وسن جمال ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 30 معدل التفوق : 70 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 12/03/2012
| | الوجود والماهية بين الذاتية والأصالة عند ابن رشد والملا صدر الدين الشيرازي د.محمد المصباحي جامعة محمد الخامس | |
لقد أفرزت الفلسفة في الحضارة الإسلامية عدة نماذج ميتافيزيقية كبرى بصدد علاقة الماهية بالوجود نخص منها بالذكر ثلاث: النموذج الأول دشنه ابن سينا وتوجه السهروري، وهو نموذج يدافع عن أسبقية الماهية على الوجود وعرضية هذا الأخير عليها؛ والنموذج الثاني يمثله ابن رشد ويقول بذاتية الواحد والوجود للماهية؛ والنموذج الثالث يمثله صدر الدين الشيرازي الذي يذهب إلى القول بأصالة الوجود على الماهية. ويمكن تسمية النموذج الأول بالماهوي لتغليبه الماهية على الوجود؛ والثاني بالأونطولوجي لانحيازه للوجود العام، وجود الموجود بما هو موجود، وقوله لتساوق المتعاليات الثلاثة الوجود والواحد والماهية؛ والثالث بالوجودي العيني لدفاعه عن أصالة الوجود الفردي المشار إليه. ومن المعلوم أن أبا الوليد بن رشد ظل وفيا للأفق الميتافيزيقي الأرسطي حتى في شكل كتابته القائمة أساسا على التفسير وعلى الحفاظ على نظام وترتيب كتاب ما بعد الطبيعة، في مقابل ابن سينا الذي أعلن صراحة عن مشروعه للانفصال عن الأرسطية والخروج من هيمنتها سواء في نظام الكتابة أو نظام البرهان. أما صدر الدين الشيرازي فقد ذهب أبعد من الشيخ الرئيس في عملية الانفلات من الخط المشائي، وفي إعلانه عن مشروعه لصياغة فلسفة أصيلة ومدهشة، استعمل في بنائها أدوات مشائية وإشراقية وكشفية وكلامية في آن واحد. من هنا يبدو أنه من الصعب عقد مقارنة بين الرجلين القاضي والفيلسوف أبو الوليد بن رشد والملا الفيلسوف صدر الدين الشيرازي(1)، فالأول يمثل المشائية بامتياز ولا يسمح بأي تعديل يمكن إدخاله على نظامها، بينما يمثل الثاني أفقا مغايرا للأفق المشائي بل ويعمل في اتجاه مضاد له قولا وعملا ليؤسس نظاما قوليا ودلاليا جديدا؛ مع الأول فشلت الفلسفة في تحقيق لقائها وقربها من التصوف، هذا الفشل الذي حبكه ابن عربي في مشهد واقعي ماكر ورائع، وإن كانت المشاهدات والتجليات التي تمت "من وراء حجاب" تشير إلى استمرار هذا اللقاء ونجاحه بالنسبة لمحي الدين بن عربي؛ أما مع الثاني، صدر الدين، فقد نجح اللقاء بين لغة القلب ولغة العقل، بين عالم الإشارة والخيال وعالم العقل والبرهان، وأثبت مدى ما يمكن أن يجنيه القول الفلسفي من ثمار استكشافية عندما يطل بأدواته العقلية على عالم الوجد والوجدان. لكن، وبالرغم من صعوبة عقد المقارنة بين الرجلين فإننا لآلينا على أنفسنا أن نقوم بتتبع معالم تقاطع وانفصال مواقفهما من المسألة التي اقترحنا التطرق إليها، علّنا نفهم جانبا من خصب وآليات توليد الفلسفات المختلفة داخل فضاء الحضارة الإسلامية. 1) الوجود والماهية بين العطالة والامتلاء: تتصف الماهية لدى ابن رشد بالوحدة والثبات والأزلية. لكننا عندما نتأمل هذا الوصف جيدا نجد أن وسم الماهية بهذه الصفات لم يكن لغرض إثبات فراغها الوجودي وعطالتها الفعلية، بل لغاية التأكيد بأنها تشكل جوهر الوجود. فالماهية هي أداة تحديد، إذ بفضلها ينقسم الجنس إلى أنواع، ويتحصل الشيء موجودا بالفعل. ومعنى ذلك أنه بالنسبة لابن رشد يجب أن توصف الماهية بالوجود. وبحكم التلازم بين الوجود والوحدة وجب كذلك وصف الماهية بالوحدة، لاسيما أنه بفضل هذه الأخيرة تتمكن الماهية من إخراج إمكانها إلى الفعل. وبهذا النحو تصبح الماهية أعلى مرتبة من الوجود، طالما أنها بدت في هذا التحليل علة كل موجود، سواء أخذناها بمعنى بنيته الداخلية أو بمعنى كلمته الفعالة. ونعتقد بأن هذا الموقف الإيجابي من الماهية كان وليد تغليب زاوية الجوهر والفعل في النظر إليها. في مقابل ذلك، أو بالأحرى نتيجة لما سبق سيظهر الوجود عند ابن رشد صفرا من المعنى؛ فهو ليس ذلك المبدأ الممتلئ الذي يخصص ويحقق وجودية الأشياء وفاعليتها المؤثرة مباشرة كما سيقول الملا صدرا، بل إنه على العكس من ذلك مبدأ فارغ من أي معنى، وأنه لا يشرع في اكتساب معانيه إلا عبر تجليه في مقولاته، أو أنه بالأحرى لا يتحقق موجودا بالفعل إلا من خلال الجوهر الحامل للمقولات. إذن الموجود في ذاته غير موجود، وبذلك يكون هو المبدأ السلبي وليس الماهية. وهذه السلبية هي الضامنة لحياد الوجود إزاء وجودية الأشياء الخاصة، ولذلك كان حمله عليها لا يؤثر فيها، فلا يزيد عليها أو ينقص منها شيئا، أي لا يغير من قيمتها أو يضفي عليها معنى جديدا أو يشوش على وجوديتها كما تفعل الماهية، فعندما نقول إن الإنسان موجود فكأننا قلنا إن الإنسان إنسان. ولهذا النحو يكون الوجود أداة وحدة الموجودات، أي أداة اشتراكها في نفس المجال الواحد. أما الملا صدرا الشيرازي فقد نفى عن