3
اللافت أن الجابري خلال قراءته لفيلسوف قرطبة يفصح عن مقاصده دون مواربة فهو مع الوحدة العربية والديمقراطية والحداثة والعقلانية، ومدماك ذلك يجب أن ينبع رئيسيا برأيه من الثقافة العربية ذاتها، أي من الطروحات العقلانية النقدية الثاوية في الموروث العربي نفسه وفي المقدّمة منه ابن رشد، وهو لا يتعامل مع هذا الفيلسوف باعتباره هدفا في حدّ ذاته، بل من حيث هو وسيلة يمكن أن تخدم قضية راهنة، فإبن رشد قد مات ولكن العرب لم يموتوا، وإذا كانت هناك مهمة تستحقّ النهوض للقيام بها فهي استدعاء الحيّ في ابن رشد ليؤدّي وظيفته في زماننا.
إنه مسكون إذن بهاجس إنجاز قراءة جديدة للموروث الفلسفي العربي، ولكنها ليست أي قراءة كانت، إنه يتطلع إلى قراءة لم يسبقه إليها أحد، يكون لها وقع الرجّة، وهو يجد في ابن رشد ضالّته لكونه يمثل حقلا خصبا للقيام بتلك القراءة على ضوء مفهوم القطيعة الابستمولوجية، ففيه تتجلى تلك القطيعة في أبهى صورها، بالنظر إلى الموقف النقدي الصارم الذي اتخذه تجاه فلاسفة المشرق، فما قدموه غريب عن الفلسفة وأقرب إلى التصوف، يقول “إن ابن رشد ينظر إلى الفكر النظري في المشرق كفكر واحد تجمعه وحدة المنهج، وإنه يرفض هذا المنهج بقوة لكونه منهجا غير برهاني، الشئ الذي يعني أن المنهج الذي يصدر عنه فيلسوف قرطبة أو يدعو إليه، منهج يختلف اختلافا كليا عن منهج المشرقيين” (1).
يلاحظ الجابري أنّ المغرب والمشرق على مستوى التفكير تفرقهما طبيعة الإشكالية المطروحة، فالإشكالية في المشرق تتعلق بتحديد السبل المثلى للوصول إلى توحيد السلطة وضمان استمرارية الدولة، نظرا لتفشي الصراع بين الأقوام والملل والنحل والمذاهب المختلفة، فالتوحيد الإيديولوجي كان مطلوبا لتحقيق توحيد سياسي واجتماعي، وهذا الطلب نعثر عليه سواء في علم الكلام أو في الفلسفة، فالحلم بالعدل والتوحيد والمدينة الفاضلة الموحدة والقوية يفصح عن ذلك، بينما الإشكالية في المغرب ذات طبيعة أخرى لاختلاف الوضع، فالمذاهب والملل والطوائف منعدمة أو تكاد فانصرف الفلاسفة إلى تأصيل البرهان.
ومن هنا فإنّه يقرأ ابن رشد على ضوء هذه المحدّدات الثقافية والسياسية، للكشف عن العوامل التي ساعدته على التوجه ناحية الفصل بين الدين والفلسفة، إذ لم يجد حاجة للقيام بمهمة الوصل بينهما، بل على العكس وجد نفسه معنيا بمهمة مناقضة تماما ونعني الفصل التام بينهما، حتى لا يلحقهما الضرر، جراء ذلك الخلط الذي تورط فيه في المشرق الفارابي وخاصة ابن سينا، يقول “لقد كانت الفلسفة في المشرق متجهة إلى الوراء، لقد استعملت العقل لإضفاء نوع من المعقولية على ما هو”لا عقليّ“على نزعتها التصوفية، ومن هنا اكتست طابع”الفلسفة الدينية“الهادفة إلى إنشاء”دين فلسفي“مستمد من فلسفة صابئة حران، الشئ الذي كان فلاسفة المغرب والأندلس واعين به كل الوعي …أما فلسفة ابن رشد فلقد كانت فلسفة مستقبلية، على الرغم من ارتباطها بأرسطو، ان الفكر الرشدي كان أقرب إلى فكر عصر النهضة في أوربا، منه إلى فكر ابن سينا” (2).
