نقدّم إلى قرّائنا الأعزّاء المقدّمة التي وضعها الفيلسوف فتحي المسكيني لترجمته لكتاب إمانوال كانط “الدين في حدود مجرّد العقل”. صدرت هذه التّرجمة عن دار جداول للنّشر، بيروت، 2012.
إذا كان ثمّة شيء يحقّ للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السّابقين فهو إيمانه العميق بالحرية؛ بأنّه كائن حرّ لا يدين بقدرته على التّفكير بنفسه ومن ثمّ على إعطاء قيمة خلقيّة لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أيّة جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا. وذلك تقديراً منه بأنّ “ما لا يصدر عن ذات نفسه وحريّته، لن يمنحه أيّ عوض عن النّقص الذي في خُلُقيّته”.[1] في هذا السّياق تحديدا افتتح كانط تصدير الطّبعة الأولى من كتاب الدّين في حدود مجرّد العقل بالإعلان عن أطروحة مركزيّة لديه، ألا وهي أنّ “الأخلاق، من جهة ما هي مؤسّسة على مفهوم الإنسان… لا تحتاج أبدا فيما يتعلّق بذاتها إلى الدّين… بل هي مكتفية بذاتها”.[2] فما الذي دفع فيلسوف الأخلاق الأكبر إذن إلى تقديم “نظريّة فلسفيّة في الدّين”؟[3] هل توجد حاجة لا يحقّ للأخلاق أن تدّعيها لنفسها رغم اكتفائها بنفسها؟
إنّ الإنسان غالبا ما يعرف “كيف” يفعل في حياته لكنّه لا يعرف “لأجل ماذا” يجب عليه أن يفعل.[4] هو يشعر على الدّوام بحاجته إلى “غاية” ما، تكون هي غاية الغايات التي يجعلها نصب عينيه في كلّ وجود له على الأرض، غاية تمكّنه من أن يعثر على الخيط الرّفيع الذي يربط بين أن يفعل ما “يجب” عليه، وبين نتيجة ذلك الواجب، أي أن يكون “سعيدا” بوجه ما. ولكن لأنّ الأخلاق لا تساعدنا إلاّ على الشّطر الأوّل، فإنّ الإنسان محتاج إلى “فكرة” من نوع آخر، “تلبّي حاجتنا الطبيعيّة لأن نفكّر بالنّسبة إلى كلّ نشاطاتنا برمّتها في أيّة غاية يمكن أن يتمّ تبريرها من طرف العقل”.[5] ولكن مع شرط وحيد أنّها لن تكون إلاّ غاية حرّة. وحدها “غائيّة عن حريّة”[6] يمكن أن تساعد الإنسان على التّفكير في “غاية نهائيّة لواجباته”أوسع نطاقا من مجرّد واجبه الخلقي، إلاّ أنّها “ناتجة عن تلك الواجبات ذاتها”.[7]
بذلك يصرّح كانط دونما مواربة: “إنّ الأخلاق إنّما تقود على نحو لابدّ منه إلى الدّين، وعبر ذلك هي تتوسّع إلى حدّ مشرّع خلقي… في إرادته تكمن تلك الغاية النهائيّة (لخلق العالم)”.[8]
إنّ أصل حاجة البشر إلى الدّين لا يكمن في أيّ نوع من العبوديّة، بل في قدرتهم الرّائعة على الحريّة، وبالتّحديد حريّة المصير، حريّة اقتراح غاية نهاية لوجودهم على الأرض، تليق بعقولهم، أي بقدرتهم على إعطاء قيمة أو معنى لسيرتهم الخاصّة في تدبير أنفسهم. ومن ثمّة فالحاجة إلى الدّين لا تأتي إلى الأخلاق من خارج بل هي “فكرة تنبع من الأخلاق، وليس أساسا لها”.[9] لا يصبح الإنسان متخلّقا لأنّه متديّن، بل الأمر بعين الضدّ: إنّه لا يصبح متديّنا إلاّ لأنّه متخلّق، أي قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته. إنّ حاجة الإنسان إلى “احترام أعظم” من كلّ أنواع الاحترام الأخرى هو الذي يجعله يفكّر من نفسه في جعل شيء ما “موضوعا للعبادة”.[10] ليست العبادة غير نوع من الاحترام الكبير لكائن يساعد عقولنا على تمثّل أكبر قدر ممكن من الاحترام الأجلّ وأروع غاية نهائيّة ممكنة لوجودنا على الأرض.
ولكن لماذا يحتاج البشر إلى هذا النّوع من الاحترام الأعظم ؟ - لأنّ “كلّ شيء، حتّى أكثر الأشياء جلالة، إنّما يصغر بين أيدي بني الإنسان، متى ما أخذوا يطبّقون فكرته في استعمالاتهم”[11] العادية. ينبغي إذن أن يكون ثمّة شيء على الإنسان أن “يقدّسه” حتى لا يتحوّل وجوده اليومي إلى آلية كسولة بلا هدف يفتح لها الأفق نحو معنى ما للمستقبل. لكنّ المعضلة الفلسفية التي ينبّهنا إليها كانط هنا هي التالية: كيف نجمع بين حاجة البشر إلى تقديس شيء ما، وبين إحساسهم الأصلي بالحرية ؟
وهو يقترح علينا أن نمشي في هذا السبيل: لا يمكن لأيّ شيء مقدّس أن يكون أهلا لأن يُعبد إلاّ “من حيث أنّ الاحترام الذي يتعلق به ينبغي أن يكون حرّا”.[12] العبادة الصحيحة ضرب من الاحترام الحرّ لقداسة نابعة من حاجة خلقيّة في طبيعتنا وليس من خوف كسول من المجهول.
من أجل ذلك ليست الفلسفة بالضرورة نقدا للدين، بل تأصيلا جذريا لإمكانيته الأخلاقية في الطبيعة البشرية بمجرّدها. ولذلك لا ينفع الدّين أن تحميه سلطة الدّولة ضدّ حريّة التّفكير التي تنقده، وبالتّالي تعامله وكأنّه في حاجة إلى من يدافع عنه. فإنّ طاعة السّلطة هي أمر أخلاقي تماما، ولا يُضاف لها أيّ شيء إذا تمّ ربطها بالدّين.[13]
ولهذا السّبب فإنّ دفاع اللّاهوتيين عن الدين لا مبرّر له، خاصة إذا ما تمّ ضدّ فلاسفة الأخلاق. فاللاهوتي الذي يستعمل الكتاب المقدّس ضدّ منجزات العقل هو لا يريد بذلك سوى “إذلال كبرياء العلوم وإعفاء نفسه من التعب في طلبها”.[14] و“مثل تلك الشعوب، التي لا تجد في نفسها لا القوة ولا أيضا الجدّ الكافي للدفاع عن نفسها ضدّ هجمات خطيرة، فتحوّل كلّ ما حولها إلى صحراء، هو سوف ينتهي بالضرورة إلى مصادرة كل تجارب الذهن الإنساني”.[15] وحده دين العبيد يحتاج إلى صحراء داخله أو في أفقه حتّى يفرض نفسه على النّفس البشريّة.
إنّ الفلسفة هي تفكير في معنى الدّين “داخل حدود العقل بمجرده” وليس “بإرادة إحداث تغيير في العقائد الإيمانيّة”.[16] لكنّ الحرص على البقاء داخل “حدود العقل” ليس موقفا سالبا، بل هو الأمارة الكبرى والحاسمة على قدرتنا المطلقة على الحرية. أن نبقى في حدود العقل بمجرده يعني أن نرفض أيّ وصاية على طرق تفكيرنا، حتّى في مسائل الدّين. فإنّ اللاهوت نفسه ينبغي أن تكون له “الحرية الكاملة في أن يذهب في عمله إلى أبعد ما يمكن أن يبلغه”.[17] ولأنّه هو أيضا لا يستطيع الاستغناء عن العقل، فإنّ “ديناً، يعلن الحرب على العقل من دون تفكّر في العواقب، سوف لن يتمكّن مع طول المدّة من الصّمود أمامه”.[18] هذا هو الدّرس المثير للعصور الحديثة.