الماهية كل أثر للوجود والعدم والوحدة والكثرة وما يتبع ذلك من فعل وتأثير، وذلك من أجل إثبات فراغها الأونطولوجي، فقد كان يردد أن "لا قوام للماهية مجردة عن الوجود"(2). ومعنى ذلك أنه لا وجود لماهية واقعية خارج الذهن والواقع معا، وإنما الموجود منها هو الماهية الانتزاعية الذهنية. فالماهية في الأصل عبارة عن بنية عقلية يصطنعها العقل ليحلل بها وجود الشيء الموجود هناك، وليست بنية فعالة أو مقومة أو مفيدة لوجود الأشياء(3). مما قد يعني بأننا ينبغي أن لا نبحث عن معنى للموجودات خارج عن وجودها الخارجي والمباشر. ولما كانت الماهية تتميز بالعطالة والحياد، كان لابد من وجود مبدأ فعال "يخرجها" من حقيقتها "الهيولانية" والعدمية إلى وجودها المشخص والعيني. ولا يمكن أن يكون هذا المبدأ في نظر الملا صدرا إلا الوجود، فكما قلنا "لا وجود لها [الماهية] إلا بالوجود"(4). لكن علينا أن لا نفهم من عبارة "الإخراج إلى الفعل" معناها المشائي أو شبه المشائي الذي يفترض وجود ماهية سابقة على الوجود تنتظر الخروج من قوتها إلى الفعل، بل إنه قبل الوجود لا يوجد شيء. وفي هذا المنظور يصبح "الوجود موجودا بذاته لا بغيره"(5)، أي هو نفسه أداة إيجاده، غير محتاج إلى ماهية أو صورة أو فصل لكي يوجد. هكذا نكون أمام "وجودية مباشرة" تجعل الوجود حاضرا حضورا عينيا في كل أمر من أمور الكون، فهو واحد مع الوحدة، كثير مع الكثرة، وهو عقل مع العقول، جسم مع الأجسام، هذا بالإضافة إلى كونه علة المغايرة في الموجودات(6)، بخلاف الماهية التي هي علة الوحدة بينها. 2) الوجود والماهية بين الذاتية و"العرضية الذاتية"" فضل ابن رشد أن ينظر إلى الوجود والماهية نظرة أونطولوجية وذلك من خلال مقالتي الجيم والزاي من كتاب ما بعد الطبيعة. وبالفعل، فقد تناول الوجود في مقالة الجيم من خلال منظور تقسيمي يقضي بتقسيمه إلى معان عشر، الأمر الذي يعني أن ليس له معنى في ذاته منحاز به. لكن بالرغم من انقسامه إلى مقولاته العشر، فإن هذه الأخيرة ظلت تحتفظ بنوع من الوحدة الدلالية فيما بينها، وهو وحدتها في النسبة إلى دلالة واحدة مركزية بأنحاء مختلفة وبأبعاد متفاوتة، وهي الوحدة التي تسمى بالتشكيك في الاسم. ومقولة الجوهر هي التي تلعب دور الدلالة المركزية، فهي الموضوع الذي تُحمَل عليه باقي المقولات التسع. ومن هذه الجهة يمكن الكلام عن حمل ذاتي للوجود على المقولات، فالوجود يُحمَل حملاً ذاتيا على الأشياء، لكن من خلال مقولة الجوهر. وهذا ما يجعل علاقة التقديم والتأخير قريبة من علاقة الاسم المقول بتواطؤ التي تضمن الحمل الذاتي بامتياز. وبهذه الجهة يصبح الجوهر هو الموجود الحق. وتؤكد مقالة الزاي من كتاب ما بعد الطبيعة هذه الحقيقة. فقد كان موضوع هذه المقالة هو تحليل مقولة الجوهر من منظورين، أحدهما منطقي وهو المنظور الحدي، والآخر طبيعي وهو المنظور التكويني. وكلاهما انتهيا إلى تحويل الجوهر إلى ذات، حيث صار الجوهر فصلا في المنظور الحدي، وصورة في المنظور الطبيعي. وبهذا النحو يتحول ما كان موضوعا في مقالة الجيم إلى ذات في مقالة الزاي، أي لم يعد الجوهر موضوعا للحمل بل صار ذاتا للفعل والصنع ولكن بكيفية محايثة عن طريق الفصل أو الصورة. نخلص مما سبق إلى القول بأن الوجود عند ابن رشد -سواء نظرنا إليه من زاوية التقسيم الدلالي أو من زاوية التحليل الحدي والتكويني- لا يضاف إلى الماهية، بل هو عينه الماهية، أي اللحظة القوية في الوجود. كما نخلص إلى أن الذات ليست شيئا آخر سوى اللحظة الصورية والفعالة للوجود. ومن ثم فالوجود ليس عرضا زائدا على الذات، أي ليس هو الذي يخرجها إلى الفعل ويميزها عن جنسها، بل الذي يفعل ذلك نيابة عنه هو من جهة الصورة والفصل اللذان يميزان الموجود تمييزا نوعيا، ومن جهة ثانية المادة التي تحدث التميز والاختلاف الفردي. هذا يكون الموجود الواقعي عند أبي الوليد بن رشد مؤلفا من صورة ومادة، وليس من وجود وماهية كما يصرح صدر المتألهين. وننتقل إلى تحليل موقف صدر الدين من مسألة العرضية والذاتية. فبحكم ولائه العميق والمتحفظ في آن واحد لاين سينا نجد مؤشرات كثيرة تنتشر في كتاباته توهم بأنه كان يناصر مذهب عرضية الوجود على الذات. فقد كان فيلسوف شيراز يعتبر، على العكس من فيلسوف قرطبة، أن الوجود ممتلئ بالمعنى مختلف عن الماهية مؤثر فيها. كما كان يعتبر، من جهة أخرى، موجودات عالم الكون والفساد تمتلك ماهيات، مما يعني أن أنيتها تتكون من مقوّمين هما الوجود والماهية وأن أحدهما زائد على الآخر. من جهة ثالثة، اضطر الشيرازي، وبحكم ولاء الشيرازي لنظرية الفيض، أن يعترف بأن موجودات عالم الكون والفساد يضاف وجودها إليها من خارجها، أي من واجب الوجود. إن هذه المؤشرات وغيرها من شأنها أن توحي بأن الشيرازي كان من أصحاب عرضية الوجود وزيادته على الماهية، لاسيما وأنه كان يلوّح بها أحيانا(7)، بل إننا نجده أحيانا أخرى يتخذ موقف المدافع عن ابن سينا في هذا الصدد في وجه الذين لم يفهموه جيدا(8). لكن هل هذه المؤشرات تكفي للزعم بأن صدر الدين كان بنحو ما من أنصار عرضية الوجود؟ للإجابة على هذا السؤال علينا أن نتذكر الأسس التي يقوم عليها القول بعرضية الوجود، والتي نعتقد أنها تعود إلى أربعة على الأقل: 1 ) الانطلاق من معنى كلي عام للوجود، لأن الكلي والعام هو القابل للحمل على غيره؛ 2 ) الانطلاق من تقسيم منطقي للوجود إلى واجب وممكن حتى يمكن إثبات أن الممكن موجود بغيره؛ 3 ) الانطلاق من نظرية فيضية للوجود، إذ لما كان الممكن بذاته غير قادر على أن يأتيه الوجود من داخله، فقد وجب أن يأتيه من خارج؛ 4 ) الانطلاق من النظرية الحدية للماهية التي تقتضي عدم دخول الوجود في حد الموجود. نعم وكما قلنا يمكن أن نعثر في متن الشيرازي المترامي الأطراف على آثار هذه الأسس والمبادئ، غير أننا إذا تأملنا الأمر مليا وجدنا أن تلك الأسس تتخذ معاني مختلفة لديه عن المعاني التي وجدت عند فلاسفة الفيض. فقد نفى فيلسوف شيراز عن الوجود أي انتماء لعالم الكليات، فهو ليس جنسا أو نوعا أو حدا أو فصلا أو خاصة(9)، مبعدا إياه بذلك عن عالم الذهن والعقل(10). وبمقتضى انتفاء الطابع الكلي عن الوجود لم يعد من الممكن القول بانقسامه إلى مقولاته العشر طالما أنها أجناس عليا، ولذلك صار من الأجدر أن تعتبر من "أقسام الماهيات دون الموجودات"(11). وكانت الرغبة في إثبات أن الوجود ذو طبيعة بسيطة ومتشخصة، وبأن هذا التشخص هو عين الوجود وراء إقصائه الشامل من عالم الكليات(12). هكذا صار الوجود في هذا المنظور التشخصي العيني مجعولا في ذاته متشخصا بنفسه(13). لذلك إن كان لنا أن نفهم جيدا "وجودية" الشيرازي فعلينا أن لا نقصد مفهوم الوجود بما هو موجود، معتبرين إياه مفهوما عاما يُحمَل على المقولات بوساطة الجوهر، بل أن نقصد الوجود العيني مباشرة الذي لا وساطة فيه. إن الوجود عنده ليس موجودا بغيره، وليس موجودا بذاته، بل هو موجود بوجوده. ومعنى ذلك أن الوجود ليس من الأسماء المشتقة التي تقتضي الازدواجية في الذات، فالأنية ليست موجودة بوجود، بل هي موجودة وكفى، أي أنه حتى عندما نقول بأن الأنية موجودة بوجودها فإننا نعني بذلك أنها ليست محاطة أو مغلقة بوجود محيط بها، بل نعني بذلك أن وجودها هو أنّيتها. لكن إذا كان مفهوم الوجود العيني الخارجي قد مكّن الشيرازي من تلافي القول بعرضية الوجود عيناً، فإن مفهومه المصدري الانتزاعي سمح بتصور إمكان ذلك، بيد أن عرضية الوجود هذه لن تعني سوى "المغايرة في المفهوم"، أي أن زيادته على الذات هي تصورية عقلية فقط(14)، أما "المغايرة في العين" بين الوجود والماهية فهي غير واردة عند الشيرازي(15). ولذلك يمكننا أن نقول بأن عرضية الشيرازي لا تتجاوز عتبة العرضية التصورية العقلية، وإلا فإنه لا يمكن الكلام عن عرضية وجودية حقة بأي حال من الأحوال. الوجود إذن ليس عرضا على الماهية ولا زائدا عليها، ولكنه ذاتي لها. إلا أنه بدلا من أن يستخلص من ذلك ذاتية ومساوقة الماهية للوجود كما فعل ابن رشد، نراه قلب العلاقة المذكورة لتصبح الماهية هي المجعولة بالعرض "وسيتضح لك من طريقتنا... أن الماهية من الأعراض الأولية الذاتية لحقيقة الوجود: (16). وبهذا النحو يكون الشيرازي قد أبعد الماهية من حيز مقالة الزاي من كتاب ما بعد الطبيعة ليجعلها تنتمي لمقالتي الطاء والياء اللتين تنظران في لواحق الموجود بما هو موجود. وهذا الوضع الجديد للماهية جعلها غير قادرة على الوجود والتشخص إلا بالوجود، فبدون الوجود الماهية غير موجودة(17). هذا عن الكلية، أما عن الفيض فقد كان الشيرازي يقول بالصدور أو بالعجل المباشر للوجود الخاص والعيني والجزئي. ومعنى هذا، من جهة، أن المجعول هو "الموجودات المشخصة بذواتها"(1)، لا الماهية. من جهة أخرى، إن الجعل في فعل الفيض عند الشيرازي يتم مباشرة بدون وسيط كالماهية أو الصيرورة أو الوجود بما هو موجود: "إنا نقول ليس المجعول بالذات هو المسمى ماهية، كما ذهب أتباع الرواقيين كالشيخ المقتول ومن تبعه... ولا صيرورة الماهية موجدة، كما اشتهر من المشائين؛ ولا مفهوم للوجود بما هو موجود، كما يراه السيد المدقق، بل الصادر بالذات والمجعول بنفسه في كل ما له جاعل، هو نحو وجوده العيني"(19). هكذا فقدت الماهية دورها التوسطي، بل وحتى عناصرها، كالصورة والفصل، فقد صار "فصل الشيء -عند الشيرازي- هو نحو وجوده "(20)، أي أن "تشخص كل شيء وهذيته إنما يكون بنحو وجوده"(21)، وهذا مصداق قوله بأن الوجود أمر متشخص بذاته كما مر بنا، أي أن الوجود هو الذي يقوم مباشرة بدور الإيجابي والتشخيص. خلاصة القول، إذا نظرنا إلى أشياء عالم الكون والفساد من زاوية الماهية والإمكان، أو إذا نظرنا إليها من زاوية صدروها عن واجب الوجود ومقارنة وجودها