يقدم يوسف شويري في عمله هذا تاريخا للقومية العربية منذ بداياتها في أواسط القرن التاسع عشر حتى مآلاتها في الزمن الراهن وما أصابها من تحوّلات وتغيّرات. فيخصص الفصل الاول من عمله لتقديم عرض للمقاربات النظرية التي تناولت مفهومي الأمّة والقومية، وقد صنّف هذه المقاربات تبعا إلى موقفها من المسألة القومية إيجابا أو سلبا أو لاأدريا، فقدّم مراجعة سريعة لأعمال ايلي قدوري وارنست غيلنر واريك هوبسباوم وآخرين، باعتبارها مدخلا نظريا وتأسيسا للعرض التاريخيّ اللاحق للقومية العربية.
ابتدأ شويري تناوله للقومية العربية عبر فصل خصصه للسردية القومية طارحا أسئلته، كيف رأى العرب تاريخ أمّتهم؟
هل نظروا إلى "الأمّة" باعتبارها حقيقة وموضوعا للتاريخ، الذي لا يمكن كتابته إلا من خلال منظور الأمة، وعليه يصبح هذا التاريخ تدوينا لانتكاساتها وانتصاراتها؟
هل كانت الغاية من التاريخ هي تأسيس ذاكرة قومية للعرب وتقديم الدروس من أجل المستقبل؟
هل رأى المؤرّخون العرب في الوعي القومي نتاجا للوجود السابق والمستقرّ للأمة، أم نظروا إلى الأمّة نفسها باعتبارها نتاجا لتطوّر الوعي القومي؟
لدراسة السردية القوميّة يقدّم شويري عرضا لثلاثة مؤرّخين عرب هم محمد عزة دروزة (1887- 1984) ولد في نابلس، ودرويش المقدادي (1898- 1961) ولد في إحدى قرى قضاء طولكرم، وقد عمل إلى جانب ساطع الحصري في وزارة التربية العراقية ونشط إلى جانب حكومة رشيد عالي الكيلاني وأخيرا شفيق غربال (1894-1961) وهو مؤرخ مصري متخصص.
يمثل العملان التاريخيان لكلّ من دروزة والمقدادي السردية القومية العربية بنسختها المشرقية التي أصبحت لاحقا الأساس لكلّ المرويات التاريخية للأمّة العربية، فقد قدّما كلّ العناصر التكوينيّة للسردية القومية التي ستعمّم وتشكّل الوعي التاريخيّ بالأمّة العربية لدى أبنائها.
للتاريخ العربي – لديهم - بنية تاريخية تنقسم إلى حقب مترابطة مع بعضها البعض تبتدئ مما قبل الاسلام، حيث تمّ الربط بين الساميين القدماء (أكاديين وكنعانيين وغيرهم) والعروبة من خلال الهجرة من شبه الجزيرة العربية واللغة السامية الأمّ، ليصبح تاريخهم "حقبة" من تاريخ الأمّة العربية. تليها نشأة الاسلام باعتبارها لحظة التأسيس الفعلي لتاريخ الأمة العربية، ومع الاسلام تمّ تكريس اللغة العربية باعتبارها خلاصة تطور الحضارات السامية. ومن ثمّ تاريخ الحقب الاسلامية التالية من أموية وعباسية وتوسّع عملية التعريب في الأقاليم المختلفة من مصر الى المغرب العربي التي تصبح جميعها فيما بعد بمثابة الأعضاء من الجسد الواحد.
أمّا الدروس التي تستخلصها السردية القومية فتتمثّل في خطر الانقسام، فكلّما انقسم العرب وتشرذموا انتهى بهم الحال الى الهزيمة وفقدان أراضيهم وانحطاطهم الحضاري، الانحطاط الذي يرتبط بعصور السيطرة غير العربية على العرب. وفي مقابل التشرذم والفرقة فإنّ تقدّم العرب لم ينفصل عن مسألة الوحدة ومستوى الوعي القومي الذي امتلكوه، ولكنّ الوحدة والبعث القوميّ لم يتحقّقا إلا من قبل صفوة من المناضلين المؤمنين بأمّتهم وحقيقتها كما تتجلّى في التاريخ.
