كانت القوى الّتي تمنع المسلمين أو
"أشباه المسلمين" من الالتحاق بدائرة المقدّس الإلهيّ الّتي تمثّل الأصل في
صفائه المطلق، فإنّ "أسلمة المسلمين" هي القوّة الّتي تمنع المسلم، هذا
الإنسان الدّينيّ، من البقاء في دائرة الفضاء السّياسيّ الدّنيويّ الّذي
تشغله الدّولة.
إنّ الإيديولوجيا الإسلامويّة هي محاولة يائسة تسعى إلى إعادة "الإنسان
الدّينيّ" إلى دائرة المقدّس الإلهيّة، أي تحويله إلى "إنسان مقدّس". فهذا
الإنسان لا يتعارض مع الدّائرة المقدّسة الإلهيّة، وإنّما مع صورة الإنسان
المعتادة الّتي تتولّى الدّولة إنتاجها وتمثيلها. فالإيديولوجيا
الإسلامويّة بهذا المعنى إيديولوجيا مضادّة للدّولة وللعمل السّياسيّ، بل
هي تعطيل للعمل السّياسي حين تعلّق القوانين والشّرائع الّتي تنظّم هذا
العمل، فينقلب الوضع المعتاد إلى وضع استثنائيّ. هذا الوضع الاستثنائيّ
يمكن أن يتداخل مع "الموقع الحدثيّ" ويتقاطع، ذلك أنّ الحدث، ما إن ينبثق،
يمكن أن يترتّب عليه سياسيّا وضع استثنائيّ، فيكون إمّا حدثا "إيجابيّا"
كالثّورة (بتعطيل العودة إلى الأصل، وهذا ما قام به بورقيبة وسلمان رشدي)،
وإمّا حدثا "سلبيّا" (بالعودة إلى الأصل بالإرهاب أو بالقتل أو بارتكاب
جرائم ضدّ الإنسانيّة) (12). وفي جميع الأحوال ينبغي أن نميّز بين عنفين،
العنف الّذي تحتكره الدّولة، وتمارسه يوميّا لدولنة الأفراد وإنتاج
ذاتيتهم، والعنف المقدّس الّذي ينبثق في شكل أحداث عنيفة، ولكنّه ينبثق
لإلغاء كلّ ذاتيّة ودمار الذّوات. هذا العنف الّذي يمارس في الإيديولوجيا
الإسلامويّة باسم "العودة إلى الأصل" هو خطر يهدّد الحضارة، لأنّه مثل
ميراث مدمّر لا يمكننا التّفويت فيه، ولا يمكننا استقباله أيضا.