حسين فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 473 معدل التفوق : 1303 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 18/12/2011
| | الاستشراق وأرخنة التراث | |
أعترف بأنّ موقفي يختلف كثيرا عن موقف كبار المثقفين العرب الذين أشعلوا المعارك ضدّ الاستشراق، مثل أنور عبد الملك وهشام جعيط وإدوار سعيد وآخرين عديدين. بل وصل بي الأمر بعض الأحيان حدّ التفكير في تأليف كتاب كامل بعنوان: دفاع عن الاستشراق، أو ثناء على الاستشراق. ولكن لم يتح لي الوقت الكافي له حتى الآن. هل أفعل ذلك من قبيل الاستفزاز؟ بالطبع لا. أقول ذلك رغم أنّ الاستفزاز ضروريّ أحيانا في مجال الفكر. فهو الذي يحرّك المياه الراكدة ويوقظ النفوس النائمة. ونحن العرب نائمون على التاريخ. لا ريب أنّي أتّفق مع بعض أطروحات المثقفين المذكورين آنفا. فالاستشراق (في بداياته خصوصاً) خدم التغلغل الاستعماريّ في المنطقة عن طريق الاستكشاف المعرفيّ لعقلية الشعوب الإسلامية وأوضاعها الاجتماعية والعرقية والطائفية، ثم تقديم هذه المعلومات المتجمعة إلى الإدارة السياسية كي تستفيد منها وتعرف كيف توجّه حملاتها العسكرية، أو كيف تتعامل مع هذه الشعوب التي ستستعمرها. وهنا تكمن العلاقة الوثيقة بين المعرفة والسلطة، كما كشفها ميشيل فوكو وسار على أثره من بعد ادوارد سعيد في كتابه الشهير. ولكنّ الاستشراق لم يكن هذا الشيء فقط كما يزعم الإيديولوجيون العرب. أقول ذلك وأنا أتحدّث عن الاستشراق الأكاديميّ الذي يلتزم شروط المنهج والاستكشاف العلميّ لأي موضوع، كان سواء كان يخص الإسلام أو المسيحية أو أيّ موضوع آخر. ولا يمكن اختزال فعل المعرفة إلى مجرّد علاقات سلطوية بحتة كما توهّم كثير من المثقفين عندنا. فهذا فهم تبسيطيّ لأطروحة فوكو بل ربما لفكر ادوارد سعيد نفسه. نقول ذلك رغم نواقص كتابه الشهير نظرا لكونه غير متخصّص في الدراسات الإسلامية وإنما في النقد الأدبي المقارن. وقد اعترف ادوارد سعيد في أواخر حياته بأنّ إرادة فهم الآخر إذا ما كانت صادقة تستبعد أيّ شكل من أشكال الهيمنة والاستعباد. فإرادة فهم الثقافات الأخرى من أجل التعايش معها أو حبّا للفضول المعرفي وتوسيع آفاقنا الفكرية شيء محمود ومرغوب. ولكن الايدولوجيا الاستشراقية لم تكن للأسف كذلك. هنا كان ينبغي أن يستثني بشكل أوضح أعمال كبار المستشرقين المتبحّرين في العلم، وهم أكثر مما يظنّ وممّن ذكر أسماءهم. فهؤلاء كانوا فعلا يريدون أن يفهموا الإسلام مدفوعين إلى ذلك بنزعة الفضول المعرفية البريئة التي تنطوي عليها جوانح كل إنسان، ثم من أجل المقارنة وفهم دينهم الخاص بالذات: أي المسيحية. ففهم الإسلام ضروري لفهم المسيحية والعكس صحيح أيضا. فلماذا إذن نشك في أي فعل للمعرفة ونعتبره علامة على السلطة أو التسلط والهيمنة؟ ألن نقضي بذلك على فعل المعرفة من أساسه؟ وما هو هذا الفهم المشوه لنظرية فوكو والذي ساد بعض المثقفين العرب؟ كثيرا ما نكرر المقولة الشائعة بأنّ الاستشراق الألماني، وهو من الأهمية بمكان، لم يساهم في هذه العملية التمهيدية للهيمنة الاستعمارية لسبب بسيط هو أنه لم تكن لألمانيا مستعمرات في العالم العربي. وذلك على عكس القوى العظمى الأخرى كفرنسا، وانجلترا. ولكن هذا لا يعني آن استشراق هذه الأمم الاستعمارية كله باطل وينبغي رميه في سلة المهملات أو في نار جهنم. فنحن مطالبون بان نفرق بالنسبة لاستشراق هذه القوى الاستعمارية، بين الاستشراق الأكاديمي عالي المستوى كما قلت، وبين الاستشراق الصحفي السريع أو المسيَّس أكثر من اللزوم أو حتى الانتهازيّ الرخيص. وإذا لم نقم بهذا التمييز فإننا نظلم الحقيقة والعلم، بل نظلم أنفسنا بالدرجة الأولى. فالاستشراق ليس بحاجة إلينا وإنما نحن الذين بحاجة إليه. والاستشراق الأكاديمي موجود لدى جميع الدول سواء أكانت استعمارية سابقا أم لا.. لا ريب في أن الاستشراق ملأ فراغاً علميا وفكريا فيما يخص دراسة الإسلام. فقد طبق المنهجية الفيلولوجية (أي اللغوية) والتاريخية على موضوعات كانت محرمة على البحث من قبل أرثوذكسية دينية صارمة وجامدة. فالمستشرق الألماني نولدكه هو الذي طبق المنهجية التاريخية لأول مرة على المصحف: أي على نص القرآن الكريم. أما غولدزيهر فقد طبق نفس المنهجية على كتب الحديث النبوي. وقل الأمر نفسه عن المستشرق جوزيف شاخت الذي درس الشروط (أو الظروف) الاجتماعية والسياسية التي أحاطت ببلورة الشريعة أو الفقه(1). واكتشفنا عندئذ عن تراثنا الفقهي صورة أخرى غير الصورة الشائعة لدى عامة المسلمين. وهكذا قدموا صورة تاريخية –أي واقعية حقيقية- عن موضوعات مقدسة جداً ولا يجرؤ أحد على مسها أو الاقتراب منها. ولهذا السبب أثارت أبحاثهم ردود فعل هائجة في أوساط المسلمين المحافظين الذين اعتبروا هذه الدراسات بمثابة هجوم على الإسلام، أو حتى محاولة لتدميره! لاحظ مدى الجهل، لكأن العلم يدمر ولا يعمر... والواقع أن رد فعلهم لا يختلف في شيء عن رد فعل المسيحيين التقليديين في أوروبا نفسها. فهم أيضاً احتجوا بعنف على أول محاولة قام بها المؤرخون والعلماء لدراسة الإنجيل والتراث المسيحي بشكل علمي وتاريخي وفيلولوجي(2). وبالتالي فإن المستشرقين لم يفعلوا إلا أن طبقوا على التراث الإسلامي نفس المنهجية التي كانت قد طبقت سابقا على التراث المسيحي وأثارت زوبعة من الانتقادات الهائجة لدى المؤمنين المسيحيين، بالمعنى التقليدي لكلمة إيمان بالطبع. أنظر ما حصل لارنست رينان في فرنسا مثلا بعد أن أصدر كتابه الشهير عن حياة يسوع(3). فقد قامت الدنيا ولم تقعد، وهدّده الأصوليون شخصيا ومنعوه من مواصلة دروسه الجامعية لفترة من الزمن. وخاف وتوارى عن الأنظار قليلا. وكذلك فعل سلفه الكبير فولتير أكثر من مرة.والواقع أن “الوعي الإيماني” في كلتا الجهتين الإسلامية كما المسيحية لا يستطيع أن يتحمل نتائج المنهجية التاريخية التي تمزق الصورة المثالية العذبة المرسخة في أذهان المؤمنين عن التراث المقدس منذ مئات السنين. وضعت الوعي الإيماني بين قوسين لان هناك فرقا بين الإيمان التقليدي والإيمان الحديث. الأول يؤمن عن طريق التسليم، والثاني عن طريق العقل. وشتان ما بينهما. نعم، إن تطبيق المنهج التاريخي على النصوص المقدسة وشخصيات الأنبياء صدم المؤمنين التقليديين في الصميم. وهذا ما نقصده بالعملية الجراحية الخطيرة أو بالنزيف الداخلي الحاد الذي سيحصل حتماً عندما نطبق المنهج التاريخي على دراسة التراث الديني الإسلامي. فالمسيحيون في أوروبا لم يستطيعوا استيعاب هذه العملية، أو بلعها إذا جاز التعبير، إلا بعد معارك طاحنة، وألم مرير، وصراع هائل ضد الذات. وقد استغرقت منهم عملية الاستيعاب هذه مدة طويلة (منذ مرحلة سبينوزا والتنوير وحتى أوائل القرن العشرين، أي مدة قرنين ونصف أو حتى ثلاثة قرون!...).