الصيغة الفعلية لكلمة "اورينت : شرق" تعني "التوجّه إلى مكان أو هدف" سواء باستخدام البوصلة، أو بالميول والأفكار، وكأنّ "الشرق" نقطة للاهتداء (والهداية) وفي هذا اعتراف فيللوجي قديم بأثر الشرق وتحكّمه في توجّه الغرب.
الآن انعكست الآية فالاستشراق يثير حفيظة الكثيرين منّا وأحيانا مقتهم، مع أننا ندين له بأمور جليلة. أهمها كشفه للنقوش الكتابية وعثوره على المخطوطات السائبة. ونفخ الحياة في أمثال الحلاج والقرامطة وشعراء كان قد طمسهم ركام الأزمنة، وما نعرفه اليوم عن حضارات الشرق القديم (موضع التفاخر والتنافخ والعزة الوطنية) اكتشفه أيضا مستشرقون؟
لكن الاستشراق يظلّ محاولة اقتحامية هدفها إخضاع صورة العالم لنظام رؤيته.. فما بُذل في ميدان اللسانيات والأديان المقارنة وتأويل اللقى الأركيولوجية..الخ لم يخرج عن هموم الغرب في البحث عن ذاته.. وشئنا أم أبينا فإنّ كراسي الأستاذية في الجامعات لم تنأى عن هيمنة ثقافة يهو- مسيحية، وعداء مكبوت للعالم الإسلامي.. عداء تأجّج وخمد على إيقاع صدام بدأ مع الحروب الصليبية (1096م) واستفحل مع الاجتياح العثماني لأوروبا وبلوغه أسوار فيينا..إلا أنّ الصدام الفكري والعقائدي تراخى نسبيا منذ انهماك أوروبا بالذهب المتدفّق من أمريكا، وبالحداثة ولم يستيقظ فعليا إلا مع تدفّق الذهب الأسود في صحراء العرب، وهذه صورة مجازية للإيحاء بأنّ العالم الإسلامي لم يكن هدفا بعينه، بل كان جزءا من استشراق كليّ بلغ الهند والصين، وتمدّد في أرجاء المعمورة (1).
وعموما فإن الجهود الكبرى للاستشراق نهضت بالدرجة الأولى على ترجمة المدوّنة التاريخية العربية دون تعريضها لمطرقة نقد راديكالي، يعرّض أسسها لهزّة عنيفة. فمعظم دارسي الإسلام الكبار قبلوا الخطوط العامة دون تمحيص، فدعوة محمد في مكة والهجرة ودولة الخلافة في يثرب والفتوحات السريعة كانت من المسلمات، وكأنّي بهم يقولون : أهل مكة أدرى بشعابها، أمّا نبيّ الإسلام فلم يستقطب نظرهم تماما وظلت الرؤية إليه مضطربة وضبابية.
ولكم يعجب المرء لعدم وجود وثائق مسيحية غربية مبكّرة تتناول الإسلام، الذي يُفترض أنه عبر جبال البيرينيه ووصل جنوب فرنسا حوالي عام 720م، وبغضّ النظر عن بعض الوثائق الهزيلة غير المؤكدة المنسوبة للمطران الإسباني إيزيدور في القرن الثامن، فأول كلام عن محمد ربما يكون في أغنية رولاند في القرن 10 التي تعكس تصوّرا آخرا يعارض ما نعرفه عنه، فالشاعر زجّ محمدا ضمن ثلاثة آلهة وثنية يعبدها المسلمون، وهذا الجهل قد يبدو مبررا إذا عرفنا أن أوروبا في ذلك الزمن الحالك كانت تعيش بدون حساب وتراجم وتقويم وفلك وطب، والدليل أنّ البابا اوربان الثاني دشّن أولى الحروب الصليبية دون أن يعلم شيئا عن الإسلام (2)
ولعل سقوط طليطلة بيد القشتالي ألفونسو عام 1085م مثّل البداية الحقيقية لمعرفة وترجمة الكتب العربية بما فيها القرآن. ورغم هيمنة روح الصدام، فقد نظرت أوروبا القروسطية بنوع من الإعجاب لحضارة المسلمين، تجلت ذروتها في ثوب تتويج الإمبراطور فريدريك الثاني عام 1220م، الذي طرزته الحروف العربية. ناهيك عن أن النخب آنذاك كانت تتباهى بمعرفة اللغة العربية بما فيهم الإمبراطور نفسه. إلا أن النظرة لمحمد اقترنت دائما بالسلبية وترواحت بين تجسيده مرادفا لوحش "رؤيا يوحنا" أو منشقا مهرطقا يستحق الشطر من رأسه لأخمص قدميه كما في "جحيم دانتي“.