قرأ الجابري ابن رشد على ضوء العصر الذي عاش فيه، أي على ضوء الثورة الموحدية التي تمثل بمعنى ما الحاضنة الفكرية لفلسفته، وخاصة ما بلوره ابن تومرت من أفكار جديدة في كتابه أعز ما يطلب، الذي اعتبره الجابري “أشبه ما يكون بمقال جديد في منهجية التفكير والبحث في شؤون العقيدة و الشريعة”(3)، يتضمن نقدا واضح المعالم لقياس الغائب على الشاهد الذي تغذى منه فلاسفة المشرق و متكلّموه على حدّ سواء.
ومن هنا فإن الجابري يقرأ ابن رشد من خلال ابن تومرت و بواسطته فابن رشد وابن تومرت يمثلان حلقتين مرتبطتين بعرى وثيقة، فابن تومرت بدأ المهمة وابن رشد أكملها، انه يرى في فيلسوف قرطبة تجسيدا على مستوى الفلسفة لعقلانية كانت مفقودة عربيا فـ“العقلانية الرشدية عقلانية واقعية، والعقلانية الفارابية السينوية عقلانية صوفية” (4).
وعندما يواصل الحفر في تربة الثقافة بحثا عن سرّ هذه القطيعة ينتبه إلى سيطرة فكرة الفيض في المشرق، التي كانت بمثابة الأساس الذي قامت عليه تلك الفلسفة، بينما تغيب هذه الفكرة تماما لدى فلاسفة المغرب، حتى أن ابن رشد يرى فيها مجرد خرافة لا تصمد أمام معول النقد.
وفي ثنايا هذه القراءة يكشف الجابري عن أسئلة أساسية ثلاث تتحكم بمشروع ابن رشد الفكري وهي : “كيف يجب أن يُقرأ القرآن، كيف يجب أن يُفهم ويُؤول هذا الأصل الأول في الفكر الإسلامي؟ كيف يجب ان تُقرأ”الفلسفة“فلسفة أرسطو أصل كل فلسفة ناضجة وصحيحة؟ كيف يجب أن تُحدد العلاقة بين الدين والفلسفة بشكل يُحتفظ بهما معا ويحفظ لهما استقلالهما؟”(5)، معتبرا أن هذه الأسئلة هي التي أضفت على مؤلفات ابن رشد الطابع المنهجي الذي طغى عليها، مما يعني أنه معني رئيسيا في قراءته لإبن رشد بإشكالية المنهج، أي بطبيعة المساءلة الرشدية للإشكاليات التي تحكمت بزمانه، والتي يرى أنها لا تزال تعيش بمعنى ما معنا، وتفرض علينا مواجهتها من موقع البرهان الآن وهنا.
وعلى هذا الصعيد يرى في ابن رشد صاحب برهان ومحاجة عقلية، فهو يحفر عميقا في تربة علم الكلام ليكشف عن المخفي بين طياتها، ويربط الصلة التاريخية بين بعضها البعض لكي يؤلف بين الأجزاء المتناثرة ويرسم لوحته عن هذا المبحث، حتى يغدومفهوما، وفي معرض ذلك تتبع مسار العلاقة بين الدين والفلسفة، واستكشاف التوترات التي اكتنفتها، لكي يخلص في الأخير إلى استنتاج أنهما ينشدان غاية واحدة، ولكن طريقتيهما مختلفتان كل الاختلاف. فمن زاوية العلم الذي كان ابن رشد مدافعا عنه فإن المتكلمين سفسطائيون وخطابيون ومغالطيون، ومن هنا فإن الجابري يقرأ ابن رشد باعتباره نازع أقنعة، فهو يكشف الغطاء عن هؤلاء فإذا هم والعلم على طرفي نقيض، رغم كل ضوضائهم وصخبهم عن الحجج والبراهين، وإلا كيف نفسر قياسهم للغائب على الشاهد أو إنكارهم لمبادئ منطقية مثل السببية والهوية؟
لقد ركز الجابري نظره على قياس الغائب على الشاهد، معتبرا إياه نقطة القوة في النقد الذي وجهه ابن رشد لخصومه من المتكلمين، فهؤلاء وقعوا بين براثن هذا القياس الفاسد، إذ لا يصح القياس إلا عندما يتعلق الأمر بأفراد يشتركون في نفس الطبيعة، بينما ينعدم ذلك هنا، فالمتكلمون يقيسون الشاهد أي العالم الواقعي وما يحيل إليه من طبيعة ومجتمع وتفكير، على الغائب وهو التصورات التي شيدوها في أذهانهم عن الله.