فكم ستستغرق منا نحن المسلمين يا ترى؟ البعض يقول حتى أواخر القرن الحادي والعشرين لأنّ مشكلة الإسلام الأصولي السلفي مع الحداثة اندلعت الآن على مصراعيها. ولن تتوقف بالتالي حتى تصل إلى نهاياتها.وسوف تطحن عدة أجيال في طريقها قبل أن تجد لها حلا.. ثم تابع الجيل الثاني من المستشرقين، على خطى أسلافهم، نفس العملية الاستكشافية للتراث الإسلامي. فقدم المستشرقان روبير برونشفيغ، وجينبول أبحاثاً مهمة عن كيفية التشكل التاريخي الفعلي للحديث النبوي(4). وأكّدا صحّة بعض النتائج التي كان المستشرقون الأوائل قد لمحوها أو توصلوا إليها. وغربلا هذا الحديث غربلة شديدة فلم يبق منه في نهاية المطاف إلا القليل.. أمّا فيما يخص سيرة النبي الكريم وتقديم صورة تاريخية عنه فقد ظهرت عدة كتب في اللغات الاستشراقية الأساسية: كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وسواها. ولكنها بالغت في نزعتها الوضعية أو العلموية الاختزالية أحيانا. صحيح أنها حاولت أن تقدم، لأوّل مرة، صورة تاريخية عن شخصية النبي محمد. وهذا شيء مهم جدا بالطبع. ولكنها وقعت في التطرف المقابل للتطرف الذي وقع فيه المسلمون التقليديون. بمعنى أنه بقدر ما كان المسلمون يهملون حقائق التاريخ ويقدمون صورة تبجيلية –أو لاتاريخية- أو حتى أسطورية مضخمة عن شخصية النبي، بقدر ما كان المستشرقون يقدمون صورة مغرقة في التاريخية والوضعية ونزع القدسية عن شخصية كبرى من شخصيات التاريخ البشري. ينبغي أن نذكر هنا كتاب بلاشير المدعو “مشكلة محمد”(5) حيث كشف عن الاتجاهات التبجيلية في سيرة ابن إسحاق وابن هشام. وهذا شيء مفيد دون شك، ولكنه ليس كافياً من الناحية المنهجية لعلم التاريخ الحديث. كما ينبغي أن نذكر ذلك الكتاب الشهير الذي منع في القاهرة قبل بضع سنوات وأثار ضجة وردّ الفعل العنيف من طرف الأصوليين المصريين والعرب عموما. وأقصد به كتاب “محمد” لمكسيم رودنسون(6). ولكنّ المؤلف بالغ في التحدث عن “النبي المسلّح”، وفي إثارة مشاكله النفسية والأزمات الحادة التي كان يتعرض لها..فهل يعتقد رودنسون أنّ الأنبياء يمكن أن يكونوا أشخاصا طبيعيين مثلهم مثل بقية البشر؟ شيء عجيب، ولكن لا يدهشنا لأنه صادر عن مفكر وضعي، مادي، بحت، لا يمكن أن يفهم المخاضات السيكولوجية الداخلية للعباقرة الكبار. فمحمد هو من الشخصيات الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ البشري. إنّه إحدى العبقريات الدينية النادرة في التاريخ. وبالتالي فلا يمكن أن تكون تركيبته النفسية مثل بقية البشر. هذا لا يعني بالطبع إنكار أهمية كتاب رودنسون بصفته دراسة سوسيولوجية تاريخية دقيقة للبيئة التي ظهر فيها الإسلام. ولكن في مواجهة هذه المبالغات المادية التي لا تفهم العمق الروحاني لشخصية نبي الإسلام، والتي وقع فيها الملحد الماركسي رودنسون نجد مستشرقين آخرين يقدمون صورة عن النبي أكثر امتثالية، أو قل أكثر وصفيّة وحيادية وبرودة. ولكنها أكثر تفهّما للجانب الروحي من شخصية النبي الأعظم. وهؤلاء يفضلون التوقف طويلاً عند تصوير الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في مكة وشبه