حسين فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 473 معدل التفوق : 1303 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 18/12/2011
| | العقل والقضيب ديريدا قارئا “أرشيف” الميتافيزيقا | |
“أما عن التقليد الفلسفيّ الخالص لهذا التراث”المركزي القضيبي“فإنّه يتجسّد بأشكال مختلفة أكيد، ولكن متساوية، عند أفلاطون كما عند فرويد أو لاكان، عند كانط كما عند هيغل، عند هايدغر كما ليفيناس، أو على الأقلّ هذا ما اجتهدت في بيانه” - جاك ديريدا - عندما يتجرّد ديريدا للحديث عن الفكر المعاصر وعن المفكّرين الذين طبعوا في نظره مسار هذا الفكر، فهو يعرض بين ما يعرض من أسماء لسيغموند فرويد، ففرويد ونيتشه في الفلسفة عنده، إضافة إلى نيتشه وعزرا باوند ومالارمي في الأدب، هما من المفكرين القلائل الذين استطاعوا التحرّر، ولو بدرجات متفاوتة، ممّا يسمّيه بـ“مركزية العقل” logocentrisme (1). ما يبينه هذا الأمر هو أنّ موقف ديريدا العامّ من فرويد ومن التحليل النفسي إيجابيّ جدّا، بل يصل أحيانا درجة الافتتان، ففرويد عنده هو المفكّر الذي استطاع أن يخلخل الأساس الميتافيزيقيّ للعقل الغربيّ، حتى أنه لا يمكن لأحد اليوم أن يفكّر “خارج” فرويد، وهذا الأمر لا يتبدّى فقط في الجهد الذي بذله للكشف عن خبايا هذا العقل وتعرية ما يسكنه من مفارقات، بل يتوضّح أكثر فيما يتيحه من إمكانيات وما يفتحه من أفق لـ“وعي” كلّ أشكال ونظم التفكير والخطاب، وفي هذه النقطة بالذات، يقف ديريدا للاعتراف بدينه الشخصي تجاه فرويد الذي كان هو من مكّنه، في تقديره، من تجاوز فكرة “الحضور” عند هوسرل، ومن تجاوز التراث الفينومينولوجيّ بشكل عامّ، وهو التراث الذي كان مهيمنا على مجموع الفلسفة في فترة شبابه وتكوينه. (2) وهذه الأهمّية التي يحتلّها التحليل النفسيّ عنده، وهذه القيمة التي يأخذ، لم تمنعاه من أن يتوجّه له بالنقد، إذ أنّ ما يبدو فيه فرويد قويا وحاسما، هو نفسه ما يجعله في أحايين أخرى، محدودا ومحتبسا، وهذه واحدة من مفارقات الخطاب التحليليّ. تبدّت هذه المسألة لديريدا بشكل واضح، حسب ما ينقله، في بداية الستينات، عندما بدأ الاشتغال على مفهوم “المركزية القضيبية”(Phallocentrisme)، وهي الفترة التي شغلت سنوات (1963-1965)، في هاته الفترة، يقول ديريدا، اكتشفت إلى أيّ حدّ يبقى فرويد محدودا في نقده (3)، متمسكا بمسلّمات الميتافيزيقا الضمنية، ففرويد لا يتحرّر من “المركزية العقلية” كلية، لأنه لا يتحرّر من “المركزية الصوتية”، ومن ثمّة لا يتحرّر من “المركزية القضيبية”. قد يبدو هذا الأمر غريبا إذا علمنا أنّ المبحث الذي نحت داخله مفهوم “القضيبية” هو التحليل النفسيّ نفسه، غير أنّ هذا السبق والفضل لم يمنعا التحليل، من منظور ديريدا، من الوقوع في هذه النزعة، بل والبلوغ بها درجات عليا، كما كان عليه الأمر مع لاكان على ما سنرى. لماذا لم يستطع التحليل النفسي تجاوز هذا الحد في تصوّر ديريدا؟ لماذا لم يستطع رغم حسّه النقديّ الرفيع أن يتحرّر من هذه المركزية؟ لأنّ القضيب عند ديريدا، هو “المرجع” و“المسلّمة” القبلية التي حكمت كلّ التراث الفكريّ والثقافي الغربيّ، حتى تلك الأكثر نقدية فيها. “صيدلية” أفلاطون : من المشهور عن ديريدا أنّه فيلسوف التفكيك، والتفكيك إن أردنا التبسيط هو الجهد النظريّ الذي يسعى لتكسير فكرة الأصل والإحالة عن طريق تحرير النصوص من مرجعية الذات والقول. هذا الأمر لا يتأتّى في نظره ولا يتيسّر ما لم نتحوّل للنظر إلى النصوص في ذاتها، أي من حيث هي جملة “آثار” يكون النص فيها مرجعية ذاته، وليس القول أو الذات المتكلمة. غير أنّ الغاية الأخيرة من هذا المشروع “القرائي” ليست هي هذه تحديدا، أي قراءة النصوص في ذاتها وحسب، بل هي الكشف عن المسلمات الأخلاقية التي حكمت مصير الفكر والثقافة الغربيين، وهي المسلمات التي لا تفهم عنده إلا في استنادها على جملة مركزيات، أهمها“المركزية العقلية” و“المركزية الصوتية”، وهاتان المركزيتان هما صورة في النهاية عن مركزية ثالثة هي المسماة بـ“القضيبية”. ما المقصود بالمركزية القضيبية، وفي ماذا تتجسد؟ يمكن تعريف “المركزية القضيبية”، باختصار شديد، بكونها التفكير بالاستناد على المرجعية الرمزية للقضيب. بحسب هذه المرجعية يصير “الذكر” صاحب القضيب، صورة الإيجاب، وتصير الأنثى صورة السلب. وإذا ما أخذنا القضيبية بهذا المعنى، يقول ديريدا، فإنّ مجموع التراث الميتافيزيقي الغربي سيكون قضيبيا، وستكون مركزية القضيب هي الأساس الذي تقف عليه، وسيكون مشروعه هو(ديريدا)، من ثمّة، هو الكشف عن معالم حضور هذه المركزية، ومعها المركزية العقلية والصوتية. وكون المركزية القضيبية هي الأساس الذي يستند عليه مجموع نظام الوعي الغربي، لا يتبدّى فقط في مسلّمات هذا الوعي الظاهرة، أو مسلّمات صورته الوثوقية عن الفكر (كما يسمّيها دولوز)، والمتمثلة في أولوية العقل والحضور والمعنى والروح والطبيعة بشكل عامّ، بل يتجلّى خصوصا في تصوّره “الأبوي” عن العالم، وفي الترتيب المعماريّ الهرميّ الذي تتحدّد داخله الموجودات، فمركزية القضيب هي ما يجعل الخطاب الفلسفيّ والأخلاقيّ ممكنين في النهاية.(4) إذا ما تأملنا ميتافيزيقا أفلاطون، فإننا سنجد بأنها تنبني على افتراض مفاده وجود توافق قبليّ وضمنيّ بين اللوغوس والعالم، وإدراك هذا التوافق والوعي به هو مفتاح الحقيقة والسعادة. بناء على هذه المسلّمة تتأسّس مسلّمات أخرى، أشهرها مسلّمة الأصل، فدفاع أفلاطون في نصّ السوفسطائي عن الإيقونة ضدّ السيمولاكر مثلا(5)، هو دفاع عن الأصل ضدّ النسخة الخائنة للأصل؛ عن الحقيقة ضدّ الخطأ؛ عن الكلام ضدّ الكتابة؛ عن الصوت ضدّ الخطّ، ولهذا كان أفلاطون مثاليا وليس تجريبيا، إذ أنّ هناك توافقا داخليا عميقا، وتكاملا متينا، في نظر ديريدا، بين المثالية والكلام، وبين التجريبية والكتابة. أفلاطون كان يكره الكتابة لأنّ الكتابة تشوّش على “تراتب العالم وتناغمه”، تشوّش على الأصل وتنسينا إياه، فالكتابة عقوق، وهذه هي الصورة التي ظلّت سائدة وبصيغ مختلفة، إلى حدود هيغل، فالمنطوقات عند أرسطو مثلا هي “علامات الروح”، لأن الصوت عند أرسطو هو على صلة دائمة بالروح، على عكس الحروف المكتوبة(6)، كذلك هو الشأن مع ديكارت، فالكوجيطو لا يمكن أن يفهم إلا على أساس أولوية المعنى وتعالي الأصل الذي هو الصوت، لهذا “فاللوغوسنتريزم” هو في الحقيقة “فونوسونتريزم”، فالكلمات هي تعالي على الأشياء واستحضار فوقيّ لها، والصوت هو ما يضمن هذا الحضور؛ وبالتالي فإنّ “الفوكس- الكلمة”، وحدة الصوت والمعنى، هي ما يحدّد المفهوم ويقرّر المدلول. وليست