من أجل ذلك يقترح علينا كانط أن نفتح العقل على الدّين والدّين على العقل، بحيث نستطيع أن نعتبر أحدهما “دائرة أوسع للإيمان، ينطوي في ذاته على الآخر بوصفه دائرة أضيق من الأولى”.[19] يدور كلّ من العقل والدين حول “مركز واحد”، وعلى الفيلسوف أن يكشف النقاب عنه. لكنّ ذلك لا يتسنّى إلاّ لمن قبل بفرضية وجود “دين عقلي محض” واعتباره هو “الدّين الأصيل”، من أجل أنّه هو “دين العقل المحض”،[20] وليس دين شعب دون آخر، بل هو دين الطبيعة البشريّة أو الدين الذي يليق ليس فقط بالجنس البشري بل بالكائنات العاقلة عامّة.
ولذلك فالمشكل هو: كيف نخرج بالإنسانيّة من دين الشّعائر إلى دين العقل؟ من دين تاريخي خاص بشعب دون آخر، إلى دين عقلي هو كوني لكل الشعوب؟.
ربّما يحمل كل شخص دينين في قلبه، أحدهما عقلي والآخر طقوسي. دين يحكيه وآخر يفكّر فيه. وإنّ أحد رهانات الفلسفة هو أن تجعل الدّين الذي يُحكى إلى الأطفال قابلا للتحوّل إلى مفهومات خلقيّة في عقولهم، وبالتّالي قابلا للفهم.[21]
وعامّة فإنّ المقالات الأربع من الكتاب تعرض علينا على التّوالي هذه الأطروحات التالية:
1. أنّ ثمّة ضربا من الشرّ الجذري في الطبيعة الإنسانية.
2. أنّه يوجد فينا صراع يقوده مبدأ الخير ضدّ مبدأ الشر من أجل السيادة على الإنسان.
3. أنّ انتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر هو ممكن، وعلينا أن نأمل في أن يؤدّي إلى إقامة مملكة الرب على الأرض.
4. أنّه ينبغي التّمييز في خدمة الله بين عبادة صحيحة وعبادة باطلة، أي بين الدّين والكهنوت.
لكنّ الغرض العام للكتاب هو ليس شيئا آخر في نهاية الأمر، على حدّ عبارة كانط، سوى “بيان صلة الدّين بالطبيعة الإنسانيّة”.[22]
علينا ألاّ نفهم هنا من لفظة “الطبيعة الإنسانيّة” في الإنسان سوى “الأساس الذاتي لاستعمال حريته عامّة”.[23] لا يوجد إنسان شرّير ولا إنسان خيّر، بل فقط “استعمال للحريّة” على نحو يجعل الإنسان في سلوكه، “وذلك على نحو كلّي، من حيث هو إنسان”، يقبل بمسلّمات حسنة أو يقبل بمسلّمات سيّئة.[24] ذلك يعني أنّ الطبيعة لا هي أصل الشر ولا هي لها الفضل في الخير الذي في الإنسان. إنّ الإنسان هو وحده مسؤول عن خيره وشرّه. بذلك لا يمكننا أن نقول إنّ هذا الشرّ أو هذا الخير “فطري” في الإنسان إلاّ في معنى أنّه “كامن في أساسه قبل كلّ استعمال للحريّة”.[25] وحدها الحريّة هي مصدر كل ما هو شر أو خير فينا. ولأنّ الحريّة قدرة كامنة في صلب الطبيعة البشرية فإنّ البحث في دلالة الشر أو الخير هو “بحث انثروبولوجي” بحيث أنّه “لا يوجد سبب لاستثناء أيّ إنسان من ذلك”، وتحت لفظة إنسان لا ينبغي أن نفهم سوى “الجنس البشري برمته”[26] أو فكرة الإنسانيّة في شخصنا أو في شخص غيرنا. وهكذا ليس الشر أو الخير أصليا فينا إلاّ لأنّه “ينتمي إلى إمكانية الطبيعة الإنسانية”.[27] وذلك يعني بالتّحديد أنّ أصل الشر هو الحريّة ولا شيء غير ذلك.[28] وهكذا يمكننا أن نقول في نفس الوقت إنّ الشرّ جذري فينا، لأنّه جزء من الطبيعة البشرية، إلاّ أنّنا بوجه ما نحن الذين جنيناه على أنفسنا، لأنّه لا وجود لشرّ أخلاقي من دون حريّة.[29]
ذلك يعني أنّ الشرّ ليس خبثاً، أي قبولا بالشر بما هو شر. بل هو ناجم فقط عن “هشاشة” الطبيعة الإنسانية: إنّ حواسّنا أو الحيوان فينا أقلّ من اللازم لعقولنا؛ كما أنّ الشّيطان فينا أو “العقل الخبيث” هو أكثر من اللازم لحريتنا.[30] لكنّ الإنسان هو أقلّ وأكثر من ذلك في نفس الوقت. ولذلك هو كائن أخلاقي بامتياز. إنّه مطالب دوما بأن يكون “أفضل”.
الأفضل ليس قدّيسا، بل ينطوي على معنى القداسة في واجباته تجاه الإنسانيّة في شخصه.[31] وعلينا أن نسأل: كيف يمكنني أن أكون إنسانا أفضل؟
يقول كانط: “هذا أمر لا يمكن أن يتحقّق بواسطة إصلاح متدرّج، طالما بقي تأسيس المسلّمات غير نقيّ، بل ينبغي أن يتحقّق عبر ثورة في النّوايا التي في الإنسان (عبر انتقال إلى مسلمات القداسة التي في تلك النّوايا)؛ وهو لا يستطيع أن يصبح إنسانا جديدا، سوى عبر نحو من الولادة الجديدة”.[32]
لا يكفي أن نصلح طريقة إحساسنا بميولنا ورغباتنا بل ينبغي القيام بثورة في طريقة تفكيرنا. ولا يكفي أن نصلح أخلاقنا من خارج، بل ينبغي القيام بثورة في طريقة تفكيرنا في استعمال حريتنا. و“حتّى الأطفال هم قادرون على رصد أقلّ أثر على خلط الدّوافع غير الصّحيحة”[33] مع الفعل الموافق لواجبنا. إنّ الضمان الوحيد للحريّة هو الاستعداد الخلقي في أنفسنا، والذي لا نجد أفضل طريقة للتعبير عنه سوى العقل. والعقل لا يبشّر ولا ينذر بشيء سوى التّنبيه إلى “القداسة الكامنة في فكرة الواجب”[34] من جهة ما هي أمر لا يمكن أن يصدر إلاّ عن الحريّة. وبالتالي فإنّ “توحيد مفهوم الحرية مع فكرة الله، من حيث هو كائن واجب الوجود، هو أمر ليس بالعسير في شيء”.[35]
يعني ذلك أنّه ليس من الصّعب استخراج النّواة الخلقيّة التي يتأسّس عليها كلّ دين دون أن يشعر أيّ مؤمن بأنّها غريبة عن إيمانه. وذلك بقدر ما يعمل بعقله الخاص على التّمييز بين دين تجاري وأناني، قائم على طلب النّعم والخيرات بواسطة مجرّد إقامة الشّعائر باعتبارها هي الدّين كلّه، وبين دين خلقيّ، كريم ومتواضع بشكل رائع، هو “دين السّيرة الحسنة” فحسب.[36] وعندئذ لن يكون المطلوب هو أن يعرف ماذا يريد الله أن نفعل من أجل أن يعيننا على خلاصنا، بل ماذا يجب علينا أن نفعل من أجل أن نكون “أهلا” لعونه لنا وأهلا لذلك الخلاص.[37]
لذلك علينا أن نميّز بين “إيمان دغمائي” يقدّم نفسه بوصفه علماً جازما، متكبّرا، متغطرسا على غير العالمين، وبين “إيمان متفكّر” يخجل من الانزلاق في أيّ نوع من “الأفكار المفارقة” التي تتخطى حدود عقولنا. وهذه الأفكار المزعومة التي لا سند لها سوى طاقة مريبة على الاستهانة بعقولنا يحصيها كانط في صنوف أربعة:
1. ادّعاء تجربة باطنيّة تقود النّاس إلى التحمّس المهووس والشطحات، وكأنّها هي لبّ الإيمان، وهو منها براء.
