الموت “الغياب” هو قفا الوجود، لذا يكتب الفلاسفة كثيراً عن الموت، فالموت سهل لدرجة أنهم يعرفونه جيداً، ولكنه أصعب من أن يدركوه. الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا، في حوار نُشر بعد موته، يبرر موت أمه بقول للقديس توما الإكويني: ((في كل موت هناك نهاية للعالم، وإن كل موت هو أوّل وهو فريد وآنٍ. وموت الذين نحبهم، مهما سبقته من موتات أخرى، يظل بالنسبة إلينا موتاً أول)). ويضيف دريدا: ((أنا أبكي مثلما يبكي أطفالي على حافة قبري)). من عبارته هذه نستنتج أنه على الرغم من كتاباته عن الموت وصعوبة إدراكه إلا أن الموت بالنسبة إليه بقي عالماً استثنائياً خاصاً، بحيث يجب أن تُترك لهذا العالم خصوصية وقدسية الحزن الذي يرسله فينا، ذلك الحزن الذي يعيدنا أطفالاً!. يقول دريدا في الحوار نفسه: ((كل كتاباتي عن الموت، فإذا لم أصل إلى المكان الذي أستطيع أن أتصالح فيه مع الموت سأكون قد فشلت. وإذا كان لي هدف واحد فهو أن أتقبل الموت والاحتضار)). البعض تساءل عما يمكن أن يقوله فيلسوف التفكيكية إن أتيح له أن يخبرنا بتجربته مع الموت؟ هذا سؤال بلا معنى طبعاً، فالموت يتوقف عن الوجود بالنسبة إلى الميت، هو موجود فقط بالنسبة إلينا نحن الأحياء.
بدوره يستأنف هيدغر مقولة ديكارت ((أنا أفكر إذاً أنا موجود)) بالقول: ((أنا موجود إذاً أنا إلى زوال)). قد يأتي الزوال فيما بعد، فهيدغر نفسه يقول: ((إن اختيار إمكانيات الوجود لا يتم إلا في ظل الموت، وبالتالي يمكن فقط لحرية محدودة مواجهة لامعكوسية الزمان)). أي أن علينا أولاً أن نعيش الموت، وأن نقبل بخطاب الموت وهو يهيمن على وجودنا، لأن إزالة مفعول الموت هي بالتصالح معه سبيلاً إلى التحرر منه. وكما يُقال إن الإنسان حيوان عاقل أو ناطق، فإن الإنسان أيضاً كائن يموت، وهذا ما يميزه عن الكائنات الأخرى التي تزول وحسب.
وحده الإنسان حوّل الموت إلى منتج ثقافي، ووحده طوّر طقوساً متعددة لـ“الاحتفاء” بالموت. وقد يكون الإنجاز الأهم لخطاب الموت هو اختراع الروح، فثنائية الروح والجسد كانت ضرورية للتغلب على فكرة الزوال، واستبدالها بما يجعل الموت غياباً من جهة الأحياء، بينما يتم تأليف حياة أخرى لأولئك الذين سيغادرون. لم يكتفِ الإنسان بالتناسل، كسبيل للجدل مع الموت، رغم أن الأديان التي أوجدت العالم الآخر شجعت على التناسل أيضاً. هو الخطاب نفسه، فالطقوس الجماعية التي تقام احتفالاً بالزواج هي الوجه الآخر لطقوس الجنازات والمآتم.
***
تمسك بيديّ كالطفل وتقول هامسة: “لا تتركيني سأموت إن ذهبت”.
أقبّلها وأقول: “لن أتركك يا أمي... لا تقلقي” .
ينزع الطبيب الضماد عن الصدر المفتوح الذي أرى من خلاله عظم القفص وهو ينفتح على آخره كلما تنفّست، والقلب يختلج من تحته خلجات سريعة وغير منتظمة. يتفاجأ الطبيب... إن الالتهاب ينتشر بسرعة غريبة، والسكري في ارتفاع إثر الإهمال الذي لقيته من المشفى بعد عملية قلب مفتوح.