وفي تصوري أنّ هذا أمر مفهوم، فكل ديانة تعتبر نفسها طريق الحقيقة والخلاص وخاتمة المطاف، واليهود رغم أنهم يعيشون الآن في كنف عالم مسيحي ما زالوا ينظرون للمسيح كمارق، ويدعون عليه في صلواتهم متمنّين له الخلود في غائط مغلي، ناهيك عن أنه حسب التلموذ "إبن الجندي باتيرا" (تعني: قواد).
وعموما فإن نجاح الأركيولوجيا في تفنيد قصص آباء الكتاب المقدس (قصة الخروج ـ مملكة داوود وسليمان) فتح الباب واسعا للتشكيك بتاريخية الأحداث المؤسسة للأديان، وتدريجيا استطاع باحثون ولاهوتيون كبار من أمثال يرونو باور وشفايتسر وفرنر وديتيرنغ رفع الحصانة عن تاريخية المسيح (وحتى بولس) ووضعه في مرمى النقد، واعتباره جزءا من أدب نسجه الخيال الديني .
لزمن قريب اكتفى الغرب بنقل سيرة محمد كما وردت في كتب الموروث الإسلامي، ففي عام 1860 و 1864 أقدم فيستنفيلد وفايل على ترجمة سيرته للألمانية من مصادرها العربية، وفي منتصف القرن الماضي أصدرها الإسكتلندي منتغمري واط في كتابه (نبي ورجل دولة) وكان أول من طرح علامة استفهام حول تاريخية محمد ومصداقية سيرة ابن إسحق معللا ذلك بعدم قبوله للرواية الشفهية كمصدر لتاريخ مؤكد، إضافة لما تتضمنه السيرة من سرد أسطوري وبناء أدبي قصصي، وهنا أود الإشارة إلى كتاب آخر بعنوان : "جمهرة الأنساب" للألماني كاسكل 1966 الذي تضمن دراسة قيّمة وتحليلا وجداول لشجرة الأنساب العربية. وفيه يرى كاسكل أن هذه "الجمهرة" المنسوبة لمحمد بن بشير الكلبي (توفي عام 763م) لم تذع إلا على يد محمد بن حبيب (توفي عام 860م)بعد أن تعرضت إلى تغيرات مهمة بسبب تحوّل القبائل بين حياة الرعي والاستقرار أو انضمامهم لمعسكرات الجند أو نشوء تحالفات قبلية جديدة امتدت أحيانا لتشمل شرق الجزيرة والعراق وخراسان كما في حالة بكر وربيعة إبان العصر الأموي.. هذه التحوّلات الكبرى أدت حسب كاسكل إلى تشويه الحقائق التاريخية، ومن ثم إعادة إسقاط هذه التشوّهات على ماض شعريّ مُتخيّل. وكلما ازداد اضطراب الروايات ازدادت الحاجة لاختلاق نصوص شبحية إضافية محمولة على أجنحة فانتازيا الشعراء، الذين لا تهمهم حقائق التاريخ بقدر رغبتهم في تصميم الماضي حسب هوى حاضرهم(3) لذلك ليس من الغريب أن نقرأ في الموروث التباسات وسقطات تكشف بسهولة تهافت وأسطرة شجرة الأنساب (4)
السيرة بحسب هانس يانسن:
بداية لا بد من تأكيد أنّ محتوى هذا الخطاب ليس موجها للعامة من ذوي التدين الشعبي ولا للدوغمائيين أو هواة النقل الحرفي للماضي دون إدراك فضائه العقلي والنفسي..فهؤلاء متفقون على معرفة محمد، وكأنهم قابلوه مساء البارحة. فهم يعرفون عنه كل شيء. ليس فقط عن أنصاره ومهاجريه وآل بيته وحروبه، بل يعرفون حتى عن طوافه على زوجاته آخر الليل (وعن أم أيمن التي كانت تتبعه بالماء ليغتسل) وعن همساته في فراش عائشة.