مع وجوده، فقد يظهر لنا أن الوجود عارض لها لا محالة، لأنه لا يأتيها من ذاتها بل من غيرها. كما أنه إذا نظرنا إلى الوجود نظرة عقلية لظهر لنا مؤلفا من وجود وماهية وأن الأول عارض الثانية، فـ"ما هو من الأعراض العامة إنما هو الوجود الانتزاعي العقلي المصدري الذي اشتق منه مفهوم الموجود بما هو موجود"(22). لكن لما كان هذا الوجود "المضاف" للأشياء هو وجود شيئي وشخصي، صار من المتعذر أن يكون مغايرا لماهيتها أو مستقلا عنها، لأن الوجود الخاص والمشار إليه لا يمكن أن يكون عرضا عاما ولا مغايرا لماهيته. لقد كانت الوحدة الذاتية بين الماهية والوجود إحدى الثوابت المذهبية لفكر صدر الدين الشيرازي، وكانت مناهضته الشديدة لأي شكل من أشكال عرضية الوجود بمعناه الحق إحدى واجباته الفلسفية. فالوجود هو "نفس ثبوت الماهية" لا ثبوت شيء للماهية"(23)، أي أنه "ليس عرضا بمعنى كونه قائما بالماهية الموجودة"(24)، أو لازما من لوازمها. بل إنه كان يرفض حتى أن تكون علاقة الوجود بالماهية علاقة صورة بمادة: "إن قياس نسبة الموجود إلى الماهية بنسبة العرض إلى الموضوع فاسد... وأن الوجود ليس إلا كون الشيء، لا كون الشيء لشيء كالعرض لموضوعه أو كالصورة لمادتها"(25). أكثر من ذلك، إننا نجده أحيانا يلغي تلك المسافة أو المغايرة بين الوجود والماهية حتى على مستوى الوجود العقلي(26). وبحكم هذه الذاتية المطلقة بين الماهية والوجود فقد كان عليه أن ينسب الضرورة إلى الوجود الممكن(27)، وفي هذا يتفق مع القاضي أبي الوليد. ومن البيّن أن الأمر لا يتعلق بالضرورة الأزلية لأنها خاصة بواجب الوجود، وإنما بالضرورة الواقعية للوجود الممكن التي تعني أن القوة الموجودة في الكائنات لابد أن تخرج إلى الفعل في فرد من الأفراد. في مقابل ذلك، صار الحمل الذاتي للوجود على الماهية أمرا لا معنى له، لأن الوجود موجود بنفسه، ولأنه لا وجود لازدواجية وجودية أو ماهوية للوجود المشار إليه، هذا إلى أن القول بالحمل الذاتي للوجود على الماهية من شأنه أن يؤدي إلى اعتبار كل ماهية متصورة موجودة بالفعل، والحال أنه "ليس كل من تصور ماهية السلطنة سلطانا، ولا من تصور ماهية القهر قهرمانا"(28). وبهذا النحو يمكن القول بأن الشيرازي أنشأ مذهبا فريدا في الوحدة الواقعية الشيئية، لا الوحدة الأونطولوجية العامة بين الوجود والماهية. وإذا كان موقف الشيرازي قد بدا في نهاية الأمر واضحا بالنسبة لذاتية الوجود، فإن موقفه من ذاتية الوحدة ظل مترددا. فأحيانا نجده يتخذ نفس الموقف الذاتي من الوحدة، فهي "غير زائدة على الوجود، وذلك أنه إذا فهمت الإنسان وفهمت الواحد يجب أن يسنح لك أن الإنسان واحد"(29)، لاسيما وأنه "لا ينفك شيء من الموجودات عن الوحدة"(30). غير أننا نجد من جهة أخرى أن الوحدة لا تحظى عند الشيرازي بنفس المرتبة التي يتمتع بها الوجود، ذلك أننا نجده يدرجها -بجانب الكثرة والماهية- ضمن لواحق الوجود أو كما يسميها المفهومات العامة العارضة لمفهوم الوجود بما هو موجود(31)، وأحيانا نجده يستعمل أداة الحد لإخراج الوحدة من حظيرة الماهية لكن مع أخذه الاحتياطات اللازمة: "فبيّن أن الواحدية ليست مقوّمة للإنسان، بل من اللوازم، فتكون الوحدة عارضة له، لكن يجب عليك أن تتأمل فيما أسلفناه من أن كيفية عروض الوجود للماهيات على أي وجه حتى يتبين لك أن كون الوحدة زائدة على الماهيات سبيله ماذا"(32). إذن هناك وحدتان ذاتيتان بين الوجود والماهية، وحدة انطلقت من عطالة الوجود في مقابل امتلاء الماهية، وهي الوحدة التي يقول بها فيلسوف قرطبة وقاضيها، وهناك وحدة ذاتية بين الوجود والماهية انطلقت على العكس من الوحدة السابقة، من امتلاء الوجود وعطالة الماهية، وهي التي يقول بها ملا شيراز وفيلسوفها. الأول كانت نقطة انطلاقه "الموجود بما هو موجود"، والثاني الوجود العيني المشخص. وقد انعكست نزعة الشيرازي العينية للوجود على كثير من المسلمات المعهودة في الفلسفة الإسلامية كتحويل ما كان يسمى ماهية عند ابن رشد إلى وجود مصدري انتزاعي عنده، وكإلغاء الفرق بين وجود الشيء وحقيقته(33). وعلى صعيد نظرية العقل والسعادة انقلبت الموازين إلى درجة صار معها أعلى الشرف وأقصى السعادة واللذة ليس في إدراك الماهيات والمعقولات المفارقة بل الوجودات، ولم يعد إدراكها الأقصى رهينا بالوساطة العقلية، أي بوساطة الكليات، بل صار إدراكها مباشرا بالمشاهدة(34). 