مقابل هذه السردية المشرقية التي أصبحت أصلا لكلّ السرديات اللاحقة، يُقدّم عمل شفيق غربال باعتباره نموذجا لسردية مصرية مغايرة لتلك المشرقية، فالتاريخ هنا يحمل حساسيات مغايرة، بدءا من تقييم تجربة الدولة العثمانية إلى النظر إلى جذور القومية العربية التي اعتبرها غربال كنتيجة للتحديث العثماني وليست بعثا لوعي قومي بحقيقة متجذّرة في الوجود التاريخي للعرب. طروحات غربال تبدو قريبة من طروحات ارينست غلينر والدور المركزي للتعليم والتصنيع وبيروقراطية الدولة في بناء ثقافة متجانسة وعالمية تكون بمثابة الشروط الموضوعية لانبثاق الثقافة القومية.
بعدها يتناول شويري تاريخ بدايات الوعي القومي العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر والخلفية التاريخية التي أدّت إليه، مقدّما ثلاثة أسباب للنشأة وهي الاصلاحات العثمانية (التنظيمات) كمحاولة لبناء دولة حديثة مركزية، والتدخّل الأوربي وتأثيره على علاقات القوة والحياة الاقتصادية من ناحية وعلى عالم الأفكار من ناحية أخرى، وأخيرا انبثاق نخبة عربية جديدة قامت بتحويل مصالحها وحساسياتها إلى "سياسة" مستفيدة من ظهور معنى جديد للسياسة قائم على نشوء المجال العام. هذه النخبة العربية الحديثة تكونت من مجموعات مختلفة، هي العرب المسيحيون الذين حاولوا تأسيس هوية علمانية وطنية يتجاوزون من خلالها وضعهم الأقلياتي في الجماعة المسلمة العثمانية إلى رحاب أوسع من خلال الانتماء إلى الوطن، ومجموعة العرب المسلمين من أبناء الأعيان الذين تلقوا تعليما حديثا واكتسبوا وعيا جديدا بمعنى السياسة من ناحية، وهم من ناحية أخرى تعرّضوا لخطر التهميش عبر سياسة المركزة التي اتبعتها الدولة العثمانية إبان فترة الإصلاحات، وأخيرا الإصلاحية الإسلامية القائمة على أفكار ابن تيمية كمحاولة لإعادة بناء إسلام عقلاني متحرّر من الخرافات والنزعات الصوفية والتفاسير التقليدية. هذه المجموعات الثلاث شكّلت النخبة العربية الجديدة.
إن سياسة الأتراك القوميين من أجل تتريك الدولة العثمانية واقصاء أعيان المدن عن مواقع سلطاتهم التي امتلكوها لفترات طويلة، دفعت النخبة العربية الحديثة إلى تحويل قوميتها العربية من سياسة ثقافية تقوم على الانتماء إلى اللغة العربية وتطويرها مع الولاء للدولة العثمانية، إلى سياسة قومية تسعى إلى الحكم الذاتي ومن ثمّ إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية وتأسيس دولتها العربية المستقلة.
تمثّل هذا الطور من القومية العربية في الجمعيات العربية في الدولة العثمانية التي وصلت إلى ذروتها مع الثورة العربية الكبرى والانفصال عن الدولة العثمانية، غير أن هذه الحركات والجمعيات القومية ما لبثت أن واجهت الاستعمار وخاضت ضده ثورات عدة كثورة العشرين والثورة السورية الكبرى، التي فشلت جميعها في تحقيق أيّ من أهدافها.
فشل هذا الطور من تاريخ القومية العربية كان الممهد لبدء طور جديد، هو تاريخ الأحزاب القومية التي ابتدأت مع حزب الاستقلال العراقي وتلاه البعث والقوميون العرب وغيرها.