2. الزعم بوجود تجربة خارجية للمعجزات، وتحويل الدين إلى خرافة.
3. الجرأة على الانغماس في نزعة إشراقية تتظاهر بأنّ نور العقل البشري يمكن أن ينفذ إلى الأسرار ما فوق الطبيعية.
4. التّجاسر على محاولة الفعل في الطبيعة وصنع المعجزات واستجلاب آثار الرّحمة والنّعمة الإلهية للبشر بشكل مباشر.[38]
صحيحٌ أنّه لا يقود النّاس إلى الخرافة مثل “يأس متوحش”،[39] وذلك من استحالة تسديد “دَين الخطيئة” بوصفه “الدَّين الأكثر شخصية”[40] في الضّمير العميق للبشر. ولذلك فإنّ الطريق الصّحيح إلى الإيمان المتفكّر هو العزم على “تغيير المرء لما بنفسه”[41] مرّة واحدة، وذلك من خلال ثورة روحيّة تخلع الإنسان القديم وتلبس الإنسان الجديد من دون انتظار أيّ عون خارجي عن طبيعتنا. ولأنّ المرء “لا يستطيع أن يُغوي عقله”[42] فإنّه لن يجد أيّ مصدر أصلي لأخلاقه وإيمانه مثل حريته.
لا يحتاج الدّين إلى عبيد يستعملون الشعائر دونما فهم لمعناها، في تملّق نسقي للإله الغائب، من أجل نعيم أخروي تمّ تحويله إلى جهاز ابتزاز أخلاقي للفانين على الأرض، بل إلى أحرار يؤمنون بأنفسهم بناءً على ما يمليه العقل بمقتضى الطبيعة البشرية بمجردها. بذلك حتى في الدّين “لا أحد يكون عبدا إلاّ الذي يريد وطالما هو يريد أن يكون كذلك”.[43] إنّ الحريّة الأخلاقيّة هي النّمط الوحيد لخلاص العبيد من الخرافة. وذلك أنّه “لا يوجد أبدا أيّ خلاص للبشر إلاّ في القبول الأشدّ حميميّة بالمبادئ الأخلاقية الأصيلة في نواياهم”.[44] إنّ الأخلاق مقام مناسب تماما للتحرّر من إيمان الخرافة، حيث لا تشترط الكفّارات التي يعوّل عليها أيّ تغيير في وعينا. وحده تغيير وعينا بإمكانه فتح الطريق أمام إيمان استطاع الاستغناء عن أيّ انتظار للمعجزات. ومن يرفض تحرّره بنفسه هو يزاول ضربا مقيتا من “الكفر الأخلاقي”[45] بفكرة الله نفسها التي يحملها في عقله : يكفر بما كُتب في قلبه “بقلم العقل” ويعوّل على ما يُحكى له من الخرافات. ذلك بأنّه لا يمكن لأيّ دين أن يعلّم النّاس أكثر ممّا يكون ممكنا “بالنّسبة إلينا، أي بالنّسبة إلى الاستعمال العمومي لعقلنا”.[46]
وفي عبارات تذكّرنا بما قاله ابن رشد في مستهلّ فصل المقال، ينبّه كانط إلى أنّ “بحثا في الكتاب المقدّس عن ذلك المعنى الذي يكون في تناغم مع أقدس ما يعلّمه العقل، هو ليس فقط مباحا، بل هو بالحري ينبغي أن يُعتبر بمثابة واجب”.[47]
ولكن هل يحقّ لنا فرض دين ما بالقوّة ؟ هل يحقّ لسلطة ما أن تكره النّاس على الدخول في جماعة أخلاقية أو دينية ؟ - إنّ إجابة كانط هي التّالية: “ويلٌ للمشرّع الذي يريد أن يحقّق بواسطة الإكراه دستوراً موجّها نحو الغايات الأخلاقية!”[48] على الدولة أن تترك المواطن حرّا تماما في أن يدخل أو لا يدخل في اتحاد أخلاقي مع غيره.
ينبغي التّمييز بين مشرّع الجماعة الحقوقيّة ومشرّع الجماعة الأخلاقيّة: في السياسة يكون الجمهور هو ذاته واضع الدساتير؛ أمّا في الجماعة الأخلاقيّة فإنّ الشّعب لا يحق له أن يضع المبادئ الأخلاقية.[49] إنّ فكرة الله في عقولنا هي وحدها يحقّ لها أن تشرّع للجماعة الأخلاقيّة، ولا يمكن تصوّر جماعة أخلاقية “إلاّ بوصفها شعبا تحت أوامر إلهية… وبلا ريب طبقا لقوانين الفضيلة”[50] وليس شيئا آخر.
وحين تكون القوانين الحقوقيّة شرعيّة فإنّ مراعاتها هو “أمر إلهي”. ولذلك حين تتمّ معارضة قانون مدني غير مخالف للأخلاق بقانون آخر، “مأخوذ بوصفه إلهيا”، فإنّ علينا أن نحكم على هذا القانون الأخير بوصفه قانونا “منحولا”.[51] فإنّ الجماعة الأخلاقيّة هي غير مرئيّة بالضرورة، من أجل أنّها تتعلق بتشريع باطني. وهي فكرة رائعة لكنّها حين تقع بين أيدي البشر، أي حين تصبح “مؤسّسة”،[52] هي تفقد من أصالتها وتتحوّل إلى سياسة خرافة.
من أجل ذلك لا ينبغي أن يكون الدّين سوى ضرب من الإيمان العقلي الذي لا يحتاج في تصميمه أو قوّته أو صدقيته إلى أيّ ضمان خارجي. الإيمان الدّيني المحض هو “مجرّد إيمان عقلي يمكن تبليغه إلى أيّ كان بغرض الإقناع؛ في حين أنّ إيمانا تاريخيا مؤسّسا على الوقائع فحسب، لا يمكن أن يمدّ تأثيره أبعد ممّا يمكن للأخبار المتعلقة بالقدرة على الحكم على مصداقيته، أن تبلغ إليه تحت ظروف الزّمان والمكان”.[53]
ينبغي علينا أن نميّز في أيّ إيمان بين “دين العبادات” الخاضع إلى “قوانين نظاميّة” ليس لها من صلاحيّة سوى صلاحية أحكامها المفروضة؛ وبين “مفهوم الدّين الخلقي المحض”، النّابع من “حاجة العقل” البشري إلى غاية نهائية لمصير البشر على الأرض. ولكن لأنّ العقل البشري واحد، ولأنّ الجنس البشري واحد، فإنّه لا يمكن لنا التذفكير إلاّ في “إله واحد” وبالتّالي لا يمكن أن يوجد بالنّسبة إلى عقولنا إلاّ “دين واحد”.[54] وهكذا فإنّ كلّ من يقبل الخضوع إلى “قوانين نظامية لهذا الإله” أو ذاك، فإنّ إيمانه لن يكون سوى “إيمان تاريخي” ولن تكون معرفته ممكنة إلاّ “عبر الوحي” المنقول إليه عبر الأجيال. أمّا دين العقل فهو “إيمان عقلي محض” يمكن لأيّ كان أن يبلغ إليه “بواسطة عقلنا الخاص بمجرّده”، وذلك انطلاقا من أنّ “إرادة الله مكتوبة في قلوبنا على نحو أصلي”، وهو أمر يرغب كلّ “دين نظامي”[55] في التغافل عنه.