3) الوجود بين التشكيك والشمول: وقبل أن ننتقل إلى الفقرة الموالية نرى من الضروري الوقوف قليلا عند مفهوم التشكيك في علاقته بمفهوم الشمول. لقد مر بنا أن الشيرازي وابن رشد يتفقان في القول بأن الوجود مقول بتشكيك، ولكننا عندما نفحص الأمر جيدا نكتشف أنهما يختلفان اختلافا عميقا في فهمهما للدلالة التشكيكية. فبينما ينطلق ابن رشد في فهمه لها من منظور مقولي قائم على مفهوم "الموجود بما هو موجود"، أي على مفهوم عام للوجود يجعله جنسا أعلى أو قريب من الجنس، فإن صدر الدين يوجه مفهومه للتشكيك خاصة نحو الوجود العيني. وهذا هو الذي يجعل الشيرازي يفهم من التشكيك التفاوت في الوجود شدة وضعفا، كمالا ونقصا. هكذا يُخيَّل للمرء أن مراتب الوجود ومقولاته افتقدت بؤرتها المركزية وعلتها الداخلية. ومما يعزز هذا التأويل تأكيده المتكرر على أن "الوجود هو نفس كون الموضوع"، أي أن الوجود غني عن جوهر أو ماهية أو موضوع يُحمل عليه، اللهم إلا إذا تعلق الأمر بتحليل عقلي للوجود قائم على الانتزاع والتجريد، عندئذ يقبل الشيرازي أن تكون الماهية "مادة عقلية لصورة الوجود"(35). من هنا يبدو الشيرازي وكأنه قد تجاوز مبدأ استقلال المقولات، بفضل تلك المرونة السيالة التي أقامها بين الموجودات، مما يجعلها قابلة لأن يتحول بعضها إلى بعض بعد أن صارت علاقة التفاوت والتفاضل بين الوجودات علاقة كمية لا صورية. بعبارة أخرى، من شأن التفاوت في درجة الوجودية بين الموجودات كما قدمها صدر الدين أن يفتح باب التفاعل -الذي أغلقته المشائية- بين المقولات، وبين الجواهر، ويفتح باب التطور داخل الجوهر الواحد نفسه، كالإنسان مثلا الذي ينتقل أثناء نموه من المرحلة النباتية إلى الحيوانية فالإنسانية(36). وهذا يدل على أن علاقة التشكيك لم تعد علاقة ثابت بمتحرك، أي علاقة جوهر بمقولات عرضية، بل علاقة متحرك بمتحرك، فنكون بذلك أقرب إلى الأفق الهيراقليطي منا إلى الأفق البارمينيدي. ويطرح مفهوم التشكيك عند الشيرازي مسألة أخرى تتصل بعلاقته بمفهوم التواطؤ في الاسم. فبالرغم من أن الدلالة التشكيكية تأخذ شيئا من الدلالة التواطؤية فإنها تتلف معها، لأن هذه الأخيرة تحتفظ بنفس الدلالة عند إطلاقها على أشياء متعددة، في حين تتميز الأشياء المشككة بتغاون دلالاتها قربا وبعدا بالنسبة إلى الدلالة المركزية التي يمثلها الجوهر. ومع ذلك فإننا نجد صدر الدين يجمع في اسم الوجود بين الدلالتين التشكيكية والتواطؤية، بين أعم الدلالات وأخصها، فهو من جهة عيني بسيط لا يمت إلى الجنس أو النوع أو الماهية بأية صلة، مما يعني نفي التواطؤ عنه طالما أنه ليس ذاتا كلية؛ لكنه من جهة أخرى نجده يتصف بالشمولية. فالوجود ليس هو الموجودات، ليس لا جوهرا ولا ماهية ولا عرضا، أي ليس غيره، بل له ذات تخصه، ذات ظاهرة بنفسها وظهورها خاص بها(37). لكن بالرغم من انحياز ذات الوجود بنفسه فإنه يظهر غيره، وبإظهاره لغيره يظهر هو من خلالهم. فالوجود يظهر في كل تحقق للموجودات أو الماهيات، أو قل إن الموجودات ليست سوى نسب ذاتية له، وتعينات زمنية لحقيقته. ومن ثم تصح العبارة التي أطلقها الشيرازي: "لو لم يكن الوجود موجودا لم يكن شيء من الأشياء موجودا"(38. هكذا يصبح الوجود علة للوحدة والاختلاف مقتربا بذلك من وحدة الوجود. ذلك أنه أثناء دفاعه عن أصالة الوجود لم يشأ أن يراعي المبدأ البرهاني القائل بضرورة مخالفة مبدأ الشيء لطبيعته الشيء الذي هو مبدأ له. هكذا نجده يقول بصريح العبارة عن الموجودات: "فثبت وتحقق أن المسمى بالمجعول ليس بالحقيقة هوية مباينة لهوية علته الموجدة إياه"(39)، ويقول عن مبدأها "كل وجود سوى الواحد الحق تعالى لمعة من لمعات ذاته ووجه من وجوهه"(40)، بل إنه يذهب إلى القول "ورجعت العلية والإفاضة إلى تطور المبدأ الأول بأطواره وتجليه بأنحاء ظهوراته"(41). وقد كان الشيرازي واعيا بصعوبة إثبات سريان الوجود وبنفس المعنى الواحد في سائر الموجودات، ولذلك نجده يقول بأن كيفية شمول الوجود للموجودات لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، ويعني بهم المتصوفة الذين يستعملون "نَفس الرحمن" للتعبير عن ذلك(42). فالوجود عنده ليس كليا كلية الجنس المنقسم إلى أنواعه، وليس مركبا تركيب الكل المحتوي على أجزائه، وليس شاملا شمولية الاحتواء المادي، وإنما شموله هو كسريان نفَس الرحمن في الكون. 4) الوجود والماهية بين الوحدة والمغايرة: إذا كان سؤال الوجود عند ابن رشد قد قاده إلى تحويل الوجود إلى مقولات تدور حول مركز واحد هو الجوهر، وذلك بفضل المقاربة الدلالية التقسيمية، وسؤال الماهية انتهى به إلى تحويل الجوهر إلى ماهية غبر مقاربة حدية وتكوينية، فإن سؤال العلاقة بين الماهية والموجود، أو بين الجوهر والماهية سيقوده إلى أثبات الوحدة والمغايرة بينهما ولكن من جهتين مختلفتين(43). إن منشأ السؤال الأخير هو ذلك التقابل الذي نلحظه بين الوجود -والوحدة- مع الماهية. ذلك أننا نعرف من ابن رشد ومن المشائية عموما أن مجال الموجود هو مجال الفعل والمادة والحركة والكون والفساد، مجال الكثرة والاختلاف والزمن والصيرورة، في مقابل الوحدة والثبات والأزلية والمفارقة التي هي مجال الماهية. وبحكم هذا التقابل بين صفات الوجود والماهية سيكون من الصعب رد أحدهما إلى الآخر، أو إثبات مساوقة أو