الجزيرة العربية أثناء ظهور النبي أو قبيل ظهوره بقليل. نذكر من بينهم المستشرق الإنجليزي المشهور مونتغمري واط وكتابيه المعروفين والمهمين: محمد في مكة، ومحمد في المدينة. وعموماً فإن المستشرقين المغالين في المنهجية الوضعية كانوا يحاولون تقديم صورة عن “محمد” مضادة تماماً للصورة المقدمة عن يسوع المسيح. فإذا كان المسيح يمتاز بالعفّة والابتعاد عن الشهوات الجنسية، فإن نبي الإسلام في تصورهم كان شهوانياً يحب النساء ويكثر من عدد الزوجات. وإذا كان المسيح مسالماً، بل ويقول “من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر”، فإن “محمد” كان محارباً يخوض المعارك والغزوات. وإذا كان المسيح روحانياً يدير ظهره للحياة الدنيا ويقول “مملكتي ليست هذا العالم”، فإن النبي كان سياسياً من الطراز الأول... وهكذا راحوا يقدمون صورة اختزالية ناقصة تهمل الأبعاد الروحية العالية التي كان يتميز بها نبي الإسلام الكريم. وربما صفوا حساباتهم العتيقة مع الإسلام ونبيه بهذه الطريقة.. وهي حسابات تعود إلى القرون الوسطى. من هذه الناحية ينبغي أن ننقد الاستشراق وننتبه إلى مزالقه. مهما يكن من أمر فإن صورة النبي أو سيرته ينبغي أن تعاد كتابتها من جديد بحسب رأي بعض الاختصاصيين الكبار. وينبغي أن تكون متوازنة روحيا وماديا. ينبغي تطبيق أحدث منهجيات علم التاريخ الحديث على شخصية النبي وفترته وبيئته من أجل تقديم صورة متوازنة عن حياته: أي صورة لا تختزل أحد الأبعاد لصالح البعد الآخر. وهذه المنهجية تدعى بعلم النفس التاريخي. وقد بلورها الأقطاب الكبار لمدرسة الحوليات الفرنسية كلوسيان فيفر وجورج دوبي وجاك لوغوف. وهي تهتم بدراسة منشأ المخيال الديني ووظائف هذا المخيال في فترة ما وبيئة ما. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين منهجية علم التاريخ الحديث والمنهجية الوضعية التي يتبعها معظم المستشرقين. وبالتالي فالصراع مع المستشرقين ينبغي أن يكون منهجيا، أو معرفيا ابستمولوجيا، وذلك على عكس صراع المثقفين العرب الآخرين الذي هو إيديولوجي-سياسي بالدرجة الأولى. صراعنا مع الاستشراق عميق وليس سطحيا. فنحن لا نعيب على المستشرقين تطبيق المنهجية التاريخية على التراث العربي الإسلامي. على العكس تماما، إننا نشكرهم على ذلك. وإنما نعيب عليهم أنهم توقفوا في منتصف الطريق. إننا نعيب عليهم توقفهم عند المنهجية الفيلولوجية-التاريخية أو الوضعية الاختزالية التي تعود إلى القرن التاسع عشر. ونقول لهم بأنها لم تعد كافية على الرغم من أهميتها وإنما ينبغي أن نضيف إليها منهجيات العلوم الإنسانية أو الاجتماعية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين: كعلم الألسنيات، وعلم الأنتروبولوجيا، وعلم الأديان المقارنة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وبالأخص علم التاريخ على طريقة مدرسة الحوليات الفرنسية التي قلبت مناهجه رأسا على عقب وجددته بشكل جذري راديكالي. هنا يكمن الخلاف الأساسي بيننا وبين الاستشراق. انه خلاف يتموضع أساسا على الأرضية الابيستمولوجية لا على الأرضية الايديولوجية. وقد آن الأوان لكي ينتقل الفكر العربي من المرحلة الايديولوجية، مرحلة الصراخ والشعارات، إلى المرحلة الابيستمولوجية ذات المسؤولية المعرفية الرصينة. بمعنى