مرّة واحدة، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل نطرح مسائل الدّين بحثا عن “إجابة كلية صالحة بالنسبة إلى كل إنسان، منظورا إليه بوصفه مجرد إنسان”[56] أم خضوعا لتشريع نظامّي يحرص على الاستمرار التاريخي بأيّ ثمن، ولو كلّفه ذلك التضحية بالمشاعر الدينية نفسها ؟
يذهب كانط إلى أنّ الأجدر بنا، من حيث نحن كائنات حرّة وعاقلة ومريدة ومستقلة في تقرير مصيرها الأخلاقي، هو “أنّ التشريع الخاص بإرادتنا لا يجب أن يكون إلاّ تشريعا خلقيّا فحسب؛ وذلك أنّ التشريع النظامي (الذي يفترض وحيا) لا يمكن أن يكون إلاّ حادثا عرضا، وبما هو تشريع لم يصل إلى كلّ إنسان ولا هو يستطيع أن يصل إليه، هو لن يُعتبَر بالتالي ملزما للناس بعامة”.[57] كلّ معتقد يستمدّ صلاحيته من سنّة أو وقائع أو أحداث سردية بعينها هو ينتهي إلى التحوّل إلى قرية روحية لا ترقى إلى طموحات الجنس البشري في التوفّر على كرامة كونية أمام نفسه. ولذلك فليس من مستقبل لأيّ نوع من دين الوحي سوى النجاح الكوني في ترجمة هذا الوحي إلى وحي عقلي محض في صلب الطبيعة البشرية بما هي كذلك. ولذلك لا يحقّ لأيّ وحي أن يتعالى على الإمكانات الأصلية في العقل البشري، بل فقط عليه أن يقبل الترجمة الرمزية في لغتها بوصفها هي السقف الأخلاقي لدلالتها بالنسبة إلينا.
إنّ الشيء الوحيد الكوني فينا هو عقولنا من حيث ما تعبّر عن ملكات الطبيعة الإنسانية بمجردها. ولذلك لا يمكن لأيّ دين نظامي أن يدّعي الكونية الصحيحة. فكلّ معتقد يتطلّب تشريعا نظاميا هو لا يعبّر إلاّ عن عقيدة محلية أو جزئيّة. وحده الاعتماد على العقل البشري بمجرده يمكن ويحقّ له أن يحثّ بني البشر أجمعين على الخروج من “إيمان الكنائس” الذي لا يتميّز عن الجماعة السياسيّة إلى “إيمان الدّين المحض” الذي لا يمكن أن يأخذ إلاّ شكل الجماعة الأخلاقيّة. عندئذ “علينا نحن أنفسنا أن نحقّق الفكرة العقليّة لهذا النوع من الجماعة”[58] الأخلاقيّة بعيدا عن أيّ “قوانين نظاميّة” تقدّم نفسها على أنّها إلهية، حيث يتمّ “فرض قيد على الجموع بواسطة لوائح كنسيّة، تحت دعوى نفوذ إلهي”.[59] والحال أنّ “هذه القيود الرهبانيّة هي في أساسها أفعال لا تبالي بما هي خلقيّ”[60] بل لا تهدف غالبا إلاّ إلى اغتصاب هيبة ما وسلطة ما على تلك الجموع.
ينبغي تعليم الإنسانيّة أنّه “لا يوجد إلاّ دين (حق) واحد؛ إلاّ أنّه يمكن أن يكون ثمّة ضروب كثيرة من المعتقدات”.[61] ولذلك ينصحنا كانط بألاّ نستعمل عبارة “الدّين” حين نخاطب الجمهور، بل فقط أن نكتفي بالإشارة إلى المعتقد[62] : إنّ الإنسان إمّا يهودي أو مسلم أو مسيحي لكنّه في صميمه لا يعتنق الدّين بحدّ ذاته. بل “نحن نخلع على أغلب النّاس شرفا كبيرا بأن نقول عنهم: هم يعتنقون هذا الدّين أو ذاك، وذلك أنّهم لا يعرفون أيّ دين ولا تهفو أنفسهم لأيّ دين؛ إنّ الإيمان الكنسي النّظامي هو كل ما يفهمونه تحت هذه اللفظة”.[63] كلّ متديّن هو متديّن قرية روحية محدّدة، وليس متخلّقا بإطلاق.
وهكذا فإنّ حرية المعتقد غالبا ما يُساء فهمها: إنّ المضطَهد لا يشكو في الحقيقة من أنّه “مُنع من التمسّك بدينه” بل “لم يُسمح له أن يتّبع إيمان كنيسته على نحو عمومي”.[64] وهكذا فإنّ من يسمّى “كافرا” هو في واقع الأمر مجرّد مؤمن مختلف عنا. وليس يصنّف الناس إلى كفّار ومؤمنين مثل “سلفية استبدادية (متوحشة)”.[65] وكل معتقد نظامي يقود في آخر المطاف إلى تصنيف الناس إلى كفار ومؤمنين.
إنّه لا مخرج من الاستبداد الدّيني إلاّ بالتّنبيه على وجود “مبادئ خلقيّة كونيّة للإيمان”[66] متقاسمة بين العقول كافّة، لن تكون العقائد النظاميّة غير مجرّد “تمثيل رمزي” لها. لكنّ ذلك لا يعني أنّ كانط يدعو إلى محاربة العقائد النظامية. بل على العكس من ذلك هو يقصد إلى العمل الدءوب على تقريب كل دين شعبي من “نظرية خلقية مفهومة للناس كافة” هي وحدها تكون “ذات جدوى”. بل هو لا يتردّد في الدفاع عن أيّ إيمان شعبي بأنّه شيء لا يجب التلاعب به قائلا: “إنّه ليس من الفطنة القضاء عليه لأنّه يمكن أن ينبثق من ذلك إلحادٌ أشدّ خطرا على الدولة”.[67]
ولذلك نجد أنّ كانط يثني على جميع الأديان التي نعرفها بقدر ما تتأوّل العقائد الإيمانية “من أجل غايات حسنة وضروريّة بالنّسبة إلى كل النّاس”.[68] وفي هذا الصّدد بالذّات يأتي كلام جميل لكانط عن الإسلام، حيث يقول: “إنّ المحمّديين إنّما يعرفون… كيف يمنحون وصفَ فردوسهم، المرسوم بكلّ شهوة حسية، معنى روحيّاً جدّا حقّا”.[69] وذلك أمرٌ مطلوب أخلاقيا ويمكن أن يحدث، حسب كانط، “من دون أن نصدم كثيرا مرة أخرى المعنى الحرفي للإيمان الشعبي”، لأنّ القصد الكبير ليس نقد الدّين أو هدمه بل فقط بيان “الاستعداد للدّين الخلقي المطمور في صلب العقل البشري”.[70]