يمسك ابن رشد الذي يقدمه لنا الجابري بالحلقة الضعيفة في سلسلة البنيان الذي شيده خصومه، وهو قياسهم للغائب على الشاهد، فهم يخلطون بين عالمين منفصلين، بينما يرسم هو بعناية فائقة الحدود بينهما فقد “انطلق في تصوره المنهجي الجديد للعلاقة بين الدين والفلسفة من مبدإ أساسي سبق التأكيد عليه وهو : الفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فصلا جذريا أساسه أن لكل منهما طبيعته الخاصة التي تختلف جوهريا عن طبيعة الآخر، ومن هنا كان الفصل في قضية منهجية أساسية، وهي تأكيد ابن رشد على خطإ استعمال قياس الغائب على الشاهد في معالجة العلاقة بين الدين والفلسفة، بل في معالجة قضايا كل من الدين والفلسفة، وبالتالي التأكيد على الخطإ الناجم من محاولة دمج قضايا الدين في قضايا الفلسفة أو العكس، لأن عملية الدمج هذه غير ممكنة في نظر ابن رشد، إلا بالتضحية إما بأصول الدين ومبادئه، وإما بأصول الفلسفة ومبادئها” (6).
4
وهذا الذي بيناه حتى الآن يتيح لنا إمكانية استنتاج أن الجابري أنجز قراءته مدفوعا بإحساسه أن هناك وجه شبه كبيرا بين زمن ابن رشد وزماننا، فقد اعتبره معاصرا لنا من حيث الإشكاليات التي طرحها مثلما تقدم ذكره، ومن ثمة فهو سلاح مناسب لخوض معارك راهنة، إنه يحمله مهمة تاريخية كبرى يعاصرها العرب اليوم، وهكذا فإنه كأنما يعتبر العودة إلى ابن رشد بمثابة استرداد سلاح ماض تجاهله أصحابه لفترة طويلة، بينما كان في متناولهم، ولكنهم لم يقدّروا قيمته فلحقتهم الهزائم والخيبات المتتالية، فجاء هو لكي ينبههم إلى قيمة ذلك السلاح، مصمما على وضعه بين أيديهم بعد أن أزال عنه غبار السنين.
وهو لا يقدم في ثنايا تلك القراءة أجوبة مباشرة ، بقدر ما يقدم إشارات وتنبيهات تفيد ذلك، و كان وهو يقرأ ابن رشد مدركا أن أفضل مهمة يمكن انجازها هي تجريد قوى الإرتكاس من سلاح احتكار التراث وخاصة الجانب العقلاني فيه بتحرير ابن رشد من سلطانها وتوظيفه سلاحا ضدها، وإذا كانت تلك القوى تلعب على عواطف الجموع لتجييشها فإنّ الجابري يخاطب قارئه من خلال فيلسوف قرطبة لكي يرسخ لديه البرهان والعقل والتحليل والنقد.
وهو لا يقرأ ابن رشد من خلال جرد لأفكاره وتعدادها، وإنما أشكلتها والوقوف على مفاهيمها وأطروحاتها، فسؤال القراءة يؤرقه : كيف نقرأ ابن رشد ولماذا نقرأه هو تحديدا؟ ويصرح أنه يقدم قراءة جنيالوجية تاريخية تكوينية وهو ما يبينه في مقدمته التحليلية لكتاب ابن رشد تهافت التهافت(7).
وإذا كنا نلمس لديه انبهارا بالنص الرشدي، فإنه انبهار لا يحجب التعامل معه من موقع القراءة المتأنية، وإرادة الحفر بين طبقاته للكشف عن خباياه وما أكثرها.