اتصال حقيقي بينهما. وقد كان هذا التقابل بين الماهية وذي الماهية -كما أشار ابن رشد نفسه- وراء القول بنظرية المثل الأفلاطونية من جهة، ونظرية فصل الماهية عن الواحد والوجود السينيوية من جهة ثانية. ومع ذلك فقد حاول الفلاسفة أن يبتدعوا أشكالا مختلفة من العلاقات التي يمكن أن تنعقد بين الماهية والوجود. وقد قامت محاولة ابن رشد للخروج من التقابلات المذكورة على أسلوب التوازن بين الوجود والماهية، والذي سماه "بالموقف العادل". ويعتمد هذا الأسلوب على مقاربتين هما "تعديد جهات النظر" إلى المسألة الواحدة، لا التحيز إلى نذهب دون آخر، ثم "تنويع دلالات" الأسماء والمفاهيم المستعملة في معالجة تلك العلاقات وحل صعوباتها، لا النظر إليها نظرة تواطؤ أو اشتراك في الاسم(44). وبفضل هذه المنهجية المزدوجة، القولية والدلالية، أمكنه أن يثبت في نفس الوقت وحدة الماهية بالموجود واختلافها عنه على عدة مستويات. فحينما نظر إلى علاقة الماهية بالموجود من زاوية التركيب، أي بوصفها مركبة من جنس وفصل أو من مادة وصورة، وجد أنها هي نفسها ذو الماهية، وأن هناك مساواة وتطابقا بين أجزاء الموجود وأجزاء الماهية؛ لكنه عندما نظر إلى الماهية من زاوية البساطة، أي حينما نظر إليها في ذاتها من حيث هي صورة فقط، وجد أنها مغايرة للموجود، لأن الصورة هي غير ذي الصورة، إذ أن هذا الأخير يضم، فضلا عن الصورة، المادة ولواحقها من عناصر وأعراض ولواحق وأجزاء كمية من طول وعرض وغير ذلك(45). فمثلا لو نظرنا إلى حد النفس في ذاتها، أي باعتبارها صورة لوجدنا أن حدّها صادق على المتنفس إذا اعتبرنا أن ماهية هذا الأخير هو جزؤه النفسي فقط، أما إذا نظرنا إلى المتنفس ككل، أي باعتباره مكوّنا من نفس وجسم ومن أعراض وغير ذلك، فإن حد النفس سيكون مغايرا لحد المتنفس(46). ويتخذ ابن رشد نفس الموقف العادل والمتوازن إزاء مفهوم المفارقة. عندما نظر إلى علاقة الماهية بالموجود من طريق المفارقة بمعناها الوجودي، الذي يقتضي الانفصال العيني، أنكر أن تكون الماهية مفارقة لذي الماهية، لأن الماهية لا يمكن أن توجد خارج النفس وخارج الجوهر المحسوس معا، بل لابد لها أن تكون ملازمة للموجود ملازمة داخلية(47). أما عندما استعمل المفارقة بمعناها الذهني فإنه لم ير مانعا من أن يثبت مفارقة الماهيات للأشياء، طالما أن الماهيات عبارة عن معقول نظري، أي مبنى مجرد موجود داخل العقل. من هنا يمكن القول أنه لا يوجد عند ابن رشد إلا نوعان من الماهيات: ماهية مقولة ركبها الذهن عن طريق الانتزاع، وهذه مفارقة للأشياء مفارقة عقلية فقط؛ وماهية سارية في الأشياء لا يمكن أن تفارق ذا الماهية. أما النوع الثالث من الماهيات المستقل عن العقل وعن ما له ماهيات والذي نجده عند ابن سينا، فهو غير موجود عند ابن رشد. ومعنى هذا السريان الأونطولوجي للماهية أن هناك تلازما منعكسا بين الوجود والوحدة والماهية. فقد بيّن ابن رشد في أكثر من مناسبة بأن الحد الحقيقي، وهو الذي يخبر بالماهية، لا يمكن أن يكون إلا واحدا، لأن المحدود واحد؛ وفي المقابل لأن ماهية الموجود واحدة وجب أن يكون الموجود موجودا وواحدا(48). من هنا تبدو الوحدة في هذا "التلازم المنعكس" قاسما مشتركا بين الوحدة الماهوية والوحدة الوجودية، أو بين الماهية والوجود، مما يعني أن وجود تلازم ومساوقة ثلاثية بين الوحدة والوجود والماهية. هكذا نلاحظ أن ابن رشد لم يشأ أن يذهب بالتمييز بين الماهية –أو الذات- والوجود إلى المدى الذي يحوّله إلى فصل فعلي بينهما، بل إنه أبى إلا أن يقف عند حدود التمييز الذهني فقط. فالماهية كما قلنا لا يمكن أن تكون خارج الذهن والوجود معا، أي لا يمكن أن تكون منفصلة عن الموجود وعن الوحدة، بل إن الماهية، بجهة ما، هي علة الوجود والوحدة، وهي بجهة أخرى ثمرة الوحدة والوجود. ولعل السبب في ذلك أن أبا الوليد اكتفى باستعمال أداة الدلالة والفصل القولي. ونجد نفس الازدواجية في النظر إلى علاقة الماهية بالوجود عند صدر الدين الشيرازي. فالماهية والوجود في الوجودات العينية هما نفس الشيء الواحد، أي "أن الوجود نفس الماهية عينا"(49). ومن ثم يمكن فصل أحدهما عن الآخر فصلا أونطولوجيا لأن اتحاد الماهية بالوجود كما مر بنا هو تحاد هوية وذاتية، لا اتحاد نسبة وإضافة(50). وهذا يعني أنه إذا كان مستحيلا أن توجد الماهية مستقلة عن الوجود، فإن الوجود بدوره لا يمكن أن يوجد معرى عن الماهية، لكن هذا الانعكاس ليس متكافئا بينهما كما سنرى. ومع ذلك فإننا نجد صدر الدين الشيرازي أحيانا يعطي الماهية نوعا من الوجود الخاص بها هو الوجود العقلي أو الوجود الاعتباري. ومن هذه الزاوية فقط يجيز قيام المغايرة بين الوجود والماهية: "فالوجود عين الماهية خارجا، وغيرها في الذهن"(51)، لأن أمر التحليل العقلي للموجودات قائم على استعمال منطق العلاقة والنسبة والإضافة(52). ونلاحظ أنه بالرغم من اختلاف المسالك سلكها حكيما شيراز وقرطبة فإننا نجدهما يشتركان في القول بالوحدة الذاتية بين الوجود والماهية على مستوى الواقع، وبالمغايرة الذهنية بينهما على صعيد العقل. ولكن بالرغم من هذا الاتفاق الجوهري فإننا نجد عدة اختلافات بينهما أشرنا إلى بعضها سابقا. لقد انتهينا في الفقرة السابقة إلى أن انتصار الشيرازي لذاتية الوجود أو بالأحرى لعينيته أدت في حقيقة الأمر إلى عرضية الماهية. فإذا هذه العرضية أو بالأحرى هذه التبعية مأخذ الجد لانتهينا إلى ضرورة تغير الماهية وصيرورتها. إذ لما كانت الماهية غير متأصلة في الوجود وبالتالي غير مستقلة عنه، وكان هذا الأخير دائم السيلان وجب أن تكون الماهية كذلك قابلة للتحول. من جهة أخرى، لما كانت الماهية هي الوجه الآخر للجوهر، وكان هذا الأخير متغيرا متحركا عند الملا صدرا، فإنه من الواجب أن تكون الماهية هي الأخرى قابلة للحركة والتجدد(53). طبعا إننا لا نعني بذلك أن يصل الأمر إلى درجة انقلاب الماهيات واختلاط الأنواع بشكل لا ضابط له، وإنما نعني بذلك أن الشيرازي لم يكن يعارض فكرة قبول الماهية للتجدد والتفاوت بالشدة والضعف من فرد إلى آخر. هكذا يكون صدر المتألهين قد أخضع الماهية لقانون الوجود، على غرار إخضاعه الجوهر لقانون العرض. فما دام الوجود متحركا متغيرا سيالا فينبغي أن تكون الماهية كذلك. 5) الوجود والماهية بين المساوقة والأصالة: بقيت المسألة الثالثة المتعلقة بعلاقة الماهية بالوجود وهي مسألة التقدم والتأخر، والتي اشتهرت عند صدر الدين بمسألة أصالة الوجود أو الماهية. ونبدأ بابن رشد كما جرت عادتنا بذلك، الذي وقف موقفا عدلا كفل التقدم للوجود والماهية معا، لكن من جهتين مختلفتين. فإذا نظرنا إلى الماهية "في ذاتها" وأخذنا التقدم في معناه الأنطولوجي، فإننا سنجد الماهية تتقدم ككل على الموجود، وتتقدم أجزاؤها الصورية والمادية على أجزاء الموجود، إذا ما أخذنا في الحسبان المبدأ القائل بأن الحد لا يكون إلا للمعنى الكلي وللصورة العامة والخاصة، وليس للمجتمع من المادة والصورة. ويتعزز هذا التقدم الأونطولوجي للماهية ولأجزائها على الموجود بالتقدم الزمني، إذ قبل أن يوجد الفرد تسبقه ماهيته. لكن في مقابل ذلك، حينما ننظر إلى الماهية وهي ملتبسة بالمادة سارية فيها، فإن الأسبقية تعود للموجود على الماهية، ولأجزاء المحدود المادية على أجزاء الحد الكلية، إلا أن هذه الأسبقية ليست سوى أسبقية زمنية لا أونطولوجية، أي من حيث القيمة والشرف. أما بالنسبة لصدر الدين الشيرازي فقد اعترف في كتاب المشاعر بأنه كان في أول أمرع من أنصار تأصل الماهيات واعتبارية الوجود، لكنه تخلى عن هذا الخط السينيوي والإشراقي بعد "هداية من الله"، وهذا ما يشير إليه في مضمار دفاعه عن ابن سينا، والذي يمكن اعتباره انتقادا غير مباشر لابن سينا: "وقال أيضا في التعليقات" فالوجود الذي في الجسم هو موجودية الجسم، لا كحال البياض في كونه أبيض..."، أقول إن أكثر المتأخرين لم يقدروا على تحصيل المراد من هذه العبارة وأمثالها، حيث حملوها على اعتبارية الوجود وأنه ليس أمرا عينيا، وحرفوا الكلم عن مواضعها. وإنني قد كنت في سالف الزمان شديد الذب عن تأصل الماهيات واعتبارية الوجود، حتى هداني ربي وأراني برهانه، فانكشف لي غاية الانكشاف أن الأمر فيها على عكس ما تصوروه وقرروه"(54). ويوضح هذا الأمر المنكشف له بقوله بأن "الموجودات حقائق متأصلة، والماهيات هي الأعيان الثابتة التي ما شمت رائحة الوجود أصلا"(55). وبالفعل، فقد تبين لنا من الفقرات السابقة أن ما هو موجود خارج الذهن هو الوجود، فللوجود الأسبقية على ما عداه الذي يكتسب وجوديته منه. وهذا هو معنى أن تكون الماهية لاحقة للوجود وعارضة له، فهي ليست كما يقول صدر الدين إلا ظلا وخيالا وشبحا للوجود(56). إن الماهية قبل الوجود لا يمكن أن تجري عليها حتى الأحكام المنطقية من ثبوت ونفي، ولذلك فإن الوجود هو الذي يمنحها الكيان الخاص بها(57). وإذا كنا نجد صدر الدين يتكلم كثيرا عن أنحاء الوجود وصوره فإنه لا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن الماهية أو عنصرها الصوري هو الذي يشكل الوجود ويحصله في وجودات مختلفة متغايرة، بل إن الوجود عنده غير محتاج لغيره لإخراج ذاته في هذا النحو أو ذاك، بل إن وجود الشيء هو نحو وجوده. إن الوجود عنده ليس موجودا بغيره، ولا هو موجود بذاته، أقصد بماهيته، وإنما هو موجود بوجوده. هكذا تتخذ أصالة الوجود كل أبعادها: فلها معنى الأسبقية الزمنية، ومعنى الأسبقية العلية، فالوجود هو علة الماهية وليس العكس كما نفهم من كلام ابن رشد. فإذا كان الوجود موجودا بوجوده فإن الماهية موجودة به، ولذلك فهي تابعة له. لكن ليس معنى هذا أن الشيرازي لم يكن يسمح بتقدم الماهية عن الوجود بتاتا، بل إنه كان يجوّز ذلك عندما يتعلق