يقول الطبيب: “لقد وصل الالتهاب إلى عظم القفص أيضاً، يجب تنظيفه، ساعديني لننتهي بسرعة وإن لم تتحملي المنظر اخرجي ودعي الممرضة تأتي لمساعدتي”
عندها أمسكت أمي بيدي بقوة أكبر وبدأت بالبكاء كالطفل. فقلت في نفسي: “لن أتركك يا أمي لتتعذبي وحدك؟ كيف فكرتِ للحظة بأنني سأتركك؟”
عقمتُ يدي ولبست القفازات المعقمة وبدأت مع الطبيب بتنظيف الجرح الرهيب. كان الطبيب يقطع بالمشرط الأماكن التي يتكاثر عليها الإنتان حول عظم القص، وأنا أنظف بواسطة شاش معقم حول العظم وفوق المعدة الإنتان المقصوص.
كنت أنظر بألم إلى الجسد الذي خرجتُ منه يوماً، أرى ما في داخله وهو في أسوأ حالاته، أرى أعضاءه التي نخرها المرض. كم هو قاس أن نرى جوف الذين نحبهم، وكيف سنقدر فيما بعد على اقتلاع هذه الصور من الذاكرة؟
يقول الطبيب بهدوء: “اضغطي أكثر وأنت تنظفين”.
أضغط على الجرح وعلى العظم بينما الدموع تطفر من عيني وعينيّ أمي. تصرخ أمي صراخاً غير عادي فأقول للطبيب: “احقنها أيها الطبيب، أتوسل إليك إنها لا تتحمل”.
فيهتف الطبيب متضايقاً: لا يمكن لقلبها أن يتحمل المخدر أو المهدئات، إنها تأخذ جرعات مهولة من مضادات الالتهاب، جسمها منهك للغاية بسببه، ووضعها سيء لدرجة أنه لن يسوء أكثر من ذلك.
استدرت برأسي نحو النافذة الكبيرة وأنا أحضن رأسها المنهك وأقول في نفسي: “أية وحشة أن ترحل؟... لا أطيق هذا”.
بعد تضميد الطبيب للجرح الرهيب وخروجه وضعت رأسها على الوسادة، ووقفت أمام النافذة الكبيرة لمشفى المواساة وأنا أمرر بنظراتي فوق معالم منطقة المزة وجبل قاسيون فاستشعرت بالبرد الزمهريري الأبدي المترامي ورائي. استدرت ورأيت الوجه الصغير المصفرّ يرقد على الوسادة، كانت تشدّ شعرها الذي غزاه الشيب بصمت من الألم، أمسكت بيديها وقبلتهما وركعت على ركبتي أمام السرير، كان صوتها واهناً لا يكاد يسمع، وبعد وقت طويل سألت: بصوتٍ باكٍ متشكٍ: “كم الساعة”؟
“إنها التاسعة والنصف”
“يااااااه مازالت التاسعة والنصف متى سيأتي الليل؟”
“لِمَ يا أمي أتريدين شيئاً؟”
“لا... فقط أسأل. إن اليوم أصبح طويل جداً”
ثم استنشقت بصعوبة من خلال علبة الأوكسجين المعلق، وسألت مرة أخرى وفي صوتها نبرة عتاب: “كم الساعة؟”... وطوال الليل والنهار تعيد هذا السؤال. كان وجهها معذباً وعيناها مغمضتين والهواء مكتوم في الغرفة رقم (5) المنعزلة عليَّ وعليها لمنع دخول الجراثيم، والباب والشباك الكبير ينشران وحشة الموت الحقيقية. “...لو تتوقف لحظة واحدة عن شد شعرها، ما أشد الوحشة، ليتها تقول شيئاً بسيطاً إنسانياً، إنها ترى أشخاصاً لا أراهم في الغرفة”
ثم تردد بجهد وفي صوتها نبرة شكوى: “شيرينتي... كم الساعة؟”
“أمي... لِمَ تسألين طوال الوقت؟”