إنه يستدعي ذلك النص إلى فضاء لم يدخله سابقا، هو فضاء الابستمولوجيا فيخضعه إلى الفحص والمساءلة، ولا يخرج من هناك إلا وقد ارتدى حلة جديدة، تجعله متآلفا مع واقع لا يزال في حاجة إليه، فيتجول ذلك النص في بيئة عربية حبلى بإشكاليات طرحها ابن رشد نفسه، وربما يُفسر هذا بإقرار الجابري أن الواقع العربي ظل في حالة انحباس تاريخية منذ ابن رشد وربما قبله، حيث لم يتغير جوهر بناه المختلفة، التي حافظت على حالها على مدار السنين.
نحن إذن إزاء قراءة تتعامل مع ابن رشد باعتباره شريكا في تطارح إشكاليات عصرنا مؤكدة في الوقت ذاته أن ابن رشد لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا شاركناه نحن أيضا فهم الإشكاليات التي عصفت بعصره، أي وجوب أن نحسن التعامل معه فهما ونقدا، وأن نقف على معنى الحاجة إليه من حيث هي حاجة راهنة، ومن هنا الوصل بين لحظتين تاريخيتين ومعرفيتين من خلال نقطة جامعة، هي مواجهة التمزّق الملّيّ والطائفيّ والمذهبيّ والتعصب الديني، يقول الجابري :“لا يمكن أن يكون ابن رشد حاضرا بيننا، ينوب عنا في التعبير عن بعض همومنا إلا إذا نحن”حضرنا معه“أولا وشاركناه همومه واهتماماته” (8).
كان الجابري مدركا أن الصراع ضد ممتهني الخطابة الدينية لأغراض سياسية في عصرنا يشبه تماما صراع ابن رشد ضد متكلمي عصره، فالطرفان المتصارعان متماثلان، العقل والفلسفة من جهة، والنقل والخطابة والكلام من جهة ثانية، لقد رأى فيه محاربا ضدّ التعصب والدغمائية، فهو الفيلسوف الذي يواجه المتكلمين مواجهة شاملة فلا يستثني أقربهم إلى العقل والعقلانية، ونعني المعتزلة، طالما أن منهجهم ومنهج غيرهم من الفرق هو عينه، بمعنى تعارضه التام مع ما هو برهانيّ، يقول “ومع أن ابن رشد يستثني المعتزلة عند عرضه الموجز لطرق الاستدلال لدى الفرق الكلامية المشهورة في زمانه، لكون كتبهم لم تصل إلى الأندلس كما يقول، فإنه يجمع طريقتهم إلى طريقة الأشاعرة ويعتبرها من جنسها” (9).
إن قراءته لابن رشد تندرج كما هو بين ضمن محاولة تقضي بتأسيس رشدية جديدة، عينها مركزة على تحقيق نهوض وتجديد عربيين، وبالتالي فإن تلك القراءة تتخذ طابعا أوسع من مجرد محاولة فلسفية تأملية صرفة، إذ لها رهان عملي تروم انجازه، فهي منشدّة إلى مشروع ينشد بديلا عقلانيا حداثيا لوضع عربي يسوده الجهل والاستبداد.
والجابري لا يخفي هذا الرهان بل يبرزه، إنه يطلب مقصدا واضحا، وهو تجديد الثقافة العربية، هذا التجديد الذي لن يكتب له النجاح إلا إذا انطلق من عناصر عقلانية تتضمنها تلك الثقافة نفسها، أما إذا استند ذلك التجديد إلى عناصر برانية فإن مصيره الإخفاق لا محالة، وهو ما نبهنا إليه سابقا.
وهكذا فإن ابن رشد يمثل بالنسبة إليه فيلسوفا يجب أن نتعلم منه العلم والأخلاق أيضا، إذ “سيبقى نموذجا للمثقف العربي المطلوب اليوم وغدا، المثقف الذي يجمع بين استيعاب التراث وتمثل الفكر المعاصر والتشبع بالروح النقدية وبالفضيلة العلمية والخلقية”(10).
إنه يريد التأسيس لرشدية عربية تأخر ظهورها لمدة قرون، لذلك نراه يتحدث عن “استنبات رشدية عربية إسلامية، هي وحدها القادرة في نظرنا على أن تعطي لحياتنا الثقافية ما هي في حاجة إليه من القدرة الذاتية على التصحيح والتجديد”(11).