التقنية، على عكس ما قد يظنّ، بخارجة عن هذا المنطق و“الاقتصاد الفكريّ”، فالتقنية هي، عند ديريدا، التكملة العملية لطموح اللوغوس في تسمية الأشياء وضبطها، فتيكني (τέχη) أصلها فوني (φυνη)، من حيث أنّ التقنية هي محاولة تمثّل للأشياء وتحريض فوقيّ لها، تماما كما أن الميتافيزيقا، بالكلمة، تحاول أن تدجّن الموجودات و تسيطر عليها. (7) لا تظهر هذه الخاصية في ما هو فلسفيّ وتقنيّ فقط، في تصوّر ديريدا، بل تظهر أيضا في ما هو جماليّ، ففي معمارية كانط الاستطيقية، العالم هو صورة عن مخطط إلهي ينعكس في الإلهام، فالطبيعة تلهم الفنان بما يوشوشه صوت الإله، فالله هو مهندس الكون، واللوغوس هو مفتاحه، وهذا التماثل هو ما يعطي للفنّ، وفي سياق آخر القيم، أساسهما، ولهذا فإنّ النظرية الجمالية الكنطية هي على الحقيقة “لوغو-أرخي” (logoarchie). الأصل إذن والمرجع في مجموع الفكر الغربي هو اللوغوس، وهذا ما لم يستطع تجاوزه حتى كانط. لكن لماذا الأمور هي بهاته الصورة؟ لماذا ينبغي أن نفترض التناغم والضمان والأصل والتطابق والحضور ابتداء، وليس الفوضى والخيانة والتيه؟ لأنّ اللوغوس هو صورة عن الفالوس، فالأصل هو الأب، الأصل هو الخير الأعمّ أو الله. فما يجعل الحقيقة ممكنة في إطار الصورة الوثوقية للفكر، وما يجعل الصواب ممكنا ومضمونا، هو التراتب الأبويّ للعالم، أي الخطاب الأبويّ الذكوريّ، فخلف الكلام نجد الأب، ولا إمكان تأسيس أيّ دلالة أو تأويل أو أصل إلا بافتراض فكرة “الأب – الفالوس” هذه(8)، فالتسمية، كما التقنية، كما التركيبات الثنائية الكبرى من مثل اللوغوس والميتوس، كما الرغبة في إدراك الحقيقة، كما فرضية الدلالة الأولى، كلها عائدة لمرجعية القضيب وأولويته؛ بل إنّ المنطق نفسه، ليس سوى “صورة الأب الميت في الخطاب”. وهذه المركزية القضيبية هي ما يتحوّل ويعبّر عن ذاته في مركزيات أخرى كتلك المتعلقة بالصوت، وفي هذا السياق كما قلنا، ينبغي فهم أولوية الكلام على الكتابة عند أفلاطون، فالدفاع عن الكلام عند أفلاطون هو في الحقيقة دفاع عن الأب ضدّ عقوق الابن، وفي النهاية دفاع عن القضيب كمرجع، وبناء على هذا الأمر أيضا ينبغي فهم مشروع ديريدا وعمله، ومحاولته تكسير الكلام بالكتابة والقول بالنص، أي في رغبته في التفكير خارج كل “أبوّة” للقول أو الذات، فالاشتغال على النص والكتابة، هو في الحقيقة اشتغال للتحرّر من “الأب” ومرجعية القضيب، لأنّ الكتابة والأثر هما ما يفجّر فكرة الأصل ويحلّها، ويخلخل التراتب التناغمي للعالم (9). اللوغوس ليس محايدا إذن، بل هو تقاطع لتصور ميتافيزيقي مع ثقافة تقول بالذكورة والأبوة و القضيبية “كجنس” للوجود، والحال أن الوجود هو عند ديريدا ما لا جنس له، هو “خورا” باليونانية (χώρα) (10)؛ هو بالضبط ما سعى أفلاطون إلى تجاوزه في محاورة “تيماوس”. نظام اللوغوس هو نظام توازنات قضيبية وصوتية وعقلية تفترض ذاتها باعتبارها الإمكان الوحيد في الفكر، والحال أنّ هذا ما هو إلا إمكان من بين إمكانات لا حدّ لها، فاللا تناهي في الإحالة، وغياب النسخة الأصل، هي المبدأ في كلّ شيء، إذ لا وجود لمعنى أوّل لأيّ شيء، تماما كما هو الحال في اللغة مع بيرس، حين يقول بأنّ هناك فقط الدلالات التي يتراكم بعضها فوق بعض، وليس هناك أبدا إحالات أولى مؤسّسة.