خلال هذا الطور سعت القومية العربية إلى تجاوز وضعها باعتبارها هوية ثقافية إلى امتلاك نظرية قومية اعُتبرت شرطا ضروريا لتحقيق النصر وانتزاع استقلال العرب القومي وتحقيق وحدتهم، فظهر عدة منظرين عرب حاولوا تقديم نظرية قومية عربية كساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق.
غير أن الناصرية كانت العصر الذهبي الحقيقي للقومية العربية، حيث تولّت الطبقات الوسطى الصاعدة بتاثير سياسات توسيع التعليم الرسمي وتوسيع القاعدة الاقتصادية للدولة في الثلاثينات نقل القومية العربية الى مستوى جديد من الهيمنة الشعبية عبر ربطها مع الاشتراكية وإضفاء محتوى اجتماعي عليها.
غير أن إنتهاء الناصرية بانتكاسة 67 كان بداية النهاية للمشروع القومي العربي وبداية خروجه من الساحة لافساح المجال لحركات الاسلامية، لكن هذا لم يعن نهاية القومية العربية، إنما تحولها بإتجاه جديد، فالقومية العربية الراهنة ربطت نفسها برهانات جديدة تحاول استكشافها وادخالها إلى بنيتها النظرية، فالديمقراطية والمجتمع المدني أمست من المقولات الجديدة التي أخذت مكانها في المسألة القومية ورهانها الحالي.
رغم أنّ الكتاب يقدّم عرضا وافيا لتاريخ الظاهرة القوميّة إلا أنّه يعاني عيبا أساسيا يشترك فيه مع جل المحاولات التأريخية للظاهرة القومية، وهي اقتصاره على النظر إلى تاريخ الظاهرة القومية باعتبارها تاريخا للنخب. فتاريخ الظاهرة القومية يقتصر على تاريخ المنظّرين القوميين والأحزاب القومية والتحوّلات الاجتماعية التي أصابت النخبة، ولكنّه لا ينظر إلى عامّة الناس، أو إلى تأثيرهم على الأقلّ، كقارئين للخطاب القومي.
لقد سبق لروش ميروسلاف أن قسم تاريخ الظاهرة القومية لدى الأمم الصغيرة إلى ثلاثة أطوار، الطور الثقافي اللغوي وهو ما يماثل عصر النهضة في الحالة العربية، والطور النخبوي لبداية نشوء سياسات قومية والتي تتوافق مع عهد الجمعيات والأحزاب، والطور الثالث الذي تتحول فيه الحركة القومية إلى حركة جماهيرية، فإن ما نلحظه في الكتاب الذي بين أيدينا أنه حتى لدى تناوله تاريخ الطور الثالث عربيا قصره على تأريخ السياسة بمعناه الضيق المقتصرة على نخبة الدولة أو باعتباره تاريخا للأحزاب القومية رغم الامتداد الشعبي للوعي القومي، لكن ماهي طبيعة هذا الوعي القومي لدى الناس العاديين وكيف فهموه وماذا عنت لهم تلك الشعارات القومية التي استقطبتهم إلى المجال العام فهذا مايغيب ليبقى لدينا الفهم الخاص بالنخبة القومية دون سواها.
الملاحظة الثانية تتعلق بغياب النموذج التفسيري للظاهرة القومية، فقد غلب العرض التاريخي على محاولة تقديم تفسير للظاهرة القومية مقتصرا في هذا على البدايات، فلا يبدو أنّ هناك إجابة مقنع لتعليل هيمنة (في حال كانت كذلك!) الوعي القومي على الشارع العربي وتحوّلها إلى القوة السياسية الأساسية. كذلك كان الحال فيما يتعلق بالإطار النظري الذي تمّ عرضه في البداية، فلم يحاول الكاتب تقديم جردة حساب للإسهامات النظرية التي استهلّ بها كتابه في الحالة العربية، مكتفيا بتقديم عدد من التقاطعات كما في حالة غيلنر وغربال أو بين أنتوني سميث وعبد العزيز الدوري، غير أنّ سؤال : ما هي القيمة التفسيرية لهذه النظريات على محكّ تاريخ القومية العربية، بقي دون إجابة.
الأربعاء يناير 29, 2014 7:54 pm من طرف فؤاد