لا يعني تأويل الكتاب المقدّس بشكل خلقيّ العثور على المعنى الوحيد المقصود من قبله، بل فقط فتح المجال أمام “إمكانيّة أن نفهمه على هذا النحو”، وذلك أنّ الغاية الأخيرة من الكتب المقدّسة ليس أكثر من “تحسين بني الإنسان وجعلهم أفضل حالا”؛ وهذا الأمر لا يتمّ بشكل تاريخي، لأنّ الإيمان التّاريخي هو “ميّت في ذات نفسه” لأنّه مجرّد “شهادة” على الإيمان، قد يقوم بها أيّ إنسان من دون أيّ جهد أخلاقي يُذكر.[71] إنّ معرفة الكتاب المقدّس ضروريّة جدّا من أجل تأويله بشكل صحيح؛ لكنّ الدّين العقلي المحض هو الطرف الوحيد الذي يمكن أن يقدّم تأويلا مناسبا للطبيعة البشريّة بعامّة، ومن ثمّ هو يصلح بشكل حقيقي للنّاس كافة. ولذلك فإنّ حريّة المعتقد لا تكفي كي يقوم هناك فهم أخلاقي حقيقي للدين؛ بل إنّ “حرية التفكير العمومية” هي الضمان الأكبر لإصلاح أيّ استعمال غير مفيد لعقولنا في مسائل الدّين. وهذه الحريّة هي مبررة تماما ليس فقط للفلاسفة بل حتى لعلماء الدين أنفسهم حتى يكونوا دوما منفتحين على الرأي الأفضل في فهم أي مسألة ويمكن عندئذ “أن يعوّلوا على ثقة الجماعة في قرارهم”.[72]
من أجل ذلك يفترض كانط أنّ كلّ خطوة يخطوها النّاس من الإيمان الكنسي والدّين النّظامي إلى الإيمان العقلي المحض هي ليست حيادا عن الدّين الحقّ بقدر ما هي خطوة تقرّب النّفوس أكثر فأكثر من ملكوت الله في الأرض[73]، أي من الجماعة الأخلاقيّة المنشودة وإن كانت محكوما عليها بأن تبقى دوما جماعة غير مرئية، لأنّه لا يسعها إلاّ العقل بعامة، ولا تطيقها أيّة عقيدة نظامية بعينها. وإنّ الشعار الحقيقي لهكذا جماعة أخلاقيّة تحت لواء الإيمان العقلي المحض هو فقط “كونيتها”. لكنّ الكونية ليست معطى كسولا للعقول، بل هي ضرب عال ورائع من النضال من أجل ضرب مخصوص من الإيمان المحض يسمّيه كانط تسمية رشيقة، هي “الإيمان الحرّ”، حيث يقول:
“إنّ إيمان الشعائر هو إيمان السُخرة والأجر (إيمان المرتزقة، الذليل)، ولا يمكن أن يُنظر إليه بوصفه إيماناً مخلّصا، لأنّه ليس خلقيّا. وذلك أنّ الإيمان المخلّص ينبغي أن يكون إيماناً حرّا، مؤسّسا على نوايا من القلب خالصة (فهو إيمان الحرّ)”.[74]
لا يعني الإيمان الحرّ رفضا لأيّ معتقد بعينه. لأنّه يقع عقلاً ما وراء الإيمان والكفر بهذا الدّين أو ذاك. إنّ الإيمان الحرّ لا يحتاج إلى أيّ طقوس حتى يقنع رجال الدين النظامي بجدارته. إنّه يحمل الله في قلبه بوصفه فكرة الخير القصوى الممكنة لنا، والمشرّع الخلقي الباطني النّهائي لضمائرنا، نحن الكائنات المتناهية، على الأرض. ولذلك فإنّ عديد المناسك “هي (على مشقتها) لا تمتلك أيّة قيمة خلقية”.[75]
أن نؤمن بشكل حرّ يعني أن نؤمن كالإنسان الحرّ وليس كالمرتزق، أي مثل طلاّب النّعيم الأخروي بالتملّق المنظّم للشعائر. وكانط يؤكّد بشكل حادّ على هذه الفكرة: إنّ العقائد النظاميّة هي كلها قائمة على مجاز تجاري فظيع، بحيث لا يُفهم غالبا من “الرّحمة” الإلهيّة غير “النعمة” التي تمنحها لهم (die Gnade مصطلح يعني تحت قلم كانط “الرّحمة” و“النّعمة” في نفس الوقت )، ومن ثمّ يضيع الفرق بين “الخدمة” و“العبادة” على نحو مخجل ( der Dienst مصطلح يعني لدى كانط “الخدمة” و“العبادة” في نفس الوقت )، إلى حدّ أنّ اللغات الغربية لا تفرق بينهما إلاّ بتنبيه خاص.
وإنّ أبرز تعبير عن حريّة الإيمان كونه لا يتمّ من أجل أيّ غاية أخرى غير ذاته. أن يؤمن المرء بشكل حر لا يعني سوى “أن يغيّر حياته إلى حياة جديدة مطابقة لواجبه”.[76] الإيمان الحرّ ليس “إيمان كفّارة”،[77] لأنّه لا يمكن التّكفير عن الذّنب بأيّ نوع من الطقوس. إنّ العقل وحده يمكن أن يحرّرنا من أيّ شعور بالذّنب. وذلك لأنّه ليس ثمّة واجب على الأرض أقدس من سيرة حسنة وفقا لقوانين الحريّة. وهو موقف لا نحصل عليه بالقيود الرهبانيّة المسرفة بلا جدوى، بل باستعمال حريتنا وطبيعتنا البشريّة بشكل مناسب، أي بالاعتماد على “جملة القوّة التأمّلية لعقلنا”[78] بمجرده.
لطالما عانى البشر من فقدانهم لنموذج أعلى يعتمدون عليه في خلاصهم. وهم قد بحثوا عنه في كلّ مكان، إلاّ في أنفسهم. وقد آن الأوان ليفهم الإنسان أنّ هذا النّموذج ليس سوى فكرة “الإنسانيّة التي يرضى عنها الله” نفسها، وحسب كانط فإنّ فكرة “ابن الله” المسيحيّة تستجيب بوجه ما إلى هذا الشّرط الأخلاقي.[79] إنّ القبول بإمكانيّة وجود إنسانيّة يرضى عنها الله هي فكرة عقليّة تشير إلى إيمان عقلي صرف، وليس إلى معتقد بعينه. ومن ثمّ لا يتعلّق الأمر بمسألة “نعمة” بل بمسألة “سيرة”.[80]
وكلّ من يواصل اختزال الدّين في إقامة الشّعائر ينبغي أن يعلم الأصل السّياسي لكلّ ضرب من الطاعة في مسائل الآخرة. فإنّ “أداء الشعائر” هو عقيدة نظاميّة “قد تمّ إدخالها بهدف مصالحة الشّعب مع السّماء، وإبعاد البلاء عن الدولة”.[81] ما وقع هو نقل مصدر الدّيون من الأرض إلى السّماء. وصار الإيمان تجارة أخرويّة قائمة على تسديد الدّيون التي لا يمكن أن يقع تسديدها أبدا، لأنّها تتعلق بوجودنا بما هو كذلك. ومن ثمّ لا حلّ سوى معاملة الدّيون على أنّها نعمة إلهيّة تقتضي منّا الطاعة النهائية لسلطة مستبدّة بكرمها.