كيف لا؟! وهم يملكون جبالا من المرويّات التي تحكي تفاصيل دعوته وأحاديثه وما سنّه لأمته. لكنهم للأسف يغمضون عيونهم عن بديهية مزلزلة تقول بأن كل ما يعرفونه عنه، وصلهم عن شخص واحد اسمه محمد بن إسحق، وكل ما يلعقونه أتى من مغرفة واحدة اسمها ابن إسحق.
إحدى الصحف الألمانية المعروفة نشرت قبل زمن تقريرا بعنوان ذي مغزى: "محمد والإنجيل وليلى والذئب" يقول كاتبه دان دينر (5):
إن بعض مجتزءات سيرة ابن إسحق تطرح السؤال التالي : كيف كان ممكنا أن تنطلي هذه المجموعة القصصية على باحثي الغرب ولمدة قرن، ولماذا تعاملوا معها كمصدر للتاريخ. أوليس هناك إجماع أكاديمي حول قصة ليلى والذئب (6) والأوديسة والإنجيل. فالأولى لم تعد مصدرا لمعرفة مكنونات عالم الغابة والحيوان (..) وبواسطة الأوديسة لا يمكننا رسم أية خريطة للبحر المتوسط، كما أن الأناجيل ليست مصدرا تاريخيا لمعرفة حياة وممات يسوع ابن الناصرة".
كلام دينر أعلاه جاء بمناسبة حفل تقديم كتاب (محمد) (7) للهولندي هانس يانسن، أستاذ الإسلاميات في جامعة أوترخت الهولندية. يانسن هذا لم يبخل على جمهوره ببعض الدعابة وخفة الدم. فعرضه لسيرة محمد ومقاربتها مع الإنجيل والأوديسة ورفض قبولها كوقائع تاريخية دامغة، كان يمكن أن يمر، إلا أن تشبيهه إياها بقصة ليلى والذئب، قد ترك ابتسامة عريضة على محيّى جمهوره من اللادينين..
ورغم بعض الانتقادات لهزله، احتفظ الكاتب بكثير من الجدّية، ولم يبخس الإسلام ويحط من قيمته. فغرضه الرئيسي تمحور حول عرض سيرة محمد بنفس الآلية التي اتبعتها دراسات التنوير الأوروبي في نقدها للكتاب المقدس بعهديه. وهذا أمر واضح جليّ يلمسه القارئ مع أولى سطور كتابه. لهذا سأقتصر هنا على تناول بعض النقاط المهمة الواردة في مقدمته وترجمتها بتصرف تحاشيا للإسراف أو اجترار التفاصيل المعروفة :
فرواية الإسلام (حسب يانسن) تشبه رواية المسيحية فهي ذات هدف وعظي برداء قصصي. فالأجيال الأولى لم يكن لديها مشكلة مع سرد الحكايا الخيالية. والأجيال اللاحقة لم تعد قادرة على رؤية ذلك الميل الإيماني لأسلافهم، لكنها امتلكت الرغبة لقبول قصصهم وتصديقها. فالموروث الإسلامي قدم محمد بصورة متناقضة : فهو "الأمين" الذي حاز ثقة أنصاره وبنفس الوقت الشخص الذي أثار محيطه (المكي) وعرضه وأنصاره للذم والهجرة..وهذا يتشابه مع قصة ابن الناصرة : حيث زحفت الجموع لسماع مواعظه، ثم استقبلته في أورشليم بحفاوة، وبعد أسبوع تجمعت حول مقر الوالي بيلاطس، وطالبت بصلبه كمثير للشغب؟