التحليل النفسي للتحليل النفسي: ينتهي كل من يتمرس بنصوص ديريدا ويدرك مراميه إلى نتيجة لا نظنّ أنّ الرجل سيقبل بها، وهي أنّ فلسفته هي على الحقيقة نوع من“التحليل النفسي” لتاريخ الفلسفة الغربية، تحليل يروم كما تقدم، أن يبيّن بأنّ هذا التاريخ يتأسّس على مسلّمات ضمنية خفيّة لا يدركها، هي أولوية الصوت وغائية الحقيقة ومرجعية الأصل، وهذه كلها في الأخير صورة من عناية الأب الذكر المالك للقضيب. لماذا سيرفض ديريدا هذا التوصيف؟ لأنه يعتقد أنّ التحليل النفسيّ نفسه واقع تحت طائلة هذه الرؤية القضيبية، بل هو يبلغ بها، كما الحال مع لاكان، مراتب قصوى، فصورة لاكان هي صورة المفكّر و“الخطاب الممتلئ” (La parole pleine)، وامتلاؤه هذا لا يأتيه من أسس الميتافيزيقية التقليدية، بل يأتيه من مرجعيته “الذكورية”. صحيح أنّ التحليل قد تنبّه لأهمية القضيب في التصور الميتافيزيقي، لكنه عوض أن يهدمه جعل منه، دون وعي منه، أساسا من أسسه، فالليبيدو هو في التحليل النفسي ذكوريّ دائما، والجنس عند لاكان يصرف بصيغة الذكورة، على هذا الأساس ينبغي فهم الأوديبية وفهم قلق “إخصاء القضيب” وفهم الإحساس بـ“غياب القضيب” والرغبة في تملّكه عند الفتاة، فالأصل في الوعي عند لاكان، بحسب قراءة ديريدا، هو جدل “أن أكون قضيبا أو لا أكون”، أي أن أكون موضوعا للحبّ أو لا أكون؛ القضيب هو معيار الدلالة، بل هو “الدلالة المتعالية”Signifiant transcendantal) (الدلالة التي يتحدد بحسبها وعي الجنسين، المتعالي الأوّل الأوحد الذي تستمدّ منه كلّ دلالة قيمتها (11)، القضيب هو مدار الرغبة، جدل الرغبة والتحدد كجنس (أكون أو لا أكون القضيب) ولو أنّ الرغبة عنده (لاكان) تبقى فارغة لا تعود إلى أصل. ليس الغرض عندنا هنا أن نقف عند هذه النقطة تحديدا لنحقّق في مدى حجّية قول ديريدا في لاكان، فهذا مستوى ثانٍ في النقاش، وموقف لاكان ليس مما يمكن تلخيصه في فقرات صغيرة، خصوصا وأنّ فلاسفة ومحلّلين آخرين نهضوا بالردّ على ديريدا وبيان حدود نقده(12) بل غرضنا هو أن نفهم مقصود ديريدا بـ“النزعة القضيبية”، ومنطق اشتغالها وعلاقتها بالفكر والثقافة والتاريخ، وأن نفهم أنّ هذه الدلالة والمنطق قد تسرّبا في نظره إلى كل أنماط التفكير الغربيّ، بما فيه التحليل النفسيّ، وهذا ما يفسّر موقفه الإشكاليّ من التحليل النفسيّ؛ ما يفسّر افتتانه الكبير بما فتحه هذا الفكر من أفق، ونقده أيضا لما شابه من “ذكورية” في نظره؛ علاقة ديريدا بالتحليل النفسيّ هي على الحقيقة تجسيد عمليّ لمفهوم التفكير والقراءة و“البنوّة الفكرية” في الفكر المعاصر، ولمفهومها عند ديريدا بالذات، بنوّة يكون الشكل الوحيد فيها في الوفاء للأب هو التجاوز، والكيف الوحيد في الاتفاق معه هو الاختلاف. | |
|