لقد قرأ ابن رشد متناولا سيرته الشخصية ومؤلفاته في نفس الوقت، فـ“سيرته الذاتية (ابن رشد) هي مسيرته العلمية نفسها”(12)، فهو يرى أن هناك حاجة ماسّة لابن رشد عربيا، وأن هذه الحاجة علمية بالأساس ولكنها إيديولوجية أيضا، خاصة من جهة الاجتهاد والنقد واتباع سبيل الفضيلة “إن استعادة ابن رشد الفقيه وابن رشد الفيلسوف وابن رشد العالم ضرورة تمليها علينا ليس فقط تلك المكانة المرموقة التي يتبوؤها هذا الرجل في تاريخ الفكر الإنساني، والتي غابت في تاريخ فكرنا العربي، بل تمليها علينا كذلك حاجتنا اليوم إلى ابن رشد ذاته : إلى روحه العلمية النقدية الاجتهادية، واتساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدت له، وربطه بين العلم والفضيلة على مستوى الفكر ومستوى السلوك سواء بسواء”(13)، وفي ثنايا قراءته نلمس تلك الحسرة المكتومة، فابن رشد أدى وظيفته كونيا بينما ظل عربيا مجهولا فلم تحدث كتاباته مفاعيلها المطلوبة.
وقراءة الجابري لابن رشد محكومة بثقل اللحظة وما يعتمل فيها من مشكلات، إنها قراءة توجهها وتحركها إرادة البحث عن حل معضلة واقعية يعانيها العرب اليوم، وهي تفشي الظاهرة الأصولية باستتباعاتها المختلفة، فـ“التخفيف من التطرف الديني إلى الحد الأقصى لا يمكن أن يتم بدون تعميم الروح الرشدية في جميع أوساطنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية” (14).
لقد بالغ الجابري ربما في تقدير قيمة هذا الجانب، فمهما كانت مكانة ابن رشد فإن معركة التحديث والتنوير والعقلنة لا يجب ربطها ميكانيكيا بفكر مهما كانت أهميته باعتباره وحده العامل الحاسم، فذلك يعني التغاضى عن جوانب اجتماعية وسياسية مهمة، ففي غمرة احتفائه بابن رشد نسي أن الفكر ليس له من قيمة إلا باعتباره يساعد على التحليل الملموس للواقع الملموس بما يمكن من تغييره، أما مهمة التغيير في حد ذاتها فتستوجب أسلحة كثيرة أخرى.
إنه يقرأ ابن رشد بعيون العصر ومشكلاته، منبها إلى أنه يمثل مفتاحا للتفسير والتغيير وقراءته هذه كانت عرضة للنقد، فالموروث ولى وانقضى عهده، ولا يمكن أن نجد فيه حلولا لإشكاليات العصر، فالجابري كأنما يتهرب من طرح الأسئلة الحقيقية على نفسه لكي يطرحها على الأموات، معتقدا ان الإجابة موجودة بين طيات ما كتبوه. غير أن هذا النقد يتغافل عن أن الموروث يظل يعيش معنا مما يفرض تصفية الحساب معه من موقع العقلانية النقدية بالذات، وهذا ما حاول الجابري القيام به.
بقيت الإشارة إلى ان تلك القراءة تنزع إلى تقديم فيلسوف قرطبة في ثوب المسلم الحريص على دينه وإيمانه، الذي يحاول جاهدا أن يبرز الصورة الحقيقية لذلك الدين، فإبن رشد يتقمص على يد الجابري ثوب المدافع عن العقيدة / الشريعة، ولكنه لا يقوم بالدفاع كيفما اتفق، وإنما يعتمد دفاعا عقليا برهانيا، من خلال قراءة داخلية للدين تربطه بمقاصده العملية وخاصة الأخلاقية منها، ومن هنا يتجاهل الجابري كل الإشارات التي يتضمنها النص الرشدي وخاصة ما ورد في مختصر كتاب السياسة لأفلاطون بخصوص النمط المجتمعي المراد تأسيسه ودور المرأة فيه (15) من حيث تقلد منصب الرئاسة وحيازة الحكمة (16) والتي يمكن أن يفهم منها التعارض مع مبادئ الشريعة وثوابتها، ربما خشية ان يؤول ذلك إلى زعزعة تلك الصورة التي يرسمها لإبن رشد، والتي في حال تشققها فإن المستفيدين هم أولئك الذين يحضرون بالغياب في قراءة الجابري، أي الأصوليون أو المتكلمون المعاصرون الذين ألحقوا الضرر بجسد الأمة وأثخنوه بالجراح.