وفي نقطة احترازية ينبّه هاينسن إلى أن التشكيك بتاريخية الرموز الدينية لا يُضمر الشرّ. ولن يغيّر في الأمر كثيرا، لأن علماء سوسيولوجيا الأديان أثبتوا أن معظم البشر يقتدون دينيا أو ينقادون لمحيطهم وذويهم وليس للكتب والإصدارات. فحتى لو افترضنا إمكانية إثبات تاريخية يسوع ابن الناصرة، كشخص عاش في فلسطين وصُلب على يد بيلاطس، فهذا ليس دليلا على أنه "الله" حسب توصيف الكنيسة له، والعكس صحيح أيضا فلو أثبتنا أنه لم يعش قط فهذا لا ينفي القيم الإيجابية لعقيدة كنيسته وأثرها على الناس.. أما الأمر في الإسلام فمختلف لأن المسلمين وفقهاءهم يرفضون هذه الحجج..مع أننا أمام نفس القضية..فلو أثبتنا تاريخية محمد فهذا لن يثبت إلهية رسالته. ولو أراد الله إرسال وحيه فبإمكانه أن يُبلغه بطرق شتى، كأن يُوحي لكتّاب السير بوجود نبيّ مُتخيّل (وجود نبيّ غير موجود فعلا) وكل من يتبعه يفوز بالآخرة!.
وهنا وإن بدت أطروحات هاينسن حذرة (وتعكس شعورا ضمنيا بوطأة الوجود الإسلامي في هولندا وربما خشيته من سكين طائشة؟) إلا أنه يؤكد بأن ديانات الوحي في الغرب كالمسيحية واليهودية قد تعرضت لعلمنة طويلة ومستمرة وتطبيع مع الدنيا، مما حدّ من تدخلها في حقائق الحياة، وسهّل الفصل بين الحياة الروحية والدنيوية، لكن الأمر قد تباطأ في العالم الإسلامي لأسباب معقدة إن لم يكن قد بلغ طريقا مسدودا، فالمشكلة الرئيسية للمسلمين كما يراها هاينسن هي عدم قدرتهم على الفصل بين الوحي والتاريخ. !
وكما سلف ذكره فإن معرفتنا بمحمد ترتبط جوهريا برواية ابن إسحق الذي صاغ السيرة في بغداد حوالي 750 م، وهو حسب الموروث من مواليد المدينة (يثرب) وحفيد لمولى يدعى "يسار" يقال أنه من سبي نصارى عين تمر في العراق.
:يقول يانسن
"إن كلّ ما في الموسوعات وكلّ المعارف الأكاديمية والتوصيفات الشائعة التي تناولت حياة محمد، سواء في الغرب أو الشرق وبدون استثناء تعود لإبن إسحق، حتى آيات القرآن التي اعتبرت دليلا على أحداث دارت في حياة محمد، هي فقط كذلك، لأن ابن إسحق أوردها وربطها بمحمد، وبعكسه كان يمكن تأويلها بطريقة أخرى".
ومع ذلك فهذه السيرة لم تُحفظ بنسختها الأصلية، فقد تعرضت لتهذيب ابن هشام (توفي عام 830م) الذي حذف بعض مداخلها، ولحسن الحظ فإن بعض الكتاب (مثل الطبري) قد استشهدوا بها مما حفظها من الضياع، والملاحظ أن ما تم حذفه عند ابن هشام كان بعض الروايات التي تصف معجزات محمد، وحضور الملائكة الدائم، وقد جرى تنظيف تلك الروايات لإسباغ طابع عقلاني على السيرة الأولى. وبالتدريج بدأ الملائكة يغيبون عن حضور المعارك واختفت معجزات محمد. والسبب وراء ذلك كان رغبة متأخرة لخلع رداء من المصداقية على السيرة، وجعلها تبدو وكأنها تاريخا حقيقيا. إذن فمحمد التاريخي هو محمد الذي رسمته "سيرة ابن إسحق" بعد خصم معجزاته من قائمة الحساب.