“جميل أن تكوني هنا طوال الوقت، ليتني لا أرى لا أسمع ولا أحس... ليت النهاية قريبة. لكنك تضايقينني، لا تمسكي بيديّ طوال الوقت، يداك ساخنتان. هل تحبينني؟”
“أحبك أكثر من روحي يا أمي”
“إذاً عندما أنام ضعي الوسادة على فمي واخنقيني إن كنت تحبينني أو ارميني من الشباك”
“كفى يا أمي أرجوك كفى”
وأبدأ بالبكاء، أمسك بيديها اللتين أصبحتا مثل الغربال من الحقن المتواصل في كافة الأماكن وأقبلهما، أتمدد بجانبها في الليل وأغني لها أغاني حزينة وأتحدث لها عن الماضي كما تطلب مني، أدلك لها رجليها وهي تغني لي بصوت واهن، ثم نبكي معاً على أيامٍ خلت ومن عذاب مبرح تعيش فيه. في منتصف كل ليلة تُصاب بالحمى فأعطيها حبوباً مهدئة...أغير وضعيتها... أعطيها ماءً بارداً ثم أجلس بالقرب من رأسها حتى الصباح وأنا أغني لها أغاني هادئة وكأنني أصب نَفَساً من حياتي في جسدها الفارغ الخفيف، وقتها عرفت أن الموت سهل... أسهل من هذا النفس الحي في هذا الكيان الذي يتعذب ليل نهار ولا يستكين.
“شيرينتي هل تسمعينني... أنت تشفقين عليّ ستتيتمين مع أخوتك من دوني”
فأبكي وأبكي وأنا أخفي دموعي عنها وأموت في اليوم مائة مرة، لم يعد هناك ما يفرحني، كل الذي كنت أعرفه أن قنوطي وحزني كانا يكبران يوماً بعد يوم.
بعد الإقامة على هذا المنوال لمدة شهر ونصف في المشفى وفي اليوم الأخير لها وقبل أن يأخذوها إلى غرفة العناية المشددة قالت لي :
“شيرين... شيرين... لا أريد أن أرحل إلى هناك”
“أمي لن ترحلي إلى أي مكان ... ستبقين معي إلى آخر العمر وسنشيخ معاً لنستند على بعضنا ونحن نعبر الشارع وسترين أحفادك جميعاً وهم يخرجون إلى النور، هل أنت جائعة يا أمي؟”
“لا أعرف إن كنت جائعة أم لا؟ أنت قرري بدلاً عني، إن قلتِ أنني جائعة فسآكل وإن قلتِ أنني لست جائعة فلن آكل”
يومها لم أتمالك نفسي فبكيت أمامها. ثم تعبتْ كثيراً بعد تغيير الضماد، وضعتها على الكرسي المتحرك وأخذتها إلى غرفة العناية المشددة بيدي. في الساعة الثالثة عصراً توفيت. ركضت على سلالم المشفى حتى الطابق السادس، وأخيراً وقعت عند باب غرفة العناية. كم أننت وصرخت. لقد رحلت أمي أما أنا فودعتها معانقة المساند الحديدية لسلالم المشفى.
فلأكن آخر ابنة تودع أمها هذا الوداع، فلا يدق أحد رأسه بقضبان سلالم المشفى كما فعلت أنا. “قد لا تتحقق هذه الأمنية فلا بأس إن استبدلوا القضبان الحديدية بأخرى خشبية”.
***
يقولون: حالما نولد نبدأ بالعودة. ويقولون: وجد الموت ليعلمنا الحياة.
أتى المعزّون، وقالوا كلماتهم الطيبة. كنت أسمعهم وأقول لنفسي: هي كلمات لا نفع فيها. لكنني الآن أجلس وأكتب ما حدث، وأقلّب فيما قاله فلاسفة عن الموت، باحثةً عن العزاء في الكلمات!.
الإثنين ديسمبر 30, 2013 9:38 am من طرف محمد