آخر فإننا لا نستطيع أن نقدم صورة متكاملة وصحيحة عن التراث الإسلامي أو المجتمعات الإسلامية إذا ما اكتفينا بالمنهجية التقليدية للاستشراق. لا ريب أنها مفيدة بل وضرورية كمرحلة أولى. ولكن ينبغي أن نتجاوزها بعدئذ إلى ما بعدها أو ما وراءها. فالعلم تقدم كثيرا في السنوات الأخيرة وكذلك المناهج والمصطلحات والنظريات. ولكن الاستشراق توقف وجمد عند نفس المنهجية. ولذلك أقول: هنا ينبغي ان نحدث ثورة في الدراسات العربية-الإسلامية تشبه تلك الثورة التي أحدثها كبار مفكري فرنسا في مجالاتهم الخاصة. نذكر من بينهم جان بيير فيرنان ودراسته للفكر الإغريقي، أو المؤرخ الكبير لوسيان فيفر ودراسته للتراث المسيحي، أو الفيلسوف ميشيل فوكو ودراسته لأنظمة الفكر المتعاقبة على الغرب والقطيعات الابستمولوجية التي تفصل بينها، أو عالم الاجتماع بيير بورديو، الخ... لكن هذا التجديد المنهجي الكبير لا يمنعنا من الاعتراف بفضائل المستشرقين الكبار والخدمات الجليلة التي قدموها للتراث الإسلامي. فهم الذين حققوا كتب التراث تحقيقا علميا موضوعيا. ولو لم يفعلوا غير ذلك لكفاهم فخرا. وبالتالي فيحقّ لنا أن نعيب على المسلمين أو العرب رفضهم الكامل لمنجزات الاستشراق الأكاديمي حتى قبل أن يطلعوا على أبحاثه ويتفحصوها. يحق لنا أن نلوم أنفسنا على هذه الخفة العلمية أو الاستهانة بأبحاث الآخرين. ينبغي أن نعترف هنا بالتأخر الكبير الذي يعاني منه المسلمون في دراستهم لتراثهم وماضيهم بالقياس إلى الأبحاث العلمية الاستشراقية المتركزة على هذا الماضي بالذات. بل وهناك ما هو أسوأ من ذلك. هناك قطاع واسع من الرأي العام الإسلامي المحافظ، بل والظلامي، الذي يرفض تطبيق المناهج التاريخية الحديثة على التراث. ولا يزال يلهي نفسه أو يضيع وقته في إدانة الاستشراق وعدائيته المزعومة ومؤامراته التخريبية المتوهمة ضد الإسلام! نقول ذلك في حين أن الأبحاث الاستشراقية الجادة ينبغي أن تُترجم فوراً إلى اللغات الإسلامية الأساسية: كالعربية، والفارسية، والتركية، والأوردو، والاندونيسية وسواها لكي تحرر الوعي الإسلامي من التصورات الخاطئة أو العتيقة البالية التي عفى عليها الزمن. ينبغي أن تُترجم كل مؤلفاتهم الكبرى لكي يحصل تفاعل علمي خصب بين بحّاثة المسلمين وبحّاثة المستشرقين فيما يخص موضوعات مهمة كتاريخ الحضارات والثقافات، أو كالأنتروبولوجيا المقارنة بين الحضارات والثقافات والأديان. عندما نلقي نظرة سريعة على قائمة المراجع المرفقة بكل بحث من البحوث الاستشراقية الجادة نفاجأ بغياب أي مرجع عربي أو إسلامي عنها، وذلك ما عدا استثناءات قليلة. ولا يعود ذلك إلى جهل المستشرقين بأبحاث المثقفين المسلمين أو العرب، ولا إلى تعجرفهم وتعاليهم عليهم كما يتوهم البعض، وإنما إلى ندرة البحوث العلمية الجادة في الجهة العربية الإسلامية بكل بساطة. فقليلا من التواضع إذن أيها المثقفون العرب والمسلمون! نحن لسنا إلا تلامذة في مدرسة الاستشراق الكبير. انه لعجيب وغريب أمرنا: فنحن نرفض ان ندرس تراثنا دراسة علمية-تاريخية، ونريد في ذات الوقت أن نمنع الآخرين من القيام بذلك! وبدلا من ان نشكر الاستشراق على خدماته الجليلة إذا بنا نصب جام غضبنا عليه ونمضي الوقت كله في لعنه وشتمه. وقد كان الأجدر بنا أن نمضيه في إنتاج البحوث العلمية