أيضا فإن هاينسن ينضم إلى أطروحات الماركسي مكسيم رودنسون وباتريسيا كرونا، والتي شككت بوجود مكة كمدينة وعقدة تجارية ومنطلق لتوسع أيديولوجية الإسلام في القرن السابع م، واعتبرت دورها التجاري المزعوم في ذلك الوقت من مملكة الخيال، ويفتقد لأي دليل تاريخي يؤكده. إذن نحن حسب هاينسن أمام أدب ديني اختلقه رواة التاريخ وفي هذا الصدد يقول:
„ لقد اعتمدوا قصصا قصيرة مسرحها مكة والمدينة وبطلها محمد. قصص ذات روابط واهية. بعضها حطام قصصي أو عظات وأمثال، إضافة إلى عديد آخر من الحكايا الغامضة والمبهمة، التي غالبا ما تُفسر على أنها شيء من المعجزة. أحيانا نعثر على خبر تزيّنه التفاصيل، وبعد أن يبلغ الراوي قصده من الخبر، يفتر اهتمامه بأدوار أبطاله فيختم روايته على شكل برقية سريعة، وأحيانا يقطعها بشكل فج..“
ثم يضيف:
"كل معرفتنا عن محمد أتت من منابع للموروث الإسلامي وهذا أمر يستفزّ المؤرخ الناقد، تماما كالحالة مع يسوع. فهل كان محمد موجودا فعلا؟ إذا كان موجودا حقا، فلمَ لم نعثر ولو على إشارة واحدة (تدلّ عليه) من مؤرخ عاصره، سوريا كان أو عراقيا أرمنيا يونانيا أثيوبيا فارسيا عبريا آراميا؟
لحد الآن لم نعثر على خبر عنه (…) لكن صمت المراجع غير الإسلامية برأي الباحثين ليس حجة قوية، فلربما كان هناك نقش أو وثيقة أو كتاب ضاع واختفى أثره، في حين ظلّ محمد في وعي المؤمنين حيا، وفوق الشك مرفوعا. لحد الآن لم تظهر أية نصوص معاصرة له تحكي قصته. كل ما نعرفه عنه مجرد روايات منمقة أورثها لنا المسلمون، هذا ما لدينا بدون زيادة أو نقصان. لكن من منا سيعلم بما تخفيه رمال جزيرة العرب؟.“
بيد أن الكاتب سرعان ما يغيّر فرشاة ألوانه ويؤكد بأن الروايات حتى وإن كانت مخترعة فهي تعكس روح عصرها ووعيه، فابن إسحق لم يختلق كل شيء. لابد أنه عاش وسط موروث حيّ شكّل منطلقا لمنتخباته السردية الذاتية المشكوك فيها، لقد كان قريبا من معسكرات الجند والجهاد، وسامعو قصصه لم يكونوا من طلبة علوم الفقه واللاهوت، بل كانوا كما يُعتقد محاربين ضمن الجيوش الإسلامية (في القرن الهجري الثاني) لهذا كان على القصّاص أن يولي اهتماما بالمضمون الحربي، كتوزيع الغنائم والسبايا وما شابه. ولعله من المثير حقا أن نتخيّل، كيف كانت ستبدو حياة محمد لو أن أخباره وصلتنا عن آخرين غير أولئك الحكواتية من قصّاصي معسكرات الجند .
كلمة أخيرة:
لا شك بأن أطروحات هاينسن صادمة ومستفزّة للقارئ، وقد تبدو للبعض غير عقلانية، فكيف لنا أن نصدق بأن "حقائق" تربت عليها الأجيال هي مجرد أدب ديني، فالرموز الدينية أكثر من رواية نتقصى جذورها، إنها جزء من هوية ووجدان جمعي ولا يهم حقيقة وجودها من عدمه، فقد صُممت لتكون نبراسا يقتدي بها الناس. بيد أن الأمر لم يستفز كاتب السطور، فطرح هاينسن أصبح من طبيعة العقل النقدي المعاصر الباحث عن أدلة حسيّة توثق له الأحداث والأشخاص، خصوصا أننا في عصر يُطلب فيه ذكر وإثبات مصدر المعلومة، وإلا يُتهم ناقلها بعدم الأمانة العلمية. فالزعم بأن أشخاصا ثقاة عدولا نقلوا الرواية شفهيا وبكل أمانة لم يعد يقنع من عرف آلية السرد الأسطوري والبناء القصصي وتكوّن الميثولوجيا وعلم نفس التاريخ، فالتدوين وحده حفظ الذاكرة، وبدونه لما عرفنا شيئا عن سومر وإيبلا، ولاندثرت حكاية مصر القديمة، لقد ثبت بالملموس أن الذاكرة الجمعية كانت عرضة لانقطاعات بسبب الكوارث والأوبئة والحروب، فإسماعيلو الهند لا يعرفون متى وصلوها وكيف، ولم يملكوا تقويما لتزمين الأحداث وحفظ حكايتهم، والقرآن لم يترك لنا تأريخا وكرونولوجيا بل وعظا قصصيا عن أحداث وشخصيات بدت وكأنها قبيلة حجازية مقدسة متاخمة لعصر محمد..ربما يتحامل بعض النقاد إلا أن أسئلتهم لا تقود إلى المعرفة بل إلى استعادة التساؤل (وتنفيس الدوغما من غازاتها واحتقاناتها) فالرموز الكبرى لم تترك مذكرات ويوميات كما فعل تشرشل وجوكوف. لقد اختفى المسيح دون أن يترك كتابا (وتبخرت والدته أيضا وصعدت إلى السماء كما تزعم الدوغما) ما وصلنا عنه كان أناجيل من أزمنة لاحقة كتبها آخرون لم يروه قط. وهذا ما حدث مع محمد فهو لم يخط لنا سطرا واحدا، وما وصلنا عنه أتى من أزمنة أخرى ومن رجال قاموا بتلقيمه ما ناسب زمنهم وأحلامهم وشهوتهم.
في لحظات وداعه الأخيرة يخبرنا الموروث أن عزرائيل استأذن خجلا عند دخوله حجرة عائشة، وقابله على إنفراد، وخيّره بين حياة أبدية يملك فيها خزائن الأرض، وبين ملاقاة وجه ربه، فاختار الثانية فقبضه.. هذه الروايات الإيمانية لم يكتبها محمد ولم يُملها على أحد، فلماذا على هاينسن تصديقها؟!
الهوامش:
1- في عصر نابليون (1814) كان الغرب يسيطر على حوالي 30% من الكوكب، وبعد الحرب الأولى( 1914) أصبح يهيمن على80% من المعمورة.
2- في خطبة إعلانه الحرب الصليبية، كما نقلها مالمسبري عام 1143م يقول حرفيا "بعد سوريا وأرمينيا وأسيا الصغرى، يبدو أن المسلمين قد احتلوا الآن القدس (المفترض أن البابا يلقي كلمته عام 1096م والمفترض أن المسلمين احتلوا سوريا وبضمنها القدس عام 637م) ومنذ مئتي سنة سيطروا على افريقيا، وهي الجزء الثاني من العالم (أيضا أخطأ قداسته بقرنين، فالعرب وصلوا افريقيا عام 640م) ومنذ ثلاثة قرون سيطروا على اسبانيا والجزر البيلارية، وهم الآن يتطلعون إلى ماتبقى"
3- أحد غرائب دوحة الأنساب ربط نسب محمد بن عبد الله بالجد "فهر" عبر أحد عشر جيلا، بينما أبو عبيدة بن الجراح ( معاصر لمحمد ) فتكفيه سبعة أجيال فقط للوصول لنفس الجد (فهر)؟! هكذا وبسهولة تضيع أربعة أجيال
4- Gamharat Alansab: W. Caskel. BandI P. 19, 31, 35
5- Mohammed, das neue Testament und Rotkنppchen: Dan Diener
Die Welt 30-03-2008
6- Rotkنppchen ليلى والذئب هي ترجمة عربية لقصة أطفال ألمانية من القرن 18 إسمها
7- Mohammed: Der historische Mohammed. was wir über ihn wissen : Hans Jansen 2008