وقد يكون مفيدا التنبيه إلى أنه يتحرك في حقل زرعته الأصولية الدينية بالأحكام الزائفة، فهو يريد أن يقول لها وهو يلبس قناع ابن رشد أن الشريعة مقصدها الفضيلة، ولا شئ غير ذلك، وليس هناك من سبب يستدعي تمطيطها لكي تفرض سلطانها على كل مناحي الحياة، وهي غير متعارضة مع الفلسفة والعلم على هذا الصعيد بالذات، فللعلم مجاله المخصوص، وهو حرّ في دراسة الكون والكشف عن القوانين الموضوعية المتحكمة به، دون أدنى تحريم أو تكفير، ولطائر مينيرفا أن يحلق في الآفاق، والقرآن ليس كتابا في العلم وإنما للفضيلة، وفيه إشارات فقط للكون والنظام الذي يسوده، وهي تصلح لعامة الناس، دون أن تصل إلى ادعاء تقديم قوانين علمية مفصلة، فهذه من مسؤولية العلماء.
وهكذا فإن قراءة الجابري لابن رشد يحركها رهان عملي غير خاف، وبمعنى ما فإن الجابري يجد في ابن رشد ضالته، فيستعمله سلاحا في معركة تدور رحاها أمامه، وهو طرف من أطرافها، ومن هنا فإن تلك القراءة لا تفلت من وطأة الايدولوجيا التي تتلبسها، لقد بدت قراءة الجابري لاتاريخية فهي تتغافل عن أن ابن رشد لا يمكن أن يكون معاصرا لنا ولا نائبا عنا، خاصة إذا نظرنا إلى العصر من جهة ما بلغته الإنسانية من تقدم، فنحن نحتاج لإبن رشد مثلما نحتاج أي فيلسوف آخر، ولكن لا بغرض استدعائه لكي يقيم بيننا فالأموات مهما بلغ تأثيرهم هم الأموات، ولا يجب ان نسمح لهم بالإمساك بتلابيبنا، كما أنه لا يجب التغافل عن العصر ومكاسبه الكونية، وإذا كان الجابري يرى في ابن رشد مفتاحا لمقاومة التعصب الديني والأصولية فإن هذا وان اتفقنا معه فإنه لا يجب أن يخفي أن تلك المقاومة لا ينبغي ان تنحصر في توظيف الرشدية فقط، بل في الجوانب النيرة الثاوية في الموروث العربي مشرقا ومغربا، وما أنجزته الفلسفة والعلوم الإنسانية على صعيد كوني.
لقد كان الجابري حريصا على القطع مع القراءات الإيديولوجية الذرائعية والاتجاه ناحية قراءة ابستمولوجية، غير أنه كان هو أيضا سجين إيديولوجيا مضمرة، وليس من الصعب الكشف عنها وهو ما ألمحنا إليه، وقد يكون من الصعب على الفلاسفة ومنهم الجابري الإفلات من قبضة الايدولوجيا ولو لعنوها علنا ألف مرة.
و لنا أن نسأل في الأخير هل كان الجابري سيتجه صوب قراءة ابن رشد لو لم يكن هناك دافع واقعي حتم عليه ذلك، ونعني إحكام قوى الإرتكاس قبضتها على المجتمع العربي مستعملة المقدس الإسلامي موظفة التراث في معركتها؟، ربما كان لتلك القوى الماضوية فضل كبير ليس فقط على الجابري وإنما على كثيرين غيره من المفكرين العرب المعاصرين، الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على العودة إلى الموروث للكشف عما فيه من جوانب عقلانية، بغية توظيفها في المعركة ضد تلك القوى بالذات، وبالتالي معانقة مجتمع المستقبل، وإذا جاز هذا توجب على الفلسفة أن توجه تحيتها لتلك القوى مرة واحدة على الأقل.
الإثنين ديسمبر 30, 2013 9:44 am من طرف حسين