الجادة عن تراثنا الإسلامي كما يفعل المستشرقون الكبار. لندخل ساحة البحث العلمي إذن بدلا من النعيق والزعيق.. لكي نقدم فكرة سريعة عن الخدمات الجليلة التي قدمها الاستشراق للتراث العربي الإسلامي يكفي أن نذكر الموسوعة الإسلامية في طبعتها الثانية المحدَّثَة. وهي تشكل كنزاً لا ينفذ من المعلومات التاريخية المدققة والمحققة عن كافة جوانب التراث وشخصياته وأحداثه وعقائده وفرقه وتياراته.. ويكفي أن نذكر الموسوعة القرآنية التي اكتملت مؤخراً والتي ساهم فيها عشرات الباحثين من مستشرقين وعرب ومسلمين يدرسون في الجامعات الغربية. وقد تعرضت كل كلمة من كلمات القرآن فيها إلى دراسة لغوية وتاريخية معمقة تكشف عن أصلها وفصلها وتربطها ببيئتها الأصلية في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. وكذلك تربطها باللغات السامية الأخرى المشابهة للعربية. وقد نتجت عن هذا العمل الكبير إضاءة رائعة للنص القرآني فأصبحنا نفهمه بشكل جديد ونراه بعيون جديدة(7). أصبحنا نفهمه على حقيقته وبكل أبعاده. ويكفي أن نذكر ذلك المشروع الفكري الكبير الذي أنجزه كبير المستشرقين الألمان جوزيف فان ايس. وقد نشر في برلين بين عامي 1991-1995 في ستة أجزاء. وهو يحمل العنوان التالي: “اللاهوت والمجتمع في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. تاريخ الفكر الديني في بدايات الإسلام”. ويعتبر هذا الكتاب بمثابة فتح كبير في مجال الدراسات العربية الإسلامية. فلا يمكن أن نفهم كيف تشكلت العقائد والفرق الإسلامية الأولى إلا إذا استشرناه أو عدنا إليه. إنه بحث أركيولوجي - تاريخي يحفر في عمق أعماق التراث الإسلامي. وبالتالي فإنه يحررنا من الكثير من التصورات الخاطئة التي نمتلكها عن تراثنا وعقائدنا ومذاهبنا لأنه يقدم لنا، ولأول مرة، صورة تاريخية عنها. وهي غير الصورة التبجيلية أو التقديسية التي تهيمن على وعي ملايين المسلمين منذ مئات السنين. ولا نملك هنا إلا أن نتساءل: لماذا لم يترجَم هذا الكتاب حتى الآن إلى اللغة العربية؟ ما هي الأسباب السياسية أو الثقافية أو الدينية التي لا تزال تعرقل ترجمته؟ ولمصلحة من يتم ذلك؟ أليس لمصلحة المحافظين الجامدين أو الأصوليين المتزمتين؟ أليس لمصلحة التخلف العربي؟ لقد أصبح هذا الكتاب ضرورياً لكل من يريد أن يواصل البحث ويوسعه حول تلك الفترة الأساسية بل والحاسمة من تاريخ الإسلام. ونقصد بذلك فترة القرون الهجرية الثلاثة الأولى. فلو كانت الكشوفات المضيئة والتحليلات الدقيقة التي يتضمنها هذا الكتاب الضخم معروفة بالنسبة للجمهور الإسلامي أو العربي لاختلف الأمر كلياً، ولاستطعنا حلّ مشكلة الصراع المذهبي بين السنة والشيعة والإباضية بشكل صحيح وفعال. كل المشاكل المذهبية كانت ستُحل من تلقاء ذاتها بعد أن انكشفت جذورها الدفينة وأعماقها التاريخية. ومعلوم أنها توشك أن تمزقنا الآن تمزيقا من اليمن إلى العراق مرورا بالخليج العربي وسوريا ولبنان وحتى إيران وأفغانستان، والحبل على الجرار.. لو ترجمنا هذا الكتاب وكل البحوث التجديدية الرائدة عن التراث لكنا استطعنا تحجيم حركات التزمت والتعصب والجهل التي تسيطر علينا الآن. وأخيراً لكنا استطعنا تجاوز الحروب المذهبية والطائفية المستترة أو العلنية التي تهدد وحدتنا الوطنية وتكاد تشعل الحروب