لكنّ من يختزل الإيمان في تجارة النعم ينتهي لا محالة إلى التضحية بشرف الطبيعة الإنسانيّة وكبرياء العقل البشري، نعني قدرته على التّشريع لنفسه فيما يجب ولا يجب أن يؤمن به بكلّ حريّة. ولذلك يعتبر كانط أنّ الإيمان الحرفي بأنّ الله يفعل بنا ما يشاء هي بمثابة “القفزة المميتة للعقل البشري”.[82] ماذا يبقى من العقل، وهو أقدس المقدّسات على الأرض، بما هو القوة التي تمكّن البشر من معرفة الله نفسه، إذا نحن ألحقناه بسلطة غريبة عن طبيعتنا تعاملنا كمجرّد وسائل لنعمة لا نفقه كنهها؟
إنّ الله يشرّع فينا، ولكن بما فينا من قوة عقلية على التشريع لأنفسنا. وذلك أنّه لا معنى لأيّ ألوهيّة تعطّل “الاستعداد الخلقي فينا، الذي هو الأساس وفي نفس الوقت المؤوّل لكل دين”.[83] ولن يوحّد البشر إلاّ قدرتهم على التّأويل الحرّ لأنفسهم. بل ليس التّاريخ غير مسار يتدرّج من التّوحيد المؤّقت تحت راية هذا المعتقد أو ذاك من أجل تحقيق الخير، إلى ضرب أعلى من التّوحيد النّهائي، حيث “يسود دين العقل آخر المطاف على الكلّ،”حيث يكون الله كل شيء في كلّ شيء".[84]
ولا يكون الله كلّ شيء لأنّه معبود خارجي تُقام له الشعائر، بل لأنّه أنبل فكرة في أفق أنفسنا، ومن ثمّ أكثر الأفكار العقلية حريّة بالنّسبة إلينا. ومتى بلغنا إلى الإيمان الحرّ به بوصفه فكرة حرّة، يختارها الأحرار طواعية بوصفها الشّكل الأقصى من مطابقة حياتهم لواجبهم بناءً على قوانين الحريّة، “عندئذ يزول الفرق المهين بين اللائكيين والقساوسة، فتنبثق المساواة من الحريّة الحقيقية”.85[85] وعندئذ يسقط الفرق الاستبدادي بين عامّة جاهلة وخاصّة عالمة، وكلّ من يواصل التّعويل على معجم الدّين النّظامي الذي يحوّل الدّين إلى كهنوت والشّعب إلى رعيّة محتاجة إلى حماية من خطر الآخرة على الضّمير البشري، هو يؤجّل كلّ تنوير حقيقي من أجل الانتقال نحو عصور الحريّة.
بذلك فإنّ الإيمان الحرّ لا يهدف إلى إبطال دين الشعائر أو دين المعتقدات، بل فقط التعامل معه وكأنّه “إرادة حاكم العالم كما أوحيت إليه عن طريق العقل”.[86] ذلك يعني أنّ الأمر لا يتعلق بالفصل بين الإيمان وعدم الإيمان، بل بتصوّرين مختلفين للوحي: هل هو بضاعة عقديّة متناقلة بشكل وضعي وتاريخي، أم هو وحي العقل المحض، لأنّه أقدس ما يمكن أن يخطر على بال البشر عامّة؟
لا يخلو أيّ وحي من معاني عقليّة صرفة. ولذلك ليس مطلوبا سوى الإنصات إلى ما هو عقلي في كل وحي، وتخريجه بشكل مناسب لطبيعتنا الأخلاقيّة، أي لحريّتنا. إلاّ أنّ هذا موقف جليل، و“لا ينبغي انتظاره من ثورة خارجيّة، تأتي بشكل عاصف وعنيف… وحيث أنّ ما يُقترف من الأخطاء عند تأسيس دستور جديد يوما ما، سوف يتمّ الإبقاء عليه مع الأسف قرونا طويلة، من أجل أنّه لم يعد يمكن تغييره إلاّ عبر ثورة جديدة”.[87]
إنّ الإيمان الحرّ موقف أخلاقي باطني خاصّ بتغيير ما بأنفسنا. ولذلك لا معنى لأيّ عنف ديني عامّة. بين الدّين والعنف لا توجد أيّة رابطة ضروريّة، اللّهمّ إلاّ إذا تحوّل الدّين إلى سياسة والإيمان إلى استبداد روحي. وحدها الدّولة التي تعامل الدّين بوصفه مؤسّسة رسميّة للطّاعة، هي من شأنها أن تحوّل الدّين إلى جهاز عنف قابل للاستعمال بين أو ضد الجموع. لكنّ الدّين ليس مؤسّسة بالضرورة. وحده دين العبادات يقبل هذا النّوع من الاستعمال العمومي. وذلك طالما يستخدم الوحي بوصفه جهازا مفارقا يمتلك المسئولون عنه سلطة رجعيّة لا مشروطة على غيرهم. ولذلك فإنّ رأي الفلسفة هو أنّ الوحي ليس جهازا لأحد؛ بل هو الإمكانيّة الإلهيّة القصوى الكامنة في عقولنا.
وهاهي الأطروحة العالية في تفكير كانط عن الدّين: “إنّه في مبدأ الدّين العقلي المحض، بما هو وحي ربّاني… يحدث باستمرار في البشر كافة، إنّما ينبغي أن يكمن أساسُ هذا الانتقال إلى نظام جديد للأشياء… يأخذ في التحقّق شيئا فشيئا بواسطة إصلاح متدرج، بقدر ما يجب ومن جهة ما يجب أن يكون عملا بشريّا”.88[88]
لا معنى لأيّ ثورة دينيّة طالما أنّها لا تستطيع أن تحدث إلاّ في شكل ثورة خارجيّة، أي في شكل ثورة سياسيّة. والحال أنّ الثّورة على الدولة ليست مشكلا دينيا في شيء؛ إنّها بالأساس مقاومة مدنيّة لنمط فاسد من الشرعيّة لا علاقة لها بأيّ إيمان. معارك الدّول كلّها معارك تتعلّق بالشرعيّة؛ أمّا الجماعة الأخلاقيّة التي ينشدها أيّ إيمان حرّ فهي في جوهرها ثورة روحيّة من أجل انتماء غير مرئي، غير قابل للتّرجمة في أيّ جماعة مدنية إلاّ عرضا.
لذلك ليس “دين العقل الكوني” الذي يصبو إليه كل مؤمن حرّ سوى ضرب من الاستعمال العمومي لحريّتنا وفقا لواجبات أخلاقية نريد لها أن تُعامل بوصفها أوامر إلهية، وبالتالي مقدّسة. أمّا “الدولة الأخلاقية” أي “الدولة الإلهية على الأرض” فهي مطلب بعيد عنّا على نحو لامتناه.89 [89]
إنّ معركة التّنوير الحقيقي هي تلك التي تناضل من أجل مساعدة الإنسانيّة على الانتقال المتدرّج من “الإيمان النظامي” إلى “الإيمان الحر” تحت هدي فكرة “وحدة دين العقل المحض” بين بني البشر، وذلك بناءً على طموح شديد إلى بلورة ملامح “قانون دولي للشعوب، يكون كونيا وصاحب سلطة”90[90] يجمع “الجنس البشري تحت جماعة مشتركة واحدة وفقا لقوانين الفضيلة”،91[91] مثل ذاك الذي تصبو إليه الدّول من أجل تحقيق السّلم العالمية.