الأمر بالتقدم الذهني، "فمرتبة الوجود متقدمة على مرتبة الماهية في الواقع وإن كانت متأخرة عنها في الذهن"(58)، أي أنه يمكن أن تكون "الماهية هي الأصل في القضايا الذهنية لا الخارجية"(59)، لكن التقدم هاهنا سيكون تقدما بالمعنى والماهية، لا بالوجود. يتضح من القراءة الأولى للمقارنة السريعة التي عقدناها بين الفيلسوفين، القرطبي والشيرازي، أنهما انتهيا معا إلى نفس النتيجة وهي القول بالوحدة الذاتية بين الوجود والماهية، لكننا بمجرد أن نخوض في تفاصيل هذه الوحدة يظهر لنا أن هذا الاتفاق يخفي اختلافا جذريا بين الرجلين يتمثل في تباين أفق النظرة إلى الوجود بينهما. ذلك أن وحدة الأول كانت مشروطة بعطالة الوجود وامتلاء الماهية، على العكس من الشيرازي الذي فضّل أن يملأ الوجود بالمعنى ويفرغ الماهية منه. وتبعا لذلك رأينا كيف كان ابن رشد أميل إلى إعطاء الماهية الأسبقية، لكن دون أن يذهب به الأمر إلى حد إعطائها وضعية الماهية المستقلة عن الذهن والواقع معا كما فعل ابن سينا بالنسبة للنوع الثالث من ماهياته. أما فيلسوف شيراز فقد فضّل أن ينتصر لأصالة الوجود في معناه العيني بكيفية صريحة وثابتة. كما يتضح ببادئ الرأي أن إشكالية الرجلين الدلالية كانت ذات طبيعة واحدة، وهي الطبيعة التشكيكية. غير أننا عندما نفحص الأمر عن كثب يتبين لنا أن ابن رشد مال بالدلالة التشكيكية نحو جانبها الكلي، في حين فضل الشيرازي أن يميل بتنويع دلالات أسماء الفلسفة، وبخاصة اسم الوجود، نحو طابعها المشخص والعيني. فقد ذهب صدر الدين توّا نحو الوجود ليفهمه فهما حرفيا مبعدا إياه من جهة عن العطالة والفراغ، وعن مفهوم "الوجود بما هو موجود"، أي عن المفهوم العام المنقسم إلى المقولات العشر، من جهة أخرى. ومن هنا نفهم لماذا صار التشكيك عنده تشكيك تفاوت في الاشتداد والضعف، لا تشكيك تقديم وتأخير، وهو التشكيك الذي يقتضي وجود علة داخلية للمقولات والأعراض هي الجوهر. وقد تجلت وجودية الشيرازي العينية أيضا في تقريبه الفصل من الوجود أو بالأحرى توحيده(60)، مما أدى إلى جعل الوجود نفسه علة للتفاوت والتعدد بين آحاد الماهية وهوياتها، في حين كان الفصل يلعب هذا الدور بالنسبة لاختلاف الماهيات عند أبي الوليد. ومن المعلوم أن ما كان يميز ابن رشد هو عداؤه السافر والشديد لنظرية الفيض بكل تفرعاتها وتلوناتها المذهبية، بخلاف الشيرازي الذي كان من الأوفياء لها. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف الجذري بين الرجلين فإننا نلفيهما يتفقان في إيلاء الموجودات استقلاليتها الذاتية. إلا أن ابن رشد ضمن استقلالية الموجودات عن طريق الماهية من جهة، ومفهوم "الوجود بما هو موجود" من جهة ثانية، وعن طريق القول بالضرورة الذاتية للأشياء من جهة ثالثة، في حين عمل الشيرازي على ضمان تلك الاستقلالية عن طريق إعطاء الموجودات طبيعة ذاتية مستقلة وضرورية بالرغم من صدورها عن واجب الوجود. هذا، وإذا كان ابن رشد قد تمسك بالمساوقة بين الوجود والواحد، وبالفصل بين الوجود المحايث وهو "الوجود بما هو موجود"، والوجود المتعالي، وجود واجب الوجود، فإننا نجد لدى الشيرازي جرعة قوية من وحدة الوجود. وخلاصة القول أن مشروع ابن رشد كان يرمي إلى تخليص الأرسطية مما شابها من "تشوهات" في طريقها إليه، لكن هذا المشروع انتهى به إلى وضع القول الفلسفي أمام طريق مسدود في نهاية الأمر، عندما أعلن عن أن الحق قد كمُل عند أرسطو. إن رفض ابن رشد مبدأ فتح الفلسفة على الفضائين الكلامي والوفي، بل وعدم اهتمامه باستثمار البعد الأونطولوجي للقرآن، بالرغم من دفاعه عن أخوة الشريعة والحكمة في الرضاعة من الحق، حدَّ من قدرته على المغامرة والإبداع. وبالفعل، فإن تاريخ الفلسفة يخبرنا بأن إخصاب الفلسفة لا يتم دائما من داخلها، بل لابد لها من أجل ذلك من هجران أرضها الأصلية إلى أراض جديدة. وتميز صدر الدين الشيرازي يكمن في كونه استطاع أن يطلق عنانه للنهل من كل المشارب الممكنة، وأن ينجح في أن يفكر على تخوم فكرية وروحية متباينة. لكن قدرته على التّماس بفضاءات فكرية مخالفة بل ومتقابلة لم ينل من قول استقلاله الفلسفي الذي جاء فريدا في نظامه. لقد أجمع الناظرون في فكر الشيرازي بأن أهم إضافة قدمها لتاريخ الفلسفة هي قوله بأصالة الوجود. وقد ذكرنا سابقا بعضا من نتائج هذا القول، ولكننا نعتقد أن من أهم الأفكار الموجودة بالقوة في متنه نتيجة تغير ميزان القوى بين الوجود والماهية، هي أن ما كان ضامنا للثبات في صيرورة الوجود -أي الماهية- صار ثباته عين تجدده، مما ينبئ بشق الطريق نحو إعادة النظر في فكرة كمال الحق. هكذا يكون محمد صدر الدين الشيرازي قد وطأ لفتح باب الاجتهاد والإبداع الفلسفي على مصراعيه، بعد أن أغلقه بجهة ما ابن رشد بفعل عمق ولائه بالأوائل وبرّه بهم | |
|
السبت فبراير 23, 2013 2:11 pm من طرف هرمنا