الأهلية في كل مكان. العلم هو الذي يحرر وليس الجهل. ونحن ينقصنا الآن علم كثير وايديولوجيا أقل. وقد سمعنا أنّ الأتراك يترجمونه أو قد ترجموه وربما الفرس أيضا، ولكن ليس العرب! نعم إن الاستشراق الأكاديمي الجاد ساهم في أَرْخَنَة الفكر الإسلامي بعد أن كان مغموساً بالمسلمات اللاهوتية التقديسية والغيبيات من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. وهي المسلمات التقليدية الموروثة عن العصور الوسطى الانحطاطية والتي تغطي على تاريخيته وتجعله يبدو وكأنه فوق التاريخ كليا، أو يتعالى على التاريخ، أو حتى لا علاقة له بالتاريخ. وهنا تكمن الميزة التحريرية الكبرى للبحوث الاستشراقية. (أفتح قوسا هنا وأقول بأني كنت أنا شخصياً قد اخترعت هذا المصطلح الجديد “الأرخنة” كمقابل للمصطلح الأجنبي historicisation). ولذلك نقول: أرخن، يؤرخن، أرخنةً. وهو مصطلح مهم جداً ومرشح للانتشار السريع لأنه يلبّي حاجة ماسة للثقافة العربية. أو على الأقل هذا ما اعتقدته وربما كنت واهما أو مخطئا. وعلى أيّ حال فلا يهمّ من هو أوّل من اخترع المصطلح أو لم يخترع. المهم أن نخترع مئات وآلاف المصطلحات الجديدة لكي تساير لغتنا تطور العلم والفكر). فنحن دخلنا الآن مرحلة الأَرْخَنَة: أي مرحلة التحرر من الصورة التقليدية التي تطمس عادة الوقائع التاريخية أو تحولها إلى غيبيات وأساطير مضخمة. وابتدأنا ندخل رويدا في المرحلة التاريخية. كل ما ضخّموه وبجّلوه ونزعوا عنه صبغته التاريخية سوف نضطرّ إلى الكشف عن تاريخيته وواقعيته وماديته. وهي عملية لها أوّل وليس لها آخر. وربما استغرقت القرن الواحد والعشرين كله أو حتى منتصفه على الأقل. وسوف ترافقها أكبر عملية تحرير للوعي الإسلامي في تاريخه كله. وهذا ما ندعوه بالتنوير. ولذلك نقول أَرْخَنَة على سبيل المصدر أو أَرْخَنَ الشيء، يُؤرْخِنه على سبيل الفعل. كلّ تصوراتنا عن التراث بحاجة إلى أرخنة في الوقت الحاضر. وبخصوص الأَرْخَنَة ينبغي ألا ننسى الإشارة إلى مرجع مهم جداً أيضاً. وكان قد صدر في باريس قبل بضع سنوات تحت عنوان: “رب القبائل - إسلام محمد”(8). وهو من تأليف الباحثة الفرنسية التي كانت متزوّجة من شخص تونسي والتي تُدعى جاكلين شابي. وقد قدمته في الأصل كأطروحة دكتوراه دولة تحت إشراف المؤرخ المشهور كلود كاهين. والكتاب كله ليس إلا محاولة راديكالية لأرْخَنَة الخطاب القرآني. من هنا أهميته وشحنته التحريرية الهائلة للعقود المقبلة من السنين. ولا أعتقد شخصياً أن ترجمته إلى اللغة العربية ممكنة حالياً لأنّ الوعي الإسلامي غير مهيأ لاستقباله أو تقبّله. مهما يكن من أمر فإنّ أبحاث الألماني فان ايس والفرنسية جاكلين شابي وسواهما من المستشرقين الأكاديميين قدمت لنا درساً بليغاً في إصباغ الصبغة التاريخية على الفترة التأسيسية الأولى للإسلام. نقول ذلك ونحن نعلم أن مؤرّخي العصر العباسي كانوا قد نزعوا كل صبغة تاريخية عن هذه الفترة بالذات فجعلوها تبدو نموذجية مثالية مقدسة تتعالى على كل ما هو بشري أو أرضي أو تاريخي. وهذا ما فعله المسيحيون أيضا مع تراثهم، ينبغي ألا ننسى ذلك. هكذا نجد أن عملية الأَرْخَنَة لن تكون سهلة ولا ميسورة، لأنها سوف تصطدم بعقبات نفسانية راسخة في أعماق الوعي الإسلامي. والمعركة مفتوحة... الهوامش: | |
|