ومن ثمّ ليس ثمّة بالضرورة صراع بين الإيمان العقلي والإيمان التّاريخي. لكنّ كلّ إيمان تاريخي مطالب بالانفتاح على أفق الإنسانيّة. وهو ما لا تفعله عديد العقائد إلاّ مضطرّة. وأفضل مثال على ذلك هو المعتقد اليهودي. فإنّ اليهوديّة “قد أقصت الجنس البشري برمّته من جماعتها”.92[92] وإذا كانت المسيحيّة تمتاز بشيء رائع واحد فهو طموحها إلى بناء “كنسية كونية” وذلك “بإدخال دين خلقي محض بدلا عن شعائر قديمة”، قائم على أنّ “الإيمان الجديد غير المرتبط بشرائع الإيمان القديم، ولا بأيّة شرائع عامّة، إنّما ينبغي أن يتضمّن ديناً يكون صالحا للعالم، وليس لشعب وحيد بعينه”.93[93]
لا يصلح من الدّين إلاّ ما يوجبه العقل. ولذلك لا يمكننا أن نقبل من قصّة المسيح إلاّ “تاريخه العمومي”، ثورته وموته، أمّا “تاريخه السرّي… نعني تاريخ انبعاثه وصعوده إلى السّماء،… فلا يمكن أن يُستعمل، من دون المساس بمكانته التاريخيّة، في نطاق دين في حدود مجرد العقل”.94[94]
ذلك بأنّ الاستعمال العمومي للدّين في ظل دولة قانونيّة لا يحتاج في واقع الأمر إلى أكثر ممّا يوجبه العقل من أشكال الإيمان. ولذلك خاصة تحتاج كل عقيدة تاريخيّة إلى علماء دين وإلى “جمهور عالم” يفهمها. أمّا إيمان العقل فهو في غير حاجة إلى أيّ “توثيق، بل هو يبرهن على نفسه بنفسه”.95[95]
وأمّا الشطحات الصوفيّة وكلّ أشكال الترهّب والتعصّب والهوس الدّيني فهي لا تفعل سوى أن تجعل “عددا كبيرا من النّاس دون جدوى لهذا العالم”؛ وأمّا المعجزات المزعومة فهي لم تؤد إلاّ إلى إرهاق “كاهل الشّعوب بقيود ثقيلة تحت تأثير خرافة عمياء”؛ وأمّا السلفيّة أو الأرثوذوكسيّة التي تدّعي احتكار تأويل الكتاب المقدس فهي لا تفعل سوى خلق “تراتبيّة” كاذبة في الفهم وفرضها على “أناس أحرار” ومن ثم فتح الباب أمام الانشقاقات والفتن، وهو بالفعل ما أصاب العالم المسيحي.96[96]
هاهنا أدّى الاستبداد الدّيني إلى معاملة الملوك ومعاقبتهم “مثل الأطفال، بواسطة العصا السحريّة للتّهديد بالخلع من الجماعة، ودفعهم إلى خوض حروب خارجيّة (صليبيّة) للقضاء على شعوب الجزء الآخر من العالم… والكره الدّموي ضد معاصريهم الذين يفكّرون على نحو مغاير، وينتمون إلى نفس المسيحيّة ذاتها التي تدّعي الكونية”.97[97]
إنّ العدوّ الحقيقي ضد فكرة الدّين ليس العقل بل “عقيدة كنسية استبداديّة”.98[98] وذلك أنّه من مصلحة العقل، على المستوى المدني، أن يبقى الدّين صالحا على الصّعيد الأخلاقي. ولذلك لا يتردّد كانط في الدعوة إلى مواصلة استعمال الكتاب المقدّس، وخاصّة “ألاّ نضعف قيمته عبر هجمات غير مفيدة أو عابثة، ولكن أيضا من دون أن نفرض على أيّ بشر الإيمان بذلك بوصفه أمرا مطلوبا للخلاص”.99[99]
أمّا المسؤول الأوّل عن حماية الدّين فهي الدّولة. لكنّ هذه الحماية هي مضاعفة: حماية الكتاب المقدس من تحويله إلى جهاز استبدادي، مسلّط على عقول الناس؛ ولكن أيضا حماية عقول الناس حتى تستطيع أن تؤمن بذلك الكتاب المقدس إيمانا حرّا تماما. ولذلك على الدولة ألاّ تتدخل في مسائل الضمير، لأنّ المعتقد ليس مشكلا قانونيا تابعا للشرعيّة؛ وأن تسمح للبشر بأن يواصلوا “التطوّر الحرّ للاستعدادات الإلهيّة لما هو الأفضل للعالم”100[100] في أنفسهم.
إنّ الخطير في سياسة الدولة ليس عدم دفع الناس إلى تغيير معتقدهم أو تركهم يعتنقون دينهم الموروث، بل في منع المرء من “أن يقول رأيه الدّيني على نحو عمومي”، لأنّ منع التفكير ذاته هو يعني في الحقيقة “منع المرء من أن يفكّر على نحو مغاير لما قامت هي بضبطه”.100[101] لكنّ معركة الإكراه ومنع العقول من التّفكير هي معركة خاسرة دوما. إنّ الدولة في الحقيقة “لا تمنع أحدا من أن يفكّر سرّاً” وبالتالي متى ما سمحت له بذلك “هي لا تمنح أيّة حرية من عندها أبدا”.102[102] وذلك أنّ الذي يريد أن يكون حرّا، لن يمنعه أيّ مانع، إذ أنّ الحريّة هي قدرة عمليّة جذريّة في صلب عقولنا، وليست منّة من أحد. ولذلك لا يفعل الاستبداد في واقع الأمر غير “إعاقة الحرية الخارجية للمعتقد”،[103] في حين أنّ حرية الإيمان الباطنة فهي تظلّ دوما سليمة تماما، ولا يدري أحد متى تنفجر منها حركات متسارعة للحريّة.
أمّا الدولة التي تقوم “بإغراء مشاعر الضمير لدى المحكومين” لئن كانت لا تخجل من الإضرار بالحرية المقدّسة للبشر فهي لا يمكن أن تخلق “مواطنين صالحين إلاّ بصعوبة”.104[104] وليس أكثر مفسدة لحكم ما مثل مواطنة منقوصة تنتهي غالبا إلى التحوّل إلى تملّق عمومي لسلطة لا يؤمن بشرعيتها أحد. وهكذا بدلا من “إعطاء الأفيون (Opium) إلى الضمير”،105[105] على الدولة أن تمتنع عن التدخّل في حرية الضمير، وتركها ملكا خاصا للمواطن الحر. لا ينتج أفيون العقائد المستبدة إلاّ كفّارا جددا.
من أجل ذلك لا يجب أبدا فرض أيّ ضرب من المعتقد على النّاس والطمع في إدخال دين جديد عليهم. كل معتقد هو مجرد “تمثيل رمزي يهدف فقط إلى أكبر إحياء للأمل” في البلوغ يوما ما إلى “ملكوت الرب”.106[106] وهكذا فإنّ كل حروب الأديان حمقاء. وذلك أنّها تدافع عن مجرد تمثيلات رمزية باعتبارها هي “التشييد التام للدولة الإلهية” في حين أنّها لا تتورّع عن الحكم على أعدائها بوصفهم سكان “دولة الجحيم”.107[107] ولكن “من هو الكافر أو غير المؤمن عندئذ”؟ 108[108] من يحتاج إلى “ألاعيب تقوية كسولة”109[109] وإلى “إيمان مشعوذ”110[110] حتّى يكون له رجاء في حياة في المستقبل أم من تعلّقت همّته بتمجيد كوني للربّ بمجرّد “دين السيرة الحسنة”111[111] فحسب؟
أمّا أنسب طريقة لاستعمال الكتب المقدّسة في تخريج الإيمان الحرّ بملكوت الربّ فهي الاستعمال السّردي لها من أجل غايات أخلاقيّة محضة، بوصفها “مثلا أعلى جميلا عن عصر خلقي للعالم منتظَر بالإيمان ومتحقّق بواسطة إدخال الدّين الكوني الحقيقي”، وبالتّالي هي “يمكن أن تأخذ أمام العقل دلالتها الرمزيّة الجيدة”.112[112] وحده دين سردي مناسب لعقولنا يمكن أن يكون “معترفا به على نحو عمومي، نعني يُتواصَل ويُتقاسم على نحو كوني”.113[113] لا ينبغي أن يكون ثمّة أيّ تناقض بين الشيء المقدّس والشّيء الخلقي. ووحده ما هو خلقي يمكن أن يساعد ما هو مقدّس على البلوغ السّردي إلى النّاس وذلك بقدر ما يحرّره من الخرافة ويحوّله إلى قصّة جيّدة عن إمكانيّة التألّه في أنفسنا، تساعد البشر على المرور من إيمان الشعائر إلى إيمان الحرية. وإنّه عندئذ فحسب تكفّ العبادة عن الظهور في مظهر “وعظ” تجاري بالخلاص وتتحوّل “الصلاة العمومية” إلى ضرب من “الاحتفال الإتيقي”.114[114]
كثير من النّاس يعتقدون أنّ الدّين شعور بلغز أو سرّ خفي لا تدركه عقولنا البشريّة. لكنّ “المشاعر ليست معارف”.115[115] وبالتالي هي لا يمكن أن تكشف لنا عن أيّ سرّ لا نعرفه. وعلى العكس من ذلك فإنّ أصل الدّين ليس المشاعر السرّية التي تفرقّ بين الناس بحسب تباين المعتقدات، بل قدرة البشر على استعمال الحرية بشكل كوني في ما يتخطى كل معارفهم النظريّة عن الطبيعة من حولهم. وإنّه من المفيد جدّا في مسائل الدّين أن نعرف أنّ الحرية “ليست سرّا خفيّا، لأنّ معرفتها يمكن أن يتمّ تواصلها وتقاسمها مع أيّ كان” وخاصة أنّها “هي وحدها أيضا الشّيء الذي يقودنا على نحو لا مرد له إلى الأسرار المقدسة”.116[116]
كلّ من يفكّر بطريقة حسنة هو مؤمن بدين العقل. ولا يحتاج إلى أيّ معتقد بعينه حتّى يصبح من محبّي الله والرّاغبين في مرضاته. إنّه “ليس ثمّة واجبات خاصة تجاه الله ضمن دين كوني؛ وذلك أنّ الله لا يمكن أن يتلقى منّا أي شيء؛ فنحن لا نستطيع أن نفعل فيه ولا من أجله”.117[117] ليس مشكل الدين متعلقا بمدى إيماننا بما نظنّ أنّه مقدّس بالنسبة إلينا وحدنا، بل بمدى قابليّة ما نؤمن به لأن يكون مفكّرا فيه بوصفه “يكون أو لا يكون قابلا للتّواصل على نحو كوني”118[118] بين البشر كافة. ولن يقبل أيّ دين أن يصبح دينا كونيا إلاّ بقدر ما يقبل أن يعبّر عن نفسه من خلال مفاهيم العقل، أي بقدر ما يستطيع التّعبير عن نفسه بوصفه “إيمانا حرّا”119[119] مفتوحا أمام أيّ كان. ولذلك فإنّ المعرفة المتبحّرة بالكتاب المقدّس لا تفيد شيئا إذا كان رهانها هو إنتاج أكبر مساحة من الهيمنة على أناس “امتلأت رؤوسهم بالعقائد الإيمانيّة النظاميّة فصارت عديمة الإحساس بدين العقل أو تكاد”.120[120] إنّ رجال الدّين المسيحيين مثلا قد تحوّلوا إلى “موظّفين” كنسيين، يقدّمون أنفسهم على أنّهم “المؤوّلون الوحيدون المخوّلون للكتاب المقدس، بعد أن كانوا اغتصبوا من دين العقل أهليته لأن يكون على الدّوام المؤوّل الأعلى له… وبهذه الطريقة حوّلوا خدمة الكنيسة إلى هيمنة على أعضائها”.121[121] لكنّ الهيمنة لا تنتج في مسائل الدّين سوى “عبادة العبيد”، 122[122] وليس إيمان الأحرار. إنّ عبادة العبيد تحوّل الدّين في كلّ مكان إلى وهم وعبادة الله إلى مجرّد تعاويذ وطلاسم. ومن ثمّ لن ينقذ الدّين الحق من المعتقدات الباطلة سوى “التّنوير الحقيقي، فبذلك فحسب تصبح عبادة الله عبادة حرة”.123[123] ولذلك بقدر ما يخلو الدّين من الحريّة هو يتقهقر من حيث لا يدري إلى براثن “الوثنية”،124[124] حيث يتمّ الاستغناء في آخر المطاف ليس فقط عن “العقل” بل عن “المعرفة بالكتاب المقدّس ذاتها”.125[125]
كيف نرجع إلى الدّين الأصيل قدرته على الحريّة ؟ كيف يمكن “إحياء الرّوح الدينيّة المحضة” ؟ - وحده “الإيمان الحرّ” له “قيمة خلقيّة محضة”، وذلك لأنّه “لا يمكن أن يُغتصب منّا بواسطة أيّ ضرب من التهديد”.126[126] إنّ الفضيلة قبل التقوى، والتقوى ليست بدلا عن الفضيلة، لأنّ القداسة لا معنى لها إذا كانت شيئا غريبا عن طبيعتنا، نضطر إلى الخضوع له. بل إنّ التطلّع إلى القداسة ينمّ عن شجاعة ما. ولذلك وحده الكبرياء يمكن أن يكون مقاما مناسبا للإيمان الحرّ.
قال كانط: “أمّا دين محمّد فهو يتميّز بالكبرياء، إذ بدلا من المعجزات، قد وجد التّأييد الخاص بإيمانه في الانتصارات وفي قهر الشّعوب الأخرى، وطقوس عبادته كلها من نوع شجاع”.127[127]
وعلينا أن نتساءل: إلى أيّ حدّ يمكن لشجاعة ما أن تحافظ على حرّيتها إلى النهاية ؟
وهل ثّمة نضج معيّن ينبغي أن تبلغه الشّعوب حتى تصبح أهلا لحريتها ؟
يقول كانط: “لا يمكن للمرء أن ينضج لهذه الحرّية إذا هو لم يوضع قبلُ في حالة حرية”.128[128]
هذه التّرجمة :
ظهر كتاب إيمانويل كانط الدّين في حدود مجرّد العقل، أو الدّين في حدود العقل بمجرّده،129[129] لأوّل مرة سنة 1793 لدى نيكولوفيوس130[130] في مدينة كونيكسبورغ.131[131] وهو مؤلّف من أربعة أجزاء سمّاها كانط بشكل لافت للنظر “مقاطع” أو “قطعاً” (Stücken)، وكانت معدّة في أصلها إلى أن تُنشر في شكل مقالات في الصحافة. ولم يتمّ ذلك كما خُطّط له.
وكانت “القطعة” (das Stück) الأولى من الكتاب قد نُشرت قبل ذلك وتحت عنوان أصغر هو “حول الشرّ الجذري في الطبيعة الإنسانية”132[132] في كرّاسة أبريل 1792 من المجلة الشهرية البرلينية. ويبدو أنّ كانط كان يعدّ لنشر “مقطوعاته” أو ورقاته حول الدّين في هذه المجلة تباعا إلاّ أنّه تراجع عن ذلك بسبب مشاكل مع الرقابة حول حدود حرية البحث في المسائل الدينية. ومن ثمّ قرّر كانط ضمّ تلك “القطعة” حول الشرّ الجذري إلى ثلاث “قطع” أخرى، حول صراع مبدأ الخير مع الشر، وانتصار مبدأ الخير على الشر، وأخيرا حول العبادة الصحيحة وعلاقة الدين بالكهنوت. وهو ما شكّل “المقاطع” الأربعة من كتاب الدين. ومن ثمّ انتقل كانط من مقاطع عمومية في الصحف إلى مقالات نظرية في كتاب. وفي سنة 1794 ظهرت طبعة ثانية لم ينقص فيها النصّ في شيء بل جاء محمّلا بمجموعة أخرى من الملاحظات الرشيقة حول المسائل الدينية، إلاّ أنّ النصّ في جملته لم يتغيّر تماما، ما خلا بعض التصرّف في التنقيط والرسم. إلاّ أنّ السلطات قد بلغ بها الانزعاج إلى حدّ جرّ كانط إلى الالتزام بعدم العودة إلى نشر أيّ كلام على الدين مجدّدا.
ثمّ توالت طبعات كتاب الدّين ضمن النشرات